لا يخلو التاريخ الإسلامي من الجدال حول أمور فقهية شتى، أهمها ضرورة الخروج على الحاكم الظالم أو طاعة ولي الأمر في كل الأمور، ولعل هذا الأمر كان السبب الرئيسي في ظهور تيار المعتزلة الذي سيؤسس لمدرسة دينية تدعو لتغليب العقل على النقل ووجوب معرفة الله بالعقل.
المكان مدينة البصرة، والزمان هو العهد الأموي في أوائل القرن الثاني الهجري الذي شهد توسعات سياسية وعسكرية كبيرة، وكذلك ثورات كثورة الأشعث والخوارج وفرق شيعية زيدية.
ومن مدينة البصرة، التي تحولت إلى قطب لأهل العلم والدين، تخرج العديد من طلاب الفقه واللغة والأدب والشعر وسائر العلوم الشائعة آنذاك.
وكان العالم الجليل الحسن البصري يشغل منصب الأستاذ الأكبر فيها، مستقطباً في مجلسه طلاب العلم.
أحد هؤلاء الطلاب خطيب مفوهٌ اسمه واصل بن عطاء، وكان واصل ألثغ، بمعنى أنه لا يستطيع لفظ حرف الراء، فكان مبدعاً في استخدام كلمات مرادفة لأي كلمة فيها حرف راء.
في أحد النقاشات بالقضايا الفقهية، سأل واصل عن مرتكب الكبيرة، أي من يتعمد ارتكاب ذنب جاء فيه حد من حدود الدين، كقتل النفس.
سئل البصري عما إذا كان المخطئ مؤمناً أو كافراً، فأجاب بأنه مؤمن عاص. عندها اعترض واصل قائلاً بأنه يقع بين منزلتين وهما الكفر والإيمان، وبأنه ليس مؤمناً ولا عاصياً.
عندها، اعتزل واصل، مجلس البصري، فقال البصري: "لقد اعتزلَنا واصل"، فسُمي هو وأتباعه من تلك اللحظة بالمعتزلة، أما المعتزلة فسموا أنفسهم بـ"أصحاب العدل والتوحيد".
بعد تلك الحادثة، اتخذ واصل مكاناً مستقلاً في المسجد لتدريس منهجه الفكري القائم على تقديم العقل على النقل، وهو ما كان يعكس أسلوب الحسن البصري.
في تلك الجلسات، بدأت أول مدرسة عقلانية إسلامية، كانت على وشك أن تخلق محنة ضخمة في الفكر الإسلامي حول فكرة "خلق القرآن" التي بدأت في عهد الخليفة المأمون.
يرى المعتزلة أن القرآن هو كلام الله وأنه مخلوق الله تعالى، وهذا يعني أن القرآن بنظرهم أمر محدث وليس جزءاً من ذات الله أو قديماً بقدمه، ويصفون القرآن بأنه صفة فعل الله أو أن الله خلق كلاماً وأنه ليس صفة ذات الله كما يعتقد الأشاعرة وغيرهم من المدارس الدينية.
كما يعتبرون أن الإنسان مخير وليس مسيّراً وإلا فلماذا سيُحاسب على أفعاله؟ كما أنهم طالبوا بمراجعة ما جاء في أحكام المواريث والحدود.
وأنكر المعتزلة بعض الغيبيات مثل عذاب القبر وعلامات الساعة وأعمال السحر وغيرها من المسائل الجدلية.
الخروج على الحاكم الظالم
هل يجب التمرد أو الخروج على الحاكم الظالم أو السكوت والخضوع والطاعة؟ هذا السؤال كان موضع خلاف كبير ممن ساند تغليب النقل على العقل، وهو سؤال ينطوي على أبعاد سياسية واجتماعية خطيرة.
أيد واصل، الخروج على الحاكم الظالم، أما البصري فكان يرى ضرورة السمع والطاعة درءاً للفتنة بين جموع المسلمين.
الأصول الخمسة لفكر المعتزلة
تمحور فكر المعتزلة حول 5 أصول أجمعوا عليها رغم بعض الانشقاقات التي جعلت منه فرقاً عدة نُسبت إلى مؤسسها مثل الكندي وأبو علي الجبائي وابنه إبراهيم وبشر بن معتمر والزمخشري والعلاف والقاضي عبدالجبار والنظّام والجاحظ.
وفيما يلي، الأصول الخمسة لهذا المذهب الفكري:
التوحيد: أي إثبات وحدانية الله ونفي المِثل عنه، وأدرجوا تحته نفي صفات الله سبحانه، فهم لا يصفون الله إلا بالسلوب، فيقولون عن الله: لا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا بذي حرارة ولا برودة.. إلخ، أما الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة فينفونها عن الله سبحانه تحت حجة أن في إثباتها إثباتاً لقدمها، وإثبات قدمها إثبات لقديم غير الله، قالوا: ولو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألوهية، فكان التوحيد عندهم مقتضياً نفي الصفات.
العدل: قياس أحكام الله سبحانه على ما يقتضيه العقل والحكمة، وبناء على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقاً لأفعال عباده، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم إن خيراً وإن شراً.
المنزلة بين منزلتين: يعتقد المعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمناً بوجه من الوجوه، ولا يسمى كافراً؛ بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مُصراً على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.
الوعد والوعيد: أي إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحداً منهم من النار، فهم كفار خارجون عن الملة مخلدون في نار جهنم، قال الشهرستاني: "واتفقوا- أي المعتزلة- على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض.. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعداً ووعيداً".
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا الأصل يوضح موقف المعتزلة من أصحاب الكبائر سواء أكانوا حكاماً أم محكومين، قال الإمام الأشعري في المقالات: "وأجمعت المعتزلة إلا الأصم على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك"، فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغلبة الظن بحصول الغلبة وإزالة المنكر.
وتعد هذه الأصول الخمسة العقائد التي لم يختلفوا عليها رغم اختلاف مدارسهم لاحقاً، أما من العقائد التي اختلفوا فيها فيما بعد:
– نفيهم رؤية البشر لله تعالى، لأن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله سبحانه وهو منزه عن الجهة والمكان، وتأولوا قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}، أي منتظرة.
قولهم بأن القرآن مخلوق: وقالوا إن الله كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة.
نفيهم علو الله سبحانه، وتأولوا الاستواء في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} بالاستيلاء.
نفيهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته.
نفيهم كرامات الأولياء، قالوا: لو ثبتت كرامات الأولياء لاشتبه الولي بالنبي.
هل ما زال فكر تيار المعتزلة حاضراً؟
أيد المعتزلة بني العباس عندما آلت الخلافة إليهم، وعلا شأنهم في عهد المأمون، لكن تأييدهم لمقولة خلق القرآن ومعارضة كل من يعارضها دفعاهم لاضطهاد كل من عارضهم، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل.
استمرت هذه المحنة إلى أن انقلب عليهم الخليفة المتوكل ووضع حداً لنفوذهم، فتلاشى تيارهم الفكري.
ثم عادت أفكارهم للظهور في القرنين الماضيين مع مفكرين مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعباس العقاد وغيرهم.