ما زالت فلسطين تتعرض لأخطر وأشرس الانتهاكات والاعتداءات والمشاريع التهويدية والاستيطانية، لا سيما في مدينة القدس المحتلة التي تواجه انتهاكات وإجراءات إسرائيلية يومية تقوم وفق سياسات استراتيجية مخطط لها، وينسحب هذا الأمر على الأسرى الفلسطينيين، فقد توغل الاحتلال في استخدام الأساليب التعذيبية والنفسية كافة، لهدم الحركة الأسيرة التي لا تزال تناضل من أجل نيل الحرية.
يقول الكاتب الفرنسي مارسيل بروست: "لا يمكننا أن نغير الأشياء وفق رغباتنا، لكن تدريجياً ستتغير رغباتنا وفقاً لتلك الأشياء"، وهذا ينطبق تماماً على أهداف السياسات الإسرائيلية، التي تسعى إلى تغيير الوقائع على الأرض، والتي ستُفضي بعدها إلى تغيير الرغبات والمطالب الفلسطينية بحسب الرؤية الإسرائيلية.
إلا أن السياسات الإسرائيلية المختلفة لم تفلح في تحقيق المراد منها، لكون الفلسطينيين دوماً ما يطورون آليات نضالية مضادة للسياسات الإسرائيلية. وإذا ما أخذنا المعتقلات مثالاً، فرغم المنع من التعليم فإن الأسرى تمكنوا من تحويل الزنازين والمعتقلات إلى مدراس وكليات وجامعات. وفي مقابل منع الزيارات والتواصل مع العالم الخارجي ظهرت الكبسولات المهربة والنُّطف المحررة كثورة أخلاقية وإنسانية في وجه السجان، وتجاوزاً لكل القضبان، وكثيرةٌ هي وسائل النضال داخل المعتقلات والتي تشكل الإضرابات المفتوحة عن الطعام أعلى درجاتها.
إن الهدف الرئيس من أي سياسة إسرائيلية هو الوصول بالفلسطيني إلى الانهيار، إلا أن السحر انقلب على الساحر، ودوماً ما يقابلهم الفلسطيني بالانفجار المتمثل في الإضراب عن الطعام داخل المعتقلات الإسرائيلية نموذجاً، أو كما حصل في هبَّة "باب العامود" مع بداية شهر رمضان 2021، والأمثلة تُعد ولا تُحصى، وهذا الانفجار لم يأتِ من فراغ؛ بل ينبع من وجود لبنة تنظيمية لدى الفلسطينيين أسستها السياسات الإسرائيلية المتوحشة.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي جورج غروفيتش: "إن الزمن يمر في بعض التجمعات أسرع منه في بعضها الآخر، وإن بعض التجمعات تملك تقريباً مبطئات للزمن، في حين تملك أخرى مسرّعات له". ويُقسّم غروفيتش التجمعات إلى تجمعات ذات وتيرة بطيئة (المشتركين في المجلة الدورية نفسها والمتأثرين بها، أعضاء الحزب الذين لا يحضرون الاجتماعات، إلخ..)، تجمعات ذات وتيرة متوسطة (تجمعات تلتقي بشكل دوري مثل النقابات، الأحزاب، الشركات المساهمة وغيرها)، وأخرى ذات وتيرة متسارعة تجتمع بصورة دائمة ومستمرة مثل العائلات، السجون، الوحدات العسكرية وغيرها.
وإذا ما أردنا تطبيق نظرية غروفيتش على التصنيفات الفلسطينية (الأسيرات والأسرى، ذوي الأسرى والشهداء، إلخ)، فهم كانوا مجرد فلسطينيين (ذات وتيرة بطيئة) تجمعهم هويتهم وقوميتهم فحسب، إلا أن الاحتلال قد حوَّل الأسرى إلى تجمعات ذات وتيرة متسارعة يجتمعون بصورة دائمة داخل أسوار المعتقل، وفيما يخص ذويهم وذوي الشهداء، فإن الاحتلال الإسرائيلي باعتقال أو اغتيال أبنائهم حوَّلهم إلى مجتمعات ذات وتيرة متوسطة، فهم أصبحوا يلتقون بشكل دوري سواء في الزيارات بالنسبة إلى عائلات الأسرى، أو حفلات التأبين بالنسبة إلى عائلات الشهداء، أو في الفعاليات الوطنية الأخرى. بمعنى آخر، إن السياسات الاحتلالية الإسرائيلية جعلت الزمن يمر في بعض التجمعات الفلسطينية بشكل أسرع، الأمر الذي جعلهم أقوى وأصلب في مواجهة السياسات الحيوية الإسرائيلية.
مما لا شك فيه أن الانفجار الثوري والنضالي في وجه الاحتلال يُحقق نتائج إيجابية يمكن البناء عليها ومراكمتها، ولكن تبقى نتائج هذا الانفجار آنية وقصيرة الأمد؛ لكونه ينبع من غضب ثوري مكبوت لدى مُحرِّكيه، دون دراسة أو تقدير أو حساب لهامش الربح والخسارة.
وعليه فإن مواجهة السياسات الإسرائيلية الممنهجة بحاجة إلى آليات نضالية منظمة ومُكثفة. إذ إن ابتكار آليات نضالية وعلى أصعدة مختلفة، وتكثيفها بطريقة تزامنية، من شأنه حتماً أن يُشتت المحتل، وسيؤثر على نجاعة وتأثير سياساته التي ستفقد عنصري التنظيم والتركيز، وستجعلها سياسات متهلهلة أمام الجهود النضالية التي يسهل تنظيمها فلسطينياً في ظل وجود ركيزة أساسية متمثلة بالتنظيم والتصنيف الذي خلقه الاحتلال نفسه من عائلات شهداء وأسرى، وجرحى، ومُبعدين، وفصائل فلسطينية، وغيرها من التصنيفات التي تأسست أصلاً كردّ فعل طبيعي على هذا الاحتلال العنصري المتوحش.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.