بناء الإنسان هو أهم شيء في الحياة، ومن أجله سخّر الله له كل مخلوقاته لكي تكون خادمة له، وجعله خليفة في أرضه، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (الأنعام: 165) بشرط الحفاظ على تلك النعمة، والقيام بحقها، وشكر الله عليها آناء الله وأطراف النهار.
ولكن الإنسان على مر العصور لم يحافظ على تلك الأمانة، إلا من رحِم، قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: 72).
أقول ذلك انطلاقاً مما نراه ونلمسه في الواقع المصري الحالي، الذي انصرف جُل اهتمام المسؤولين فيه إلى بناء العمران، وتشييد القصور، وإهمال الخدمات الأساسية، من تعليم وصحة ومسكن وخلافه، التي يحتاج إليها كل مواطن بسيط، يريد أن يعيش حياة كريمة، ليس فيها عوز أو إهانة.
أصحاب السلطة في القصور والفقراء في القبور
من يتابع الشأن المصري يصاب بالذهول والحيرة لما يراه من الإصرار على إهدار مقدرات الدولة المصرية منذ عشرات السنين، وتزداد الحيرة بشكل أكبر حينما نرى كمّ الإنفاق العام على مشروعات ليست لها فائدة، في السنوات الأخيرة، منذ الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي، وخصوصاً أنه لا يستفيد من هذه المشروعات إلا أصحاب السلطة والمقربين منها، وأهل المال والأعمال، أما المواطن الذي يسعى لكي يعيش حياة شريفة كريمة، فهذا يلاقي العنت والشقاء في توفير لقمة العيش.
وبالنظر إلى إنفاق النظام المصري على القصور الرئاسية، على سبيل المثال، يُصدم الإنسان العاقل من كمّ المليارات التي توجه إلى بناء وتشييد قصور ليست من أولويات المواطن المصري، بل تؤثر عليه بالسلب، في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور الذي تعيشه البلاد، لأنها في النهاية تنفق من ميزانية الدولة، التي ذكر السيسي أنها دولة فقيرة جداً، وأمة عوز!
وفي حين أن نفقات بناء القصور والمقرات الحكومية لم تُعلن بشكل شفاف، فإن تكلفة بناء العاصمة الإدارية الجديدة تصل إلى نحو 51 مليار دولار، أما مدينة العلمين الجديدة فتصل لنحو 3 مليارات دولار.
ولا تقتصر نفقات القصور الرئاسية والمقرات الحكومية على تكلفة البناء، فهناك مصروفات التأمين، وأجور العاملين حتى في غياب المسؤولين عنها.
ويحدث هذا التوسع في بناء القصور الرئاسية رغم وجود 90 قصراً واستراحة لرئيس الدولة موزعة بين محافظات مختلفة من بينها 8 قصور تاريخية.
والغريب أن قصر العاصمة الإدارية يبعد عن قصر الاتحادية الذي يدير السيسي حالياً شؤون الحكم منه، نحو أربعين كيلومتراً، بينما يبتعد قصر العَلَمين عن استراحة محمد نجيب الرئاسية حوالي ساعة، وعن قصر المنتزه بالإسكندرية نحو ساعتين.
ومع اتساع رقعة الفقر تواصل الحكومة المصرية سياسات الاقتراض من الخارج، حيث وصلت ديون مصر الخارجية نحو 130 مليار دولار، وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري في أبريل/نيسان 2021، والديون الداخلية بلغت أكثر من 270 مليار دولار.
إلى أين تتجه مصر؟!
مع كمّ الإنفاق الرهيب على القصور والمشروعات الكبيرة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، وتفريعة قناة السويس التي تكلّفت حوالي 8 مليارات دولار، والقطار السريع الذي يخدم أصحاب الأموال ورجال الأعمال، وتبلغ تكلفته حوالي 23 مليار دولار، وغير ذلك من المشروعات كبيرة التكاليف قليلة الفائدة لعموم المصريين، إلا أن هذه المشاريع تُعزِّز قبضة القوات المسلحة على الاقتصاد، ولا تُقدّم أي منافع اقتصادية واسعة وملموسة!
ومن أهم التحديات التي تطرحها هذه المشاريع الضخمة هي أنها تُنفَّذ على حساب مشاريع من شأنها إحداث تحسينات اقتصادية ملموسة تساهم في رفع المستوى المعيشي للمصريين العاديين الذين يرزحون تحت وطأة مشقات اقتصادية متزايدة. فقد ارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 35٪، ما يتسبب في استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ناهيكم عن المستوى المتدني في جودة التعليم، كما ورد في مؤشر دافوس العالمي حول التعليم لعام 2021، حيث ﺍﺣﺘﻠّﺖ ﻣﺼﺮ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ الـ139، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﺮﻛﺰ ﻗﺒﻞ ﺍﻷﺧﻴﺮ، ﻣﻦ ﺑﻴﻦ 140 ﺩﻭﻟﺔ ﺷﻤﻠﻬﺎ ﻣﺆﺷﺮ ﺍﻟﺠﻮﺩﺓ.
والتدهور الواضح في القطاع الصحي، مع عدم الاهتمام بزيادة الدعم المقدم للمستشفيات والأطباء، وهذا أدى بدوره إلى انهيار المنظومة الصحية في مواجهة جائحة كورونا، مع عدم الشفافية بإعلان الأرقام الحقيقية للمصابين، والمتوفين. وفي ذات الوقت توفي أكثر من 500 طبيب وطبيبة، حسب ما أعلنته النقابة العامة لأطباء مصر أخيراً.
هذا الإصرار المتعمد لإهدار المال العام، وعدم توجيهه الوجهة الصحيحة، أدَّى إلى تخلّف مصر على مستويات عدة، وآخر معالم هذا الإهدار شراء 30 طائرة فرنسية من طراز رافال بقيمة 4.5 مليار دولار تضاف لباقة الطائرات في متحف الجيش المصري دون عمل من أجل الاقتناء، وثمناً لإرضاء الغرب للبقاء في سدة الحكم، وإغراق الوطن في الديون، التي تتحملها الأجيال القادمة لعشرات السنين. ولو أن هذا المبلغ صُرف في تطوير السكك الحديدية المتهالكة لكان أولى وأفضل، ولكنها العقلية العسكرية التي تتعامل مع الشعب كأنهم عبيد!
يقابل ذلك الإهدار التفريط في حقوق مصر المائية من نهر النيل، نتيجة للتهاون في هذا الملف، وتوقيع السيسي على اتفاقية المبادئ في مارس/آذار 2015، وكان نتيجة لذلك ما نراه ونشاهده من فشل المفاوضات مع الجانب الإثيوبي، وإصرارهم على الملء الثاني لخزان سد النهضة، دون اعتبار للضرر الخطير الذي سيقع على الشعب المصري، مما يؤدي إلى وصول مصر لمرحلة الفقر المائي، وهذا ما عبّر عنه رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي أخيراً.
وتأتي الفاجعة المستمرة بإهدار الدم المصري على قضبان السكك الحديدية المتهالكة، والمهملة من الحكومات المتعاقبة لعشرات السنين، وكان آخر هذه المآسي اصطدام قطار مكيف بقطار ركاب من الخلف بدائرة مركز طهطا بسوهاج، في (26 مارس/آذار 2021)، ما نتج عنه خروج 3 عربات عن القضبان، وراح ضحية الحادث 32 مواطناً، وأصيب 108 مواطنين، وفي (18 أبريل/نيسان 2021)، خرج قطار متجه من القاهرة إلى المنصورة عن القضبان، قرب محطة سكة حديد طوخ، وراح ضحية الحادث أكثر من 11 مواطناً بالإضافة إلى إصابة ما يقرب من 103 أشخاص.
وأخيراً وليس آخراً تأتي الإعدامات لعشرات من الأبرياء في نهار رمضان، لتدلّ دلالة قاطعة على أن النظام المصري لديه إصرار شديد على سفك الدماء، للتخلص من معارضيه، بتلفيق التهم، وتهيئة البسطاء من الشعب المصري لاستقبال مثل هذه الأعمال المفجعة، بعرض العديد من المسلسلات الرمضانية التي تقلب الحقائق وتزوّر التاريخ.
ويبدو أن هناك رابطاً قوياً بين تنفيذ حكم الإعدام وعرض مسلسل "الاختيار 2" في رمضان، الذي يُروِّج لوجهة نظر النظام في مذبحة رابعة العدوية، التي سُفكت فيها دماء مئات المصريين، خاصة أن القانون المصري يمنع تنفيذ أحكام الإعدام في المناسبات الدينية.
إن التفريط في حياة الإنسان بهذه السهولة؛ سواء بالإهمال المتعمد، وإهدار الكرامة، أو القتل البطيء، والسجن والتعذيب، أو الإعدام وإسالة الدماء؛ لنذير شؤم على الدولة المصرية، وكل من يدعم تلك الممارسات، مهما حاولت السلطة تجميل وجهها من خلال ماكينة إعلام مأجورة، ومسلسلات درامية تقلب وتزور الحقائق.
فالظلم إذا انتشر، خربت البلاد، واختل حال العباد، كما قال ابن خلدون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.