تمثل ردود الفعل في ألمانيا بشأن عدوان إسرائيل على قطاع غزة حالة خاصة يمكن وصفها بالانفصام بين موقف رسمي داعم بشكل مطلق وغير منطقي لإسرائيل، وموقف شعبي مساند للفلسطينيين.
وربما تكون المرة الأولى التي يظهر فيها هذا التناقض في الموقف الألماني بين الرسمي والشعبي منذ بداية العدوان الإسرائيلي الحالي والتي ترجع إلى ملف تهجير فلسطينيين من حي الشيخ جراح وصولاً إلى الحرب الشعواء التي تشنها قوات الاحتلال منذ الاثنين 10 مايو/أيار على قطاع غزة المحاصر.
ليس من حق الفلسطينيين أن يدافعوا عن أنفسهم
ومن المهم قبل تفصيل الموقف الألماني الرسمي وخلفياته التوقف عند حيثيات الحرب غير المتكافئة حالياً بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، من وجهة نظر الحليف الرئيسي لإسرائيل وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
لم تظهر إدارة الرئيس جو بايدن أي موقف رسمي يتعلق بسعي حكومة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو تهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح، واستمر الصمت على حاله وإسرائيل تغلق باب العامود وتعتدي على الفلسطينيين في أنحاء القدس الشرقية المحتلة وتقتحم المسجد الأقصى من جانب الشرطة والمستوطنين وتحوله إلى ساحة معركة طرفها الآخر المصلون الفلسطينيون.
وهذا أيضاً كان موقف حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فلا بيان واحد يطلب من إسرائيل التوقف عن اعتداءاتها بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وبخاصة القدس الشرقية، ولا حتى الاعتداءات على المصلين في المسجد الأقصى، رغم أن القوانين الدولية والإنسانية تصنف تلك الاعتداءات على أنها جريمة حرب.
ولكن في اللحظة التي أقدمت فيها الفصائل الفلسطينية على رشق إسرائيل بالصواريخ، بعد تجاهل النداءات المتكررة والمناشدات التي أصدرتها الفصائل لحكومة نتنياهو وللمجتمع الدولي لوقف الاعتداءات في المسجد الأقصى ووقف تهجير الفلسطينيين من حي الشيخ جراح، صدرت على الفور بيانات التنديد من واشنطن وأيضاً من برلين.
حتى هنا قد يبدو الموقف الأمريكي والألماني متطابقين، لكن التفاصيل تظهر اختلافاً واضحاً يشير إلى أن ألمانيا أكثر دعماً لإسرائيل من واشنطن ذاتها.
ففي يوم الأربعاء 12 مايو/أيار اعتبرت الحكومة الألمانية أن من "حق إسرائيل الدفاع عن النفس في وجه هجمات" حماس، وقال المتحدث باسم الحكومة شتيفن زايبرت "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها في وجه هذه الهجمات في إطار الدفاع المشروع عن النفس"، موضحاً أن الحكومة الألمانية تدين "بشدة هذه الهجمات المتواصلة بالصواريخ انطلاقاً من قطاع غزة على مدن إسرائيلية".
وربما لو توقف زايبرت – الذي يتحدث باسم ميركل مباشرة – عند هذا الحد لتطابق موقفه إلى حد ما مع موقف إدارة بايدن، لكن عندما حاصره الصحفيون بالأسئلة حول ما تقوم به إسرائيل وكيف أنها كانت الطرف الذي بدأ بالاعتداء وأن صواريخ حماس وباقي فصائل المقاومة تعتبر دفاعاً عن النفس، انفعل المتحدث باسم الحكومة الألمانية وقال إن هجمات حماس "لا علاقة لها إطلاقاً بالدفاع عن النفس".
ولما لم تتوقف أسئلة الصحفيين عند هذا الحد وواصلوا إمطاره بالأسئلة التي تكشف الازدواجية الفجة في تصريحاته، اكتفي بالقول "لا تعليق".
هذا الموقف الذي عبَّر عنه زايبرت هو الموقف الذي تتبناه ميركل وجميع المسؤولين الألمان، بمن فيهم وزير الخارجية هايكو ماس، بل وعبَّرت جميع المعسكرات السياسية الألمانية عن غضبها الشديد من "حرق علم إسرائيل" خلال مظاهرات حاشدة داعمة للفلسطينيين شهدتها أغلب المدن الألمانية يوم 15 مايو/أيار الجاري الذي صادف أيضاً ذكرى "النكبة".
غياب الدعم الشعبي لإسرائيل في ألمانيا
ويُلقي تقرير نشرته دويتش فيله باللغة الألمانية وترجمته إلى الإنجليزية بعضاً من الضوء على هذا التناقض في الموقف الألماني بين ما هو رسمي وما هو شعبي فيما يتعلق بإسرائيل.
وجاء في التقرير أن "الشيء الذي لا يمكن تجاهله هو أن الكثيرين في ألمانيا لا يظهرون تضامناً مع إسرائيل في أوقات الأزمات"، واستشهد التقرير بأزمة عام 1991 عندما أطلق الرئيس العراقي وقتها صدام حسين صواريخ تجاه تل أبيب، حيث وقف نحو 20 شخصاً فقط أمام السفارة الإسرائيلية في بون تضامناً مع إسرائيل.
كما رصد التقرير العلاقة الخاصة جداً التي تتمتع بها ميركل تحديداً لدى الإسرائيليين، فالمستشارة زارت إسرائيل 7 مرات، كان آخرها عام 2018 ألقت خلالها خطاباً يلخص الموقف الرسمي لألمانيا.
"في هذه النقطة بالتحديد أود أن أقولها صريحة ومباشرة: كل حكومة فيدرالية وكل مستشار جاء قبلي كانوا ملتزمين بالمسؤولية التاريخية الخاصة لألمانيا في ضمان أمن إسرائيل. وتمثل هذه المسؤولية التاريخية جزءاً من منطق الدولة في بلادي وهذا يعني أن أمن إسرائيل لن يصبح أبداً محل تفاوض من جانبي كمستشارة لألمانيا"، وختمت ميركل بالقول: "سفير إسرائيل في ألمانيا سوف يراقب جيداً كيف نتصرف".
المساواة بين "معاداة السامية" وانتقاد إسرائيل
وتكشف تصريحات المسؤولين في ألمانيا عن تطبيق تلك السياسة بشكل صارم، خصوصاً أن المظاهرات الداعمة لحقوق الفلسطينيين لا تتوقف في ظل تواصل القصف الإسرائيلي العنيف للمباني السكنية في قطاع غزة واستهداف المدنيين والأبراج السكنية ومقرات وسائل الإعلام وهو ما يزيد من حدة الغضب تجاه الاحتلال الإسرائيلي في أنحاء العالم.
لكنَّ ميركل ووزراءها يواصلون تصريحاتهم التي تحمل ليس فقط الدعم المطلق لإسرائيل ولكن أيضاً التهديدات بشأن المنتقدين لإسرائيل، إذ قالت تقارير إن الحكومة الألمانية تدرس تشديد قوانين "معاداة السامية" لديها، في ظل تصريحات لوزير الداخلية هورست زيهوفر قال فيها: "لن نتسامح مع حرق الأعلام الإسرائيلية على الأراضي الألمانية والهجوم على المؤسسات اليهودية".
وتتمثل الإشكالية التي تواجهها الحكومة الألمانية حالياً في تفسيرات القوانين "المعادية للسامية" والتي لا تفرق بشكل واضح بين ذلك الاتهام وبين الانتقادات التي يتم توجيهها للحكومة الإسرائيلية على خلفية انتهاكاتها بحق الفلسطينيين.
كما توجد إشكالية أخرى تتعلق بقوانين حماية حرية التعبير في البلاد والتي لا تمنع انتقاد إسرائيل والتنديد بعدوانها ضد الفلسطينيين، سواء هؤلاء في القدس الشرقية والضفة الغربية وهي أراضٍ تحتلها إسرائيل أو بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة والذين يحملون جنسية الدولة العبرية، لكن حكومتها تتبع ضدهم سياسة تمييز وفصل عنصري، بحسب المنظمات الدولية والأمم المتحدة.
وقالت مفوضة الحكومة الألمانية لشؤون الاندماج أنيته فيدمان-ماوس في تصريحات لصحيفة "راينيشه بوست" الألمانية السبت الماضي إن "الكراهية والتحريض والعنف ضد اليهود والرموز المنشآت اليهودية غير مقبولة على الإطلاق ولا يمكن تبريرها أبداً. الحق في التظاهر وحرية التعبير ينتهي حيثما تبدأ كراهية اليهود".
تغطية إعلامية منحازة لإسرائيل
تقرير دويتش فيله الذي رصد الموقف الألماني الرسمي من إسرائيل جاء عنوانه "ألمانيا تدعم إسرائيل.. رغم الهولوكست وبسبب الهولوكست"، وهو عنوان يلخص الموقف الرسمي الألماني المنطلق من عقدة الذنب بسبب المحارق التي أقامها الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر أثناء الحرب العالمية الثانية.
ويجادل البعض بأن الموقف الألماني الحالي من توفير الدعم المطلق لإسرائيل على جميع المستويات ربما يمثل تكراراً لما تعرض له اليهود، في ظل ممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين التي توصف بأنها تطهير عِرقي وفصل عنصري تمارس خلاله قوات الاحتلال جرائم حرب على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
وفي هذا السياق، جاءت تغطية وسائل الإعلام الألمانية للعدوان الإسرائيلي الجاري على قطاع غزة منحازة بصورة فجة وغير مهنية لجانب الاحتلال، وكأنها هي الأخرى تتبنى الموقف الرسمي المتموضع في خانة عقدة الذنب، دون تفكير في ضحايا العدوان الإسرائيلي من الفلسطينيين.
واليوم الثلاثاء ظهر دليل واضح على هذا الانحياز الألماني الإعلامي من جانب إذاعة صوت ألمانيا أو دويتش فيله (DW) على أن ما تشهده تغطيتها المنحازة هو قرار تحريري بررته إدارتها "بمسؤولية برلين الخاصة تجاه إسرائيل بسبب الهولوكوست".
ومنعت هيئة تحرير الإذاعة مراسليها ومحرريها من تغطية جرائم الحكومة الإسرائيلية المتمثلة في "الفصل العنصري" واضطهاد الفلسطينيين، من خلال دليل جديد تم إرساله إلى طاقم العمل نتيجة للتصعيد الأخير في المنطقة.
وأكدت الوثيقة الداخلية المكونة من صفحتين – تم تسريبها ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي – أن إرث المحرقة ومسؤولية ألمانيا الخاصة تجاه إسرائيل لا يزالان حجر الزاوية في دستور البلاد وسياستها الخارجية، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
وقالت رئيسة التحرير، مانويلا كاسبر-كلاريدج، للموظفين: "نحن في دويتشه فيله لا نشكك أبداً في حق إسرائيل في الوجود كدولة، ولا نسمح للأشخاص الموجودين في تغطيتنا بالقيام بذلك"، حسب الوثيقة المسربة، وأضافت: "نحن لا نشير أبداً إلى نظام الفصل العنصري في إسرائيل. إننا نتجنب أيضاً الإشارة إلى الاستعمار أو المستعمرين".
وتابعت: "نحن نحترم حرية الرأي والتعبير، وحق الناس في انتقاد أي من الأطراف المعنية. ومع ذلك، فإن انتقاد إسرائيل يصبح معاداة للسامية عندما تحاول تلطيخ وتشويه السمعة ونزع الشرعية عن دولة إسرائيل أو الشعب اليهودي والثقافة اليهودية بذاتها".
الخلاصة هنا هي أن ألمانيا تدعم إسرائيل بشكل مطلق بسبب عقدة الذنب على خلفية "الهولوكست"، بينما يدفع الفلسطينيون الثمن، فهل ترى حكومة ميركل أن الفلسطينيون هم مَن نفَّذ "الهولوكست"؟