في الوقت الذي تصاعدت فيه وتيرة القصف والقصف المتبادل بين فصائل المقاومة في غزة والجيش الإسرائيلي، بدأ القلق يتسرب داخل إسرائيل نفسها، ليس فيما يتعلق بمستقبل هذه المواجهات، ولكن بسبب هذه التداعيات والمخاوف من الهجرة العكسية خارج إسرائيل.
وتمكنت المقاومة في المعركة الحالية من كسر كل قواعد الاشتباك، حيث وصلت صواريخ المقاومة للمرة الأولى لمسافات تجاوزت 250 كيلومتراً، في تخطٍّ كامل لمستويات الردع التي حاولت إسرائيل ترسيخها خلال السنوات الماضية مع جبهة غزة.
ومع أن هذه الجولة من المواجهة العسكرية تدخل يومها السادس، فإن المقاومة الفلسطينية تمكنت من إصابة إسرائيل بشلل شبه كامل، وأجبرت ملايين الإسرائيليين على البقاء في الملاجئ، كما تمكنت المقاومة للمرة الأولى من قصف أهداف استراتيجية دفعت بالحكومة لإغلاق كافة المطارات المدنية، ومؤسسات الدولة، وتوقفت الملاحة البحرية في الموانئ التجارية.
كما بات المستوطنون جنوب فلسطين المحتلة بدون كهرباء، بعد تمكن المقاومة من قصف محطة توليد الكهرباء في مدينة عسقلان بطائرات مسيرة.
الإخلال بمفهوم الأمن القومي
اعتبر الإسرائيليون أن التطور الميداني في هذه الجولة العسكرية ذو أهمية كبيرة بالنسبة لضرب المقاومة مفهوم الأمن القومي لدولة الاحتلال، فلم تعد أي بقعة جغرافية آمنة داخل حدود فلسطين المحتلة، الأمر الذي قد يعيد النظر بصورة إسرائيل النمطية، التي رسختها في الوعي الإسرائيلي والإقليمي والدولي بأنها دولة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
ما يعزز هذه الفرضية ما كشفت عنه صحيفة هآرتس بأن نسبة كبيرة من سكان غلاف غزة وهي (المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بغزة بعمق 20 كيلومتراً)، نزحوا بشكل جماعي إلى مناطق الوسط والشمال خلال الأيام الثلاثة نتيجة فقدان الشعور بالأمان، ما جعلها مناطق أشباح، نظراً لفرض حظر التجوال فيها تنفيذاً لتعليمات الطوارئ من الجبهة الداخلية.
كذلك يؤكد هذا الكلام ما كتبه المحلل السياسي الإسرائيلي جدعون ليفي، قائلاً "وجهتنا يجب أن تكون لأوروبا، وعليهم أن يستقبلوننا كلاجئين. أعتقد أن هذا أفضل من أن نؤكل أحياء من قبل العرب"، وذلك في مقالة له بصحيفة هآرتس يوم 13 مايو/أيار.
خالد شعبان، الباحث المختص في الشؤون الإسرائيلية في مركز التخطيط الفلسطيني قال لـ"عربي بوست"، إن القناعة الراسخة بأن إسرائيل لا تزال دولة آمنة بدأت تتلاشى تدريجياً في السنوات الأخيرة، وأسباب ذلك كثيرة منها التهديدات الأمنية من قطاع غزة والضفة الغربية، كما أن اتساع دائرة الخلافات داخل الكتل السياسية ينعكس سلبياً في تعامل الدولة مع المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهم الإسرائيليين.
اعترافات إسرائيلية
وجدت الدعوات الإسرائيلية بالهجرة المعاكسة أصداءها نتيجة صدورها من أوساط سياسية وأمنية وإعلامية كبيرة. فقد أعلن المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس أنه "خلال سنوات سينتصر العرب والمسلمون، ويكون اليهود أقلية في هذه الأرض، إما مطاردة أو مقتولة، وصاحب الحظ من يستطيع الهرب إلى أمريكا أو أوروبا".
أما الرئيس الأسبق لجهاز الموساد شبتاي شافيت، وهو أعلى منصب أمني في إسرائيل، فأعلن أنه "قد يجد نفسه يوماً ما يحزم أمتعته، ويغادر إسرائيل".
روني دانيئيل، المحلل العسكري الإسرائيلي، وهو الأكثر قرباً لقيادة الجيش الإسرائيلي، لم يتردد في القول إنني "غير مطمئن أن أولادي سيكون لهم مستقبل في هذه الدولة، ولا أظن أنهم سيبقون فيها".
فيما أكد يارون لندن، أشهر مقدمي البرامج التلفزيونية الإسرائيلية، إنني "أعدّ نفسي لمحادثة مع حفيدي لأقول له إن نسبة بقائنا في هذه الدولة لن يتعدى 50%، ولمن يغضبهم قولي هذا فإنني أقول له إن نسبة 50% تعتبر جيدة، لأن الحقيقة أصعب من ذلك".
ميزان الهجرة سالب
وسجل عام 2020 تفوقاً في ميزان الهجرة العكسية من إسرائيل إلى الخارج بـ74.9% مقابل 73.4% لمهاجرين يهود قادمين من الخارج، وهذه النسبة قد ترتفع في هذا العام بعد أن ضربت المقاومة الفلسطينية مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي.
ووفقاً لأرقام الوكالة اليهودية، فقد غادر إسرائيل 720 ألف مستوطن، واستقروا في الخارج بصورة رسمية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، بينما يقيم 530 ألفاً آخرين في الخارج بشكل متنقل.
القلق الإسرائيلي الحالي يتركز الآن لاحتواء ومحاولة التأقلم مع هذا الوضع الجديد الذي فرضته هذه المواجهة، فالخشية من أن تشهد إسرائيل موجة هجرة عكسية إلى الخارج تزداد احتمالية حدوثها، نظراً لحجم التهديدات التي تحيط بالدولة في هذا الظرف، سواء بسبب مظاهرات فلسطيني 48، وحالة الانقسام السياسي بين الكتل السياسية، واتساع فجوة الخلافات بين الحريديم والعلمانيين، إضافة إلى التهديدات العسكرية القادمة من غزة في الجنوب، وحزب الله في الشمال.
اليهود غير مرحب بهم في الخارج
نظير مجلي، الكاتب والمحلل السياسي من الداخل الفلسطيني المحتل، قال لـ"عربي بوست" إن الحديث عن ظاهرة الهجرة العكسية لم يعد حلاً بالنسبة للإسرائيليين الذين يرون أن دولتهم لم تعد بيئة ملائمة للعيش، فالأمر مرتبط بما بعد اتخاذ قرار الهجرة، فاليهود في الولايات المتحدة، وبدرجة أقل في قارة أوروبا غير مرحب بهم، ويتعرضون لمضايقات وعنف بناء على هويتهم الدينية، حتى هؤلاء باتوا يديرون ظهورهم للصهيونية.
وأضاف أن ميزان الهجرة اليهودية إلى إسرائيل وصل لمستوى سلبي لصالح الهجرة العكسية، لكنه ليس مقلقاً بالقدر الذي قد نطلق عليه بداية تفكك وانهيار إسرائيل، فهنالك عوامل استقرار من الناحية الاقتصادية، ومشروع التطبيع العربي الإسرائيلي مؤخراً سيساهم في دمج إسرائيل في المنطقة.
وتابع أن قضية الأمن تستحوذ على نسبة كبيرة من النقاش الإسرائيلي في قرار الهجرة، وهذا مرتبط باتساع دائرة التهديدات التي تحيط بإسرائيل من جهة غزة في الجنوب، والمشروع الإيراني في الشمال.
لا تعتبر ظاهرة الهجرة العكسية من إسرائيل جديدة، بل تعود جذورها إلى 2004، حينما واجهت معارضة شعبية كبيرة لخطة الانسحاب من غزة، وقد اعتبرها الإسرائيليون تنازلاً سياسياً عن الأرض.
بلغة الأرقام، فقد غادر إسرائيل 19 ألف يهودي بين 2004-2006، وجاء العدد الأكبر في 2007 حينما غادرها 25 ألفاً، نتيجة فقدان الشعور بالأمان بعد الحرب على لبنان 2006.
تغير دوافع الهجرة
مؤمن مقداد، محرر الشؤون الإسرائيلية في شبكة الهدهد الإخبارية قال لـ"عربي بوست" إن ظاهرة الهجرة العكسية من إسرائيل نابعة من مجموعة من العوامل، فخلال فترة سبعينات وثمانينات القرن الماضي احتل العامل الاقتصادي النسبة الأكبر فيها، فيما سيطر فقدان الشعور بالأمن على نسبتها الأكبر خلال العقدين الأخيرين.
وأضاف أن المجتمع الإسرائيلي يرى عجز حكومته عن التعامل مع التهديدات الأمنية من غزة، فمنذ الانسحاب منها زادت قوة المقاومة، وباتت تشكل تهديداً وجودياً للإسرائيليين، ما يدفعهم للهجرة بحثاً عن الأمن.
لعل أحد العوامل الأساسية التي تشجع على الهجرة الخارجية العكسية من إسرائيل يتمثل في عدم القدرة على دمج الهوية الثقافية والقومية ليهود الشتات داخل المجتمع الإسرائيلي، فعلى سبيل المثال لا تعتبر يهود الفلاشا الإثيوبيين مواطنين من الدرجة الأولى، أسوة بيهود أوروبا أو الولايات المتحدة، ما يخلق صراعاً داخلياً يتطور في كثير من الأحيان إلى اشتباكات مباشرة بين هذه الهويات، ويساهم في زيادة معدلات الهجرة.
عصمت منصور، الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، قال لـ"عربي بوست" إن ظاهرة الهجرة الداخلية والعكسية تلازم كل جولة تصعيد أمني عسكري، لكن الجديد في الجولة الحالية أن الانهيار ارتبط بعاملين: داخلي عبر مظاهرات فلسطينيي 48، وخارجي من ضرب المقاومة في غزة للأمن الإسرائيلي، وخلق معادلة ردع تحتاج إسرائيل لسنوات طويلة لاستعادتها.
وأضاف أن "المنظومة الإسرائيلية قامت على مبدأ تشتيت الحالة الفلسطينية، والتعامل مع كل منطقة جغرافية على حدة، لكن الوضع اختلف الآن، فرغم كل السياسات والقوانين العنصرية التي صادقت عليها إسرائيل في عقودها السبعة، فإنها لم تنجح في تفكيك وتمزيق الحالة الفلسطينية، وفصلها عن بعضها".