"الخضوع.. ولِمَ الخضوع؟ إنه لا يجدي نفعاً، على المرء أن يدفع -في الغالب- غالياً لقاء الحصول على القليل من هذه الحياة، يدفع ذلك مرات ومرات، لذا ما نفع الخضوع".
- الروائي الألماني إريك ماريا ريمارك.
إن الطبيعة البشرية والحضارة الإنسانية بكامل إنتاجاتها المادية والفكرية تسعى إلى الحرية، إذ ترفض الخضوع للواقع، للطبيعة، لقوانين الغاب، لتؤكد على أن "المقاومة" فعل فطري، وموقف طبيعي للإنسان في هذه الحياة. من هنا ينبغي أن ينطلق التأكيد على منطقية المقاومة الفلسطينية للوضع القائم، متخطين النقاش المحسوم مسبقاً بأن إسرائيل امتداد للحقب الاستعمارية، وأن أحد أوجهها -أقصد إسرائيل- بالدعم التي تتلقاه من الغرب، هي محاولة من الرجل الأبيض للتكفير عن خطاياه في حق اليهود.
هل ضربات المقاومة الفلسطينية خاطئة؟
وفقاً للقانون الدولي يحل اللجوء للعنف العشوائي والمنظم لكل من يملكون الحق في استخدام القوة من أجل إنهاء الاحتلال الأجنبي. لعل هذا كافياً للرد على مدعي العقلانية، طلاب فصول السياسة الدولية النجباء، والدبلوماسيين المتشدقين بلغة مائعة كلما جاءت سيرة المقاومة. ويجب التنويه أنه لا يوجد التزام فعلي بالقانون الدولي حتى في زمننا الحاضر، زمن التحرر من الاستعمار. دائماً ما يؤكد أساتذة تاريخ الفكر السياسي أن المجتمع الدولي طرف غير فاعل في أي قضية، ولا يتعدى كونه طرفاً محفزاً. إذ التنظيم والتلاحم الشعبي في أي بقعة في الأرض قادران على فرض نفسهما بفاعلية تدريجياً. ولعل الشاهد على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، أقوى دولة في العالم، التي أجبرتها طالبان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والاعتراف بها ككيان سياسي دولي.
إن ادعاء المنطق الشديد هو ضد المنطق، ما تفعله المقاومة الفلسطينية من قصف وتصريحات هو الجنون المنطقي الواقعي اللازم حالياً. ولو أن الواقع يحكم ويدار بالأرقام والقدرات لكانت المسألة محسومة لصالح إسرائيل بتحالفاتها الأمريكية والخليجية. لكن وبالنظر للتصريحات الإسرائيلية الحالية يمكن القول إنها تتجنب الولوج إلى رمال غزة، لأنها لا تريد حرباً قصيرة لن تحقق أهدافاً سياسية كبيرة، ولأن كلفتها ستكون كبيرة. وأيضاً لاشتعال الجبهة الداخلية بمظاهرات فلسطينيي الداخل المحتل.
يدرك الاحتلال أيضاً أن استخدام العنف الوحشي لفرض وقائع جديدة على الأرض يؤدي إلى نتائج أقل فاعلية. فما نراه اليوم من أحداث هو نتيجة قلة الخيارات لدى الاحتلال لمحو وجود فلسطين.
الكفاح ولا شيء سوى الكفاح هو ما قد يجلب لنا مستقبلاً أفضل، ولْنَدع الاستسلام والانزواء مسألة للنقاش عندما نعبر عتبة السبعين.
إسرائيل هي الوجه الأقبح للحداثة الأوروبية، حيث الاستعمار على الطريقة الكلاسيكية. لذا لا تنظير على المقاومة المسلحة، فلن يتغير الواقع عبر إقناع العالم بقضيتنا ضد الأقوياء، حيث لا تغري القضية الفلسطينية الإعلامي والمثقف الانتهازي. ما تفعله المقاومة هو مراكمة الغضب والقوة بطريقة أكثر فاعلية معتمدة على عامل (لا يوجد ما تخسره)، فهي في عملية تحضير دائم ووجودها في الأساس قائم على الاستعداد لتحمل أقصى الخسائر.
بالانتصار النسبي في القدس وتوجية الصواريخ لتل أبيب وتمرد مدينة اللد، واندلاع مظاهرات في البيرة وحيفا، يلتحم الفلسطينيون رغم الجغرافيا، ليؤكدوا على تأسيس وعي جديد ينحاز لهم، ويؤكد شكوك ومخاوف الاحتلال. بالرغم من دبلوماسية البلطجة الترامبية وإعلان القدس عاصمة لدولة الاحتلال قبل عامين، لم يستطع نتنياهو تهويدها وفرض السيطرة الدينية عليها.
يتغير الواقع بالمقاومة، أي بالعمل المتراكم لعقود، سواء كان عسكرياً أو رصيداً سياسياً شعبياً. إن المقاومة الفلسطينية تشمل وتعبر اليوم عن كل المحرومين والمهمشين والمستغلين في هذا الجزء من العالم، مؤكدين على استمرار الكفاح حتى وإن وُلدوا مهزومين. نحن لا نبشر بحقائق، لكن نبصر الواقع وندرك أن الخضوع لن يغير القدر. الكفاح ولا شيء سوى الكفاح هو ما قد يجلب لنا مستقبلاً أفضل، ولْنَدع الاستسلام والانزواء مسألة للنقاش عندما نعبر عتبة السبعين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.