"طفلتي ماتت".. باتت هذه الفاجعة التي تتكرر في مستشفيات البرازيل، تشير إلى لغز يحير العلماء، وهو ارتفاع وفيات الأطفال في البرازيل جراء كورونا، بشكل يفجر مخاوف حول المخاطر المجهولة للسلالات البرازيلية التي تبدو أشد ضراوة، ولكنها لم تخضع لدراسات كافية.
ومما يثير حيرة العلماء أنه يفترض أن خطورة فيروس كورونا على الأطفال تعتبر متدنية للغاية على الأطفال، ولكن هذا الافتراض يواجه تحدياً كبيراً في البرازيل.
فعندما انتاب القلق الأم أرياني روك مارينهيرو لإصابة رضيعتها بحمى لا تزول، اصطحبت الطفلة الصغيرة، ليتيشا، إلى المستشفى. كان لدى الأطباء أخبار مقلقة: كانت الطفلة مصابة بكوفيد-19.
لكن الأطباء كانوا مطمئنين، مشيرين إلى أن الأطفال لم تتطور لديهم قط الأعراض الخطيرة للمرض، وذلك حسبما قالت الأم، أرياني.
وبعد أقل من أسبوعين، وتحديداً في 27 فبراير/شباط، ماتت ليتيشا في وحدة الرعاية الحرجة بالمستشفى في مدينة مارينغا جنوب البرازيل، بعد أيام من ضيق وصعوبات في التنفس، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وقالت أرياني، 33 عاماً: "حدث الأمر بسرعة، ورحلت ابنتي عنا. وكانت كل شيء بالنسبة لي".
يستعر مرض كوفيد-19 في البرازيل، وأمام هذا اللغز المحير الجديد يعمل الخبراء على فهمه، لكنه يتسبب على ما يبدو في قتل الرضع والأطفال بمعدل مرتفع على نحو غير اعتيادي.
وأعلنت وزارة الصحة البرازيلية، مساء الأحد، 17 مايو/أيار تسجيل 40941 إصابة و1036 وفاة جديدة بفيروس كورونا المسبب لعدوى "كوفيد-19″، لتتجاوز حصيلة ضحايا الجائحة في البلاد 435 ألف شخص، ويصل العدد الإجمالي للإصابات إلى نحو 15.63 مليون حالة.
وسجلت البرازيل ثاني أكبر حصيلة للوفيات جراء الفيروس في العالم بعد الولايات المتحدة، وثالث أعلى عدد للإصابات بعد الولايات المتحدة والهند، وتواجه في الأسابيع الأخيرة ارتفاعات حادة لكلا المؤشرين.
من الشباب للأطفال.. ماذا يحدث في البرازيل؟
عندما ضرب وباء كورونا البرازيل، في فبراير/شباط 2020، كان يمثل خطراً داهماً على كبار السن، شأنها في ذلك شأن باقي دول العالم، لكن الفيروس تحور وأصبحت سلالة P1 البرازيلية أكثر انتشاراً وأشد فتكاً بالشباب أكثر من كبار السن، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
واليوم يبدو الخطر الذي تم رصده مؤخراً من الفيروس في البرازيل يهدد الأطفال، إضافة للشباب.
فمنذ بداية الجائحة، توفي 832 طفلاً يبلغون من العمر 5 سنوات أو أقل بسبب فيروس كورونا، وفقاً لإحصاءات وزارة الصحة البرازيلية. ويندر وجود بيانات مقارنة في الخارج، نظراً إلى أن البلاد الأخرى تتعقب أثر الفيروس بطريقة مختلفة.
ولكن في الولايات المتحدة، التي لديها عدد سكان أكبر بكثير من البرازيل ومعدلات وفيات بسبب كوفيد-19 أعلى من البرازيل، توفي 139 طفلاً فقط يبلغون من العمر 4 أعوام أو أقل.
مما يزيد من خطورة المشكلة أن الأعداد الرسمية لوفيات الأطفال في البرازيل أقل بكثير من العدد الفعلي، والسبب أن قلة انتشار الاختبارات تعني أن عديداً من حالات وفيات الأطفال لا تُشخص على أنها نتيجة فيروس كورونا، حسبما قالت الدكتورة فاطمة مارينيو، عالمة الأوبئة بجامعة ساو باولو البرازيلية.
الدكتورة فاطمة، التي تقود دراسة تحصي أعداد الوفيات بين الأطفال استناداً إلى كل من الحالات المؤكدة والمشكوك فيها، تقدِّر أن أكثر من 2200 طفل أعمارهم تقل عن 5 سنوات ماتوا منذ بداية الجائحة، بما في ذلك 1600 رضيع أعمارهم أقل من عام واحد.
وقالت: "نرى تأثيراً ضخماً على الأطفال. إنه رقم كبير على نحو مخيف. لم نر ذلك في أي مكان آخر في العالم".
لغز ارتفاع وفيات الأطفال في البرازيل جراء كورونا له تفسيرات متعددة
ويتفق الخبراء في البرازيل وأوروبا والولايات المتحدة على أن أعداد الوفيات بين الأطفال من مرض كوفيد-19 تبدو مرتفعة على نحو خاص في البرازيل، حسب تقرير صحيفة The New York Times.
وقال الدكتور شون أوليري، نائب رئيس لجنة الأمراض المعدية التابعة للأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال واختصاصي أمراض الأطفال المعدية بحرم جامعة كولورادو أنشوتز الطبي: "هذه الأرقام مفاجئة. وذلك أعلى بكثير مما نراه في الولايات المتحدة. باستخدام أي من التدابير التي نتبعها هنا في الولايات المتحدة، تعد هذه الأرقام أعلى بدرجة ما".
ليس هناك أي دليل متاح حول تأثير سلالات الفيروس على الأطفال والرضع، وتجدر الإشارة إلى أن العلماء يقولون إن سلالات الفيروس الجديدة تؤدي إلى إصابات بأعراض أشد لدى الصغار والبالغين الأصحاء وتزيد من أعداد الوفيات في البرازيل، وفقاً للصحيفة الأمريكية.
السلالة البرازيلية تهدد الحوامل وأجنتهم بشكل خاص
الخبراء يقولون إن السلالة بي.1، التي انتشرت انتشاراً كبيراً في البرازيل، تؤدي على ما يبدو إلى معدلات وفاة أكبر بين الحوامل. وقال الدكتور أندريه ريكاردو ريباس فريتاس، عالم الأوبئة في كلية ساو ليوبولدو مانديك في كامبيناس، إن بعض النساء المصابات بكوفيد-19 يلدن أطفالاً ميتين وبعضهن يلدن ولادة مبكرة ويكون الرضع مصابين بالفيروس. وقاد الدكتور ريباس فريتاس دراسة حديثة حول تأثيرات السلالة البرازيلية.
وأضاف: "يمكننا بالفعل التأكيد على أن سلالة بي.1 أشد بكثير على الحوامل. وفي كثير من الأحيان، إذا كانت المرأة الحامل مصابة بالفيروس، فإن الرضيع قد لا ينجو أو قد لا ينجوان معاً".
لا يزال تفسير هذا التحوُّل في تأثير المرض على الأجيال غير واضح خاصة الشباب، على الرغم من أن البعض يشتبه في أن السلالة الجديدة القابلة للانتقال بشكلٍ كبير والمرتبطة بمنطقة الأمازون البرازيلية قد تكون السبب جزئياً في ذلك. وقال ماركوس بولوس، أخصائي الأمراض المعدية من جامعة ساو باولو، والذي يعتقد أن الفيروس ينتشر الآن بشكلٍ أسرع ويصيب الشباب بشكلٍ أقوى: "من الواضح أنه مرتبط بسلالة P1".
ولكن تفسير وفيات الأطفال مازال يحوطه قدر أكبر من الغموض.
هل السبب هو عدم وصول الرعاية الصحية للأطفال في الوقت المناسب؟
قال الخبراء إن الافتقار إلى إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية الكافية في الوقت المناسب بالنسبة للأطفال بمجرد إصابتهم، قد يكون عاملاً في معدلات الوفاة، حسبما تنقل عنهم The New York Times.
وأوضحوا أن العلاج المبكر في الولايات المتحدة وأوروبا كان عاملاً أساسياً في تعافي الأطفال المصابين بالفيروس. فيما قالت الدكتورة فاطمة إن الأطباء المستنزفين في البرازيل يكونون دائماً متأخرين في تأكيد إصابة الأطفال بالعدوى.
وأضافت: "الأطفال لا يخضعون للاختبار. بل يُصرفون، ولا يعودون إلا عندما يصيرون في حالة حرجة للغاية، لدرجة تثير الشكوك حول الإصابة بكوفيد-19".
وقالت الدكتورة لارا شيكرديميان، رئيس قسم الرعاية الحرجة في مستشفى تكساس للأطفال بالولايات المتحدة، إن معدلات الوفيات بين الأطفال الذين يصابون بكوفيد-19 لا تزال منخفضة للغاية، لكن الأطفال الذين يعيشون في بلاد تكون الرعاية الطبية فيها متفاوتة، يكونون في خطر أكبر.
وأضافت: "الطفل الذي ربما يحتاج إلى قليل من الأوكسجين اليوم، قد ينتهي به الحال على جهاز التنفس في الأسبوع القادم إذا لم يكن قادراً على الحصول على الأوكسجين والستيرويد الذي نعطيه مبكراً في وقت المرض".
توصلت دراسة نُشرت في الدورية العلمية لأمراض الأطفال المعدية Pediatric Infectious Disease Journal في يناير/كانون الثاني 2021، إلى أن الأطفال في البرازيل وأربع دول أخرى في أمريكا اللاتينية تطورت لديهم أشكال حادة من مرض كوفيد-19 وكان هناك كثير من الحالات من متلازمة الالتهابات المتعددة، وهي استجابة مناعية شديدة ونادرة تجاه الفيروس، وذلك بالمقارنة مع البيانات الواردة من الصين وأوروبا وأمريكا الشمالية.
وقالت الدكتورة آنا لويزا باتشيكو، اختصاصية أمراض الأطفال المعدية في مؤسسة هيتور فييرا دورادو للطب الاستوائي في ماناوس بشمال البرازيل: "ثمة عقبات أمام وصول كثيرين للرعاية الصحية. يستغرق الأمر بالنسبة لبعض الأطفال 3 أو 4 ساعات بالقارب حتى يصلوا إلى المستشفى".
فشل الحكومة والأزمة الاقتصادية يفاقمان المشكلة
ارتفعت الحالات بين الأطفال ارتفاعاً كبيراً في خضم الانفجار لحالات العدوى في البرازيل، وهو ما ينسبه الخبراء إلى الاستجابة المتعجرفة للجائحة من جانب الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو ورفض الحكومة اتخاذ تدابير صارمة لتعزيز التباعد الاجتماعي.
فضلاً عن أن الاقتصاد المتراجع خلّف ملايين البرازيليين بدون مصدر دخل أو طعام كاف، مما أجبر كثيرين على المجازفة بالإصابة بالفيروس أثناء بحثهم عن العمل.
وقال بولوس إن تطعيم البرازيليين الأكبر سناً يفسِّر جزئياً تزايد نسبة المرضى الأصغر سناً في وحدات العناية المركَّزة. وأضاف: "ليس هناك شكّ في أن الشباب أكثر تأثُّراً، من الناحية الجسدية، بهذه السلالة الجديدة. إنه أمرٌ لا يرقى إليه الشك"، مضيفاً: "في بعض الأحيان يموت هؤلاء الشباب بعد بضع ساعاتٍ أو أيامٍ فقط من الإصابة بأعراضٍ حادة وخطيرة للغاية، ولن تجد أيَّ مرضٍ مشترك أو عاملٍ يفسِّر السبب".
يزداد الأمر سوءًا أن الأطفال بطبيعة الحال لا يتم تطعيمهم، ولكن هذا النهج متبع في كافة دول العالم فلماذا حدث ارتفاع وفيات الأطفال في البرازيل جراء فيروس كورونا دون غيرها من الدول، هل السبب في السلالة البرازيلية أم أن الإهمال الصحي تداخل مع وجود عدد كبير من الأطفال من ذوي الحالات الصحية الضعيفة ليسببان معاً هذه الظاهرة.
ولكن حتى الأطفال الأصحاء يواجهون خطراً متزايداً
كان بعض الأطفال الذين توفوا بسبب الفيروس يعانون بالفعل من مشكلات صحية جعلتهم أكثر تأثراً. لكن الدكتورة فاطمة تقدر نسبتهم بأكثر من الربع بقليل من إجمالي أعداد وفيات الأطفال ممن أعمارهم أقل من 10 سنوات. ويشير ذلك إلى أن الأطفال الأصحاء كذلك يواجهون خطراً كبيراً من الفيروس في البرازيل على ما يبدو، وليس فقط الأطفال الذين يعانون من مشكلات صحية مسبقة.
كانت ليتيشا مارينهيرو واحدة من هؤلاء الأطفال، وذلك بحسب أمها التي أوضحت أنها كانت طفلة سليمة تعلمت المشي لتوها، ولم تصَب بأي مرض من قبل.
وتعتقد أمها أرياني، التي أصيبت مع زوجها دييغو، 39 عاماً، أن ليتيشا كانت ستعيش إذا عولج مرضها بشكل أسرع.
أضافت أرياني: "أظن أنهم لم يعتقدوا أنها قد تمرض مرضاً شديداً، ولم يعتقدوا أنه قد يحدث لأي طفل".
وتذكرت الأم مناشداتها كي تخضع ابنتها لمزيد من الاختبارات. وقالت إنها بعد دخولها المستشفى بأربعة أيام، لم تكن رئتا ليتيشا قد خضعتا لفحص كامل.
وقالت أرياني إنه بينما تستعر الجائحة ترجو الآباء الآخرين ألا يقللوا من خطورة الفيروس الذي أخذ منها ليتيشا. فقد شاهدت في مدينتها العائلات تقيم احتفالات أعياد الميلاد للأطفال والمسؤولين يضغطون من أجل إعادة فتح المدارس.
وأضافت: "الفيروس لا يمكن تفسيره. إنه أشبه بلعب القمار. ولا نصدق أبداً أنه سوف يحدث لنا، إلا عندما يأخذ شخصاً من عائلتك".