كانت هبة عرب 48 أو ما يعرف بفلسطينيي الداخل واحدة من أبرز نتائج الأزمة الأخيرة، بعد أن بدا للبعض أنهم ابتعدوا عن هموم بقية الفلسطينيين.
فتصريحات المسؤولين الإسرائيليين والصحافة العبرية، تكشف أنه إلى جانب قلقهم من الهجمات الصاروخية للمقاومة الفلسطينية، فإن موقف عرب 48 هو واحد من أكبر دواعي قلقهم من الأزمة الحالية.
ففي غضون أسابيع قليلة، نشب واحد من أكبر الصراعات مع غزة خلال السنوات الأخيرة، ووقع في الوقت ذاته صراع غير مسبوق في حجمه بين اليهود والعرب داخل الأراضي الإسرائيلية ، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية.
عرب 48.. نضال لم يتوقف
عدد السكان في إسرائيل لدى قيامها بعد النكبة عام 1948، بلغ نحو 806 آلاف، بينهم قرابة 150 ألف فلسطيني بقوا في البلاد بعد تهجير قرابة 800 ألف فلسطيني.
وتحول العرب جراء عمليات التهجير إلى أقلية قومية، ووفقاً لدائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، قُدّر عدد السكان العرب في عام 2020، بـ1.930 مليون عربي، أي ما نسبته 21% من سكان إسرائيل البالغ عددهم 9.190 مليون نسمة.
هذه الإحصائية تضم الفلسطينيين بالقدس والسوريين في هضبة الجولان.
وقالت الدائرة إنه منذ ذلك الوقت هاجر 3.3 مليون شخص إلى إسرائيل، 44% منهم هاجروا منذ العام 1990 إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، بينما وصفت الإحصائية 78% من اليهود بـ"الصابرة"، أي الذين وُلدوا في إسرائيل.
وعلى مدى عقود، مارست السلطات الإسرائيلية مخططات ممنهجة، هدفها تضييق الخناق واستهداف وجود فلسطينيي الداخل وهويتهم.
ولعل إحدى أهم الممارسات هي محاولة التهويد من خلال المناهج المدرسية، إذ يدرسون اللغة العبرية لغة أساسية من ضمن المنهج ويتحدثونها بطلاقة.
وقاد وقتها عرب الداخل معارك طويلة كي تعترف إسرائيل باللغة العربية لغة رسمية ثانية، وهي الآن "ذات مكانة خاصة" ولكنها ليست لغة رسمية، إذ تنشر الوزارات الحكومية جميع المواد المعدة للجمهور باللغة العبرية، مع ترجمة مواد مختارة إلى اللغة العربية والإنجليزية والروسية ولغات أخرى.
هبة عرب الداخل جاءت بسبب الأقصى والشيخ جراح
واعتبر تقرير صحيفة The Jerusalem Post أن أحد أبرز نجاحات حماس في هذه الحرب، هو ثورة عرب إسرائيل تأييداً لبقية الشعب الفلسطيني.
ولكن الواقع أن ما أثار عرب 48، هو التعرض للمسجد الأقصى وخطط اقتحامه في شهر رمضان، التي مهدت لها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إضافة إلى محاولة طرد سكان حي الشيخ جراح بالقدس.
فقبل تدخل حماس وقصفها القدس يوم 28 رمضان (الذي أدى لانفضاض مظاهرة نظمها المتطرفون اليهود لاقتحام الأقصى تحت حماية الجيش الإسرائيلي)، كان عرب 48 والمقدسيون هم من هبوا لحماية الأقصى وتحركوا شباباً وعائلات من مدنهم رغم العراقيل الإسرائيلية، وهتفوا باسم محمد الضيف، قائد كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس بعد ما حذر إسرائيل من المساس بالأقصى وحي الشيخ جراح.
والآن بينما تخوض إسرائيل واحداً من أشد الصراعات التي واجهتها في السنوات الأخيرة، أصبحت إسرائيل تخوضاً حرباً داخلية.
وبالإضافة إلى أن صواريخ المقاومة ترهب سكان جنوب إسرائيل وأحياناً ترهب السكان في وسط إسرائيل، وتعطل مجريات الحياة اليومية في الدولة العبرية، فإن هبة عرب إسرائيل باتت تمثل شوكة جديدة في ظهر العدوان الإسرائيلي.
حماس حققت نجاحاً في جميع الجبهات
فهذه الجولة مختلفة عن الحروب السابقة، فبغض النظر عن عدد مقاتلي حماس الذين سقطوا أو عدد المنشآت التي تعرضت للقصف في غزة، أعدت حماس نفسها كي تكون لها اليد العليا في الأيام الستة الأولى، محققة نجاحات على جميع الجبهات، حسب وصف صحيفة The Jerusalem Post.
إذ نجحت حماس في تحويل المعركة من المنطقة التي تطالها صواريخها، إلى جميع مناطق إسرائيل، في نفس الوقت الذي تهز فيه احتجاجات عرب 48 وأعمال الشغب التي يثيرها اليهود المتطرفون جميع أرجائها.
هذه الجولة من القتال أساسها في الاستفزازات الإسرائيلية في القدس، إذ أطلقت حماس وابلاً من الصواريخ نحو القدس بسبب خطط طرد السكان الفلسطينيين في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية وبسبب الممارسات الإسرائيلية بحق المسجد الأقصى.
وفي ظل الضائقة الاقتصادية بسبب أزمة فيروس كورونا، والصراع السياسي وانعدام الاستقرار في كل من الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية، والغضب الفلسطيني من الممارسات الإسرائيلية قبل ما يعرف بيوم القدس العبري؛ كانت الأرضية خصبة من أجل الصراع.
وفيما كانت حماس تقول دائماً إنها تدافع عن القدس ضد ما تصفه بالتدابير الإسرائيلية العدائية وجهود "تهويد القدس"، فإنها نجحت هذه المرة بالفعل في توحيد القوى مع الضفة الغربية والمجتمعات العربية في إسرائيل، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
حرب أهلية مصغرة
واعترف وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، بأن "ما يحدث في الشوارع، أخطر من المعارك العسكرية". بينما تتوجه أنظار العالم إلى صواريخ "حماس" التي تضرب العمق الإسرائيلي وتشلّ حركة المطارات الإسرائيلية.
فالكلام اليوم هو عن نزاعات في الشوارع والبيوت، داخل الخط الأخضر، تشبه التي ساقتها عصابات الهاغانا عام النكبة لتهجير الفلسطينيين، حسبما تقول سوسن الأبطح في مقال بجريدة الشرق الأوسط السعودية.
فهي حرب بالسلاح الأبيض والحجارة وإشعال النيران والاغتيال والدهس. غضب هائل عند الشبان العرب، وجنون شرس في المقابل من المتطرفين اليهود الذين باتوا يستبيحون المنازل بأسلحتهم النارية ويجوبون الشوارع بحثاً عن فريسة.
حتى أن الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفيلين، المعروف ببروده، قال مذعوراً أمام هذا المشهد المفاجئ: "أتوسل الجميع، افعلوا كل ما في وسعكم لوقف هذا الأمر الفظيع الذي يجري أمام أعيننا. نحن منهمكون في حرب أهلية من دون أي سبب. أوقِفوا هذا الجنون. أرجوكم توقفوا. نحن دولة واحدة".
تعلق الأبطح قائلة: "فات الرئيس أن ما يقارب مليونين من فلسطيني الداخل، غالبيتهم من الشباب، تُركوا بلا بصيص أمل. والفلسطينيون وهم يستذكرون هذه الأيام مرور 73 سنة على النكبة، لا يرون سوى التمييز العنصري، وهدم البيوت، وتهجير الأهالي في القدس، ويستفيق سكان الداخل على حقيقة أن لهم إخوة يُذبحون، وأنهم هم أنفسهم، لن يُهضموا يوماً في مجتمع لا يشبههم ولا يعترف بهم".
ثورة البراق تتجدد واليهود المتطرفون يهاجمون الجميع بما فيهم وسائل الإعلام
الصور والشهادات المُستقاة من المشاهد داخل إسرائيل، أعادت إلى الأذهان أحداث ثورة البراق عام 1929 أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، في ظل محاولات الاستيطان من قبل اليهود لفلسطين التاريخية في ذلك الوقت، حيث وقعت اشتباكات بين العرب واليهود، ما أودى بحياة كثيرين من الجانبين، جراء ادعاءات اليهود بأن حائط البراق هو جزء من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف ملك لهم، حسبما ورد في تقرير لمركز المعلومات الوطني الفلسطيني التابع لوكالة الأنباء الفلسطينية "وفا".
وها هي،المواجهات تعود بين اليهود والعرب في الشوارع، ودعت جماعات اليهود المتشددة الناس في جميع أنحاء البلاد للخروج ومواجهة أي عرب يقابلونهم. وهددت بعض من هذه الجماعات أيضاً بمهاجمة وسائل الإعلام.
وبينما صورت هذه الجماعات نفسها على أنها تدافع عن اليهود المدنيين، كانت هذه الجماعات في كثير من الحالات من مثيري الشغب الذين يريدون تنفيس غضبهم في العرب بلا تمييز. حدثت إحدى الحالات في مدينة بات يام وهزت البلاد، حيث أخرج شباب يهودي أحد المارة العرب من سيارة وبدأوا في ضربه بلا رحمة، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
في القدس والضفة الغربية، اشتبك الشبان الفلسطينيون مع قوات الأمن كل ليلة في الأيام الأخيرة لدعم غزة.
وعلى طول الحدود مع لبنان والأردن، حاول المحتجون اقتحام السياج الحدودي. وفي لبنان، أطلقت جماعة، يبدو أنها من الفصائل الفلسطينية المسلحة، ثلاثة صواريخ في اتجاه إسرائيل.
الهبة الشعبية التي قام بها عرب 48 قد لا تكون سوى مؤشر إلى بداية تحولات جذرية، وآخر ما كانت إسرائيل تنتظر حصوله، حسب الأبطح.
فاحتفاء إسرائيل بالربيع الشعبي، على اعتباره ظاهرة عربية، أمر لن يصمد أمام حقائق التاريخ. فالمجتمع الإسرائيلي تغير أيضاً، بعربه ويهوده، بيمينه ويساره.
يبدو أن حماس تدرك جيداً أن هذا التوحد لأطياف الشعب الفلسطيني واحد من أبرز نجاحات الحركة التي أراد خصومها حبسها في غزة.
فلقد أعرب الناطق باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، أبوعبيدة، يوم الخميس 13 مايو/أيار، عن ثقة حماس في أن الموقف الحالي مختلف قائلاً: "ما يميز هذه المعركة هو تكاتف شعبنا في كل الساحات وإجماعه على خيار المقاومة".
حققت حماس ما دعت إليه في بيان بعد الآخر خلال السنوات الأخيرة: فقد وحّدت المجتمعات الفلسطينية في لبنان والأردن والضفة الغربية بل في إسرائيل، خوفاً وغضباً من دولة إسرائيل. وفي غضون ذلك، تقف إسرائيل منقسمة وممزقة بين الصراع السياسي وانعدام الاستقرار والاقتتال الداخلي، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
رد العديد من المسؤولين الإسرائيليين على ذلك من خلال المطالبة باستخدام قوة أكبر من جانب قوات الأمن الإسرائيلية.
وفي خضم انعدام الثقة العميق داخل جميع مفاصل المجتمع الإسرائيلي بعد سنتين بدون حكومة مستقرة، فالأرجح أن الموقف الحالي أشعل اللهيب أكثر فحسب، وفقاً لصحيفة The Jerusalem Post.
ثمة محاولات لإخماد النيران. فقد دعت تظاهرات مشتركة من اليهود والعرب إلى السلام والتعايش، حسب الصحيفة الإسرائيلية، وأصدر مسؤولو البلديات من جميع القطاعات بيانات تطالب السكان بتهدئة الموقف وتجنب العنف.
ولكن برغم أفضل الجهود التي بذلها النشطاء ومسؤولو المدن الإسرائيلية وقوات الأمن، لا يزال العنف يستعر في شوارع إسرائيل. يشتبك العرب واليهود، مع استخدام كلمات "حرب أهلية" و"مذبحة" بين المدنيين الذين يعيشون في حالة من الريبة مع موقف غير مسبوق.
ومن ثم فإنه بينما يواصل الجيش الإسرائيلي قصف غزة، يبدو أن البيت الإسرائيلي ينهار من الداخل. تفوز إسرائيل بالمعارك بكل تأكيد لكن حماس تنتصر حسبما يبدو في الحرب، وفقاً للصحيفة الإسرائيلية.
تقول The Jerusalem Post "صحيحٌ أن الحرب في غزة ستنتهي كما حدث في الحروب السابقة وستنتهي المواجهات في الشوارع الإسرائيلية على الأرجح في نهاية المطاف، ولكن كيف ستكون حالة إسرائيل بعد ذلك؟"
مضت إسرائيل خلال العامين الماضيين بدون حكومة مستقرة. اجتاح التحريض والطائفية إسرائيل لوقت طويل، واشتد هذا الأمر خلال الأزمة السياسية وأزمة فيروس كورونا، فقد انقسم المجتمع الإسرائيلي، واجتاح الخطاب العدائي من جميع الجهات وسائل الإعلام ودوائر السياسة، بينما حاولت الأحزاب الإسرائيلية كسب التأييد في سلسلة من الانتخابات وصلت إلى أربع انتخابات.
ولكن في المقابل، فإن حماس نجحت في تحويل ما أراد نتنياهو أن يحققه، مكسب رخيص عبر تمهيد الطريق لغلاة المستوطنين من اقتحام المسجد الأقصى، وطرد سكان حي الشيخ جراح، إلى انتصار لصالح الحركة.
لكن ساسة إسرائيل ليسوا وحدهم من يتحمل اللوم، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
صحيحٌ أن كثيراً من التحريض جاء من أصحاب المراتب الأعلى، لكن المواطنين في إسرائيل قبلوه وبرروه وساعدوا في نشره. إذ إن المواطنين العاديين هم الذين خرجوا في الأيام الأخيرة ونشروا الفتنة والثأر من جيرانهم بأيديهم، وفقاً للصحيفة.
تزعم الصحيفة الإسرائيلية أن الحل في أن ترد قوات الأمن الإسرائيلية على ما تصفه بـ"العنف"، ولكنها تستدرك قائلة: "يجب أن يكون ذلك مصحوباً بجهود مكثفة على صعيد مدني لاستيعاب كيفية مجابهة مثل هذه الطائفية. يجب العثور على نهج متزن، أو سوف تدوم بكل بساطة دائرة العنف ويتم الابتعاد عن القضايا الحقيقية، خاصة أن الانقسام بين العرب واليهود في إسرائيل أكثر انقساماً من أي وقت مضى".
تعلق الكاتبة اللبنانية سوسن الأبطح قائلة: "المفارقة أن إسرائيل بسبب جشعها، وعنجهيتها، وإحساسها بفائض القوة، حوّلت القضية الفلسطينية في اللحظة التي نسيها الجميع إلا أهلها إلى القضية الأولى عالمياً، وأشعلت فتيلاً في عقر دارها، غاية في الخطورة، سيكون لنيرانه ما بعدها".