يشهد الشرق الملتهب حراكاً سياسياً جديداً وتحولات غير مسبوقة في مفاوضات فيينا بين المجموعة الدولية وطهران حول الملف النووي وملفات المنطقة وعودة المشاورات بين الإدارة الإسرائيلية ونظيرتها الأمريكية بعد فترة من الفتور، وخطاب تصالحي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بعد اجتماعات بغداد الخليجية ـ الإيرانية، فيما يشهد لبنان تحركاً حكومياً يقوده البطريرك الراعي مدعوماً من الفاتيكان، وعودة لمفاوضات الترسيم البحري بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي معطوفاً عليها تلويح فرنسي بعقوبات تطال كل الفرقاء من مرتكبين أو معرقلين لتأليف الحكومة، ويُتردد أن عشرات الأسماء موضوعة على لائحة سحب التأشيرات ومنع السفر إلى فرنسا، فيما حج لبناني بدأ إلى روسيا افتتحه الرئيس المكلف سعد الحريري وانضم إليه جبران باسيل المحاصر أمريكياً والمخاصم إقليمياً.
خلدون الشريف: الجيوبوليتيك الجديد في الشرق
يرى الباحث والسياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف أن وزير خارجية فرنسا الآتي إلى لبنان، في ظل تقديرات بأن سياسة العصا والجزرة الفرنسية لن تكون قادرة على كسر "ستاتيكو" الأزمة الحكومية اللبنانية المفتوحة على مصراعيها منذ تسعة أشهر تقريباً. وبرغم مرور حوالي الأسبوعين على زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي دايفيد هيل إلى بيروت -التي التقى فيها عملياً معظم الأطياف اللبنانية (باستثناء حزب الله فيما التقى عن فريق رئيس الجمهورية إلياس أبوصعب) وتتبع خلالها أخبار الرئيس السوري بشار الأسد عبر عدد من حلفائه الذين تجمعهم صداقة قديمة بهيل- فإنها ما زالت تخضع للتقييم والتمحيص. فقد استطاع الرجل، المفوض من وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن يحرز تقدماً في ملف الترسيم البحري الذي يحتل أولوية لدى الإدارة الأمريكية لتداخله مع جيوبوليتيك المنطقة كلها.
ويرى الشريف أن هيل كان واضحاً جداً في ترتيب أولويات إدارة بايدن وهي معالجات تداعيات وباء كورونا في الداخل الأمريكي، ومحاولة تحفيز وتفعيل الاقتصاد الأمريكي المنهك، وتحدي العلاقة مع الصين، وترتيب أوضاع الناتو والحلفاء عبر المحيطات الهندي والهادئ والأطلسي، والاتفاق النووي مع إيران.
فيما يأتي لبنان في آخر مندرجات الاتفاق النووي، غير أن اتفاقاً كهذا، يحتاج لإقناع حلفاء أمريكا في المنطقة الذين ساهموا في عرقلة تنفيذه وصولاً إلى إلغائه من قبل إدارة دونالد ترامب عام 2018، وهم على التوالي: إسرائيل ودول الخليج العربي وفي مقدمتهم السعودية.
الغزل السعودي لطهران
من هنا يرى الشريف، السعي الأمريكي إلى فتح قنوات متعددة، بمساهمة روسية، كما حصل في سوريا من خلال فتح قنوات خلفية سورية ـ إسرائيلية، ومن خلال فتح قناة بغداد للحوار بين السعودية وإيران بحضور خليجي متعدد أحياناً ما حدا بولي العهد محمد بن سلمان للقول خلال مقابلة تلفزيونية، الثلاثاء الماضي، إن "إيران دولة جارة وكل ما نطمح له أن تكون لدينا علاقة طيبة ومميزة معها، لا نريد وضع إيران أن يكون صعباً بالعكس". وأضاف: "لدينا مصلحة في استقرار إيران، ولكن الإشكال في التصرفات السلبية لطهران في برنامجها النووي، وبرنامج صواريخها الباليستية، ودعمها لميليشيات خارجية". وتابع: "نعمل لإيجاد حلول لهذه الإشكاليات، وأن تكون العلاقة طيبة وقوية وفيها منفعة للجميع".
فيما لم يحتج الرد الإيراني أكثر من 48 ساعة إذ صرح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده بالقول: "ترحب إيران بتغيير لهجة المملكة العربية السعودية تجاه إيران الإسلامية، وكانت إيران رائدة في مسار التعاون الإقليمي من خلال تقديم مقترحات وخطط للحوار والتعاون في منطقة الخليج الفارسي، بما في ذلك مبادرة هرمز للسلام". وأضاف "من خلال وجهات النظر البناءة والنهج القائم على الحوار، يمكن لهاتين الدولتين المهمتين في المنطقة والعالم الإسلامي الدخول في فصل جديد من التعاون والحوار لتحقيق السلام والاستقرار والتنمية الإقليمية من خلال التغلب على الخلافات".
المسار الإسرائيلي وترسيم الحدود
أما عن المسار الإسرائيلي فيقول المرجع، إن مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، التقى الثلاثاء أيضاً، نظيره الإسرائيلي، مئير بن شبات، في مقر السفارة الإسرائيلية في واشنطن، واتفق الطرفان على "تحييد الخلافات بشأن العودة الأمريكية المرتقبة إلى الاتفاق النووي مع إيران"، بحسب ما ذكر تقرير إسرائيلي، مساء الأربعاء، والتركيز على المسائل التوافقية بين الجانبين؛ وذلك في ظل قناعة إسرائيلية بأن العودة الأمريكية إلى الاتفاق الموقع عام 2015، "باتت مسألة وقت لا أكثر"، بحسب ما نقل المراسل السياسي لموقع "واللا"، باراك رافيد، عن مسؤولين إسرائيليين.
وأوردت "رويترز" ليل الخميس الجمعة الماضي أن اجتماعاً عقد في واشنطن بين وزير خارجية أمريكا توني بلينكن وفريقه مع مدير "الموساد" يوسي كوهين والسفير الإسرائيلي جلعاد أردان، عبر فيه الوفد الإسرائيلي عن عميق قلقه من العودة للاتفاق النووي مع إيران دون أن تورد الوكالة رد الوزير الأمريكي أو تعليقه، وقد التقى مدير الموساد أيضاً الرئيس بايدن ليل الجمعة السبت بحسب ما أوردت وكالات متعددة.
إذاً وفق خلدون الشريف فإن المحاولات لفتح قنوات بين دمشق وتل أبيب، وقناة في بغداد للتفاوض الخليجي – الإيراني ومحادثات إسرائيلية – أمريكية في واشنطن وعودة لبنانية وإسرائيلية إلى مفاوضات ترسيم الحدود البحرية في الناقورة، خلال أيام قليلة. لقد كان جلياً لكل من التقى هيل أن تأليف الحكومة ليس بمتناول اليد وليس قريباً وهو ليس حتى على الطاولة، لكنه، وبعد لقائه رئيس الجمهورية أعطى انطباعاً بالراحة لقدرته على إقناع عون بعدم فائدة توقيع مرسوم الحدود البحرية.
ويشدد السياسي اللبناني المخضرم أن هيل لم يخف قناعته أن إنقاذ الاقتصاد اللبناني يمر عبر الترسيم والبدء بأعمال التنقيب عن الثروة النفطية والغازية التي قد تكون إلى جانب عناصر أخرى وسيلة إنقاذ للبنان.
وكانت المفاوضات قد انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول 2020 عبر جولات أربع وتوقفت في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني غداة تقديم لبنان طرحاً جديداً حول حدوده البحرية معتمداً الخط 29 بدل 23 كخط وسط للمنطقة الاقتصادية الخالصة (اللبنانية)، وهو طرحٌ يتوافق بالتأكيد مع القانون الدولي، لأن الفريق العسكري المفاوض ووسام شباط والقانوني نجيب مسيحي، أدركوا أنهم يقفون على أرض قانونية شديدة الصلابة "للتفاوض"، ما دفع الأمريكيين لإرسال هيل لدعوة لبنان إلى الاستفادة من الفرصة التي قد تطيح بخط فريدريك هوف وتزيد حصة لبنان لتتجاوز الخط 23 ربما أو تبلغه بالكامل، خاصة أن الإسرائيلي، يرغب باستثمار حقل كاريش بأسرع وقت؛ أما المطالبة اللبنانية بالخط 29 فتطيح بعملية الاستخراج إلى حين.
تساؤلات أمريكية حول لبنان
وليس عبثاً وفق المرجع السياسي أن يكتب الصحفي الأمريكي دايفيد إغناثيوس يوم الثامن والعشرين من أبريل/نيسان افتتاحية في الواشنطن بوست بعد 100 يوم من عهد بايدن جاء فيها ما نصه: "لمَ لا تبدأ (الإدارة الأمريكية) بتفعيل سياستها الخارجية من لبنان عبر استثمار ضخم لإعادة بناء جيش قوي بما يمكّنه من تقليص نفوذ (حزب الله) أخيراً؟"، وأضاف "يُقال إنّ قطر أبدت استعدادها لإنقاذ النظام المالي اللبناني؛ ويمكن لحكومة جديدة، بإصرار الولايات المتحدة، أن تبدأ بمعالجة الفساد؛ ويمكن للجيش المموّل والمدرّب أمريكياً أن يعيد بسط السيادة تدريجياً".
وليس عبثاً أن يكتب السفير الأمريكي السابق إلى المغرب، ورئيس منظمة "تاسك فورس فور ليبانون" american task force for lebanon في صحيفة ذي هيل إدوارد غابريل في السابع والعشرين من أبريل مقالاً يطالب فيه إدارة بايدن بأمور ثلاثة:
الأول: أن تضع الولايات المتحدة بالتعاون مع فرنسا وغيرها، خطوطاً عريضة لخطة تعافٍ تطمئن اللبنانيين إلى اهتمام العالم بهم واستعداده لمساعدتهم عبر صندوق النقد الدولي وكل الأدوات العالمية المتاحة لخطة تشكيل حكومة فعالة.
الثاني: العمل على إطلاق منصة تتولى المساعدات الإنسانية من صحية وطبية وغذائية ومالية للفئات الأكثر حاجة في لبنان من دون الاستعانة بالحكومة اللبنانية وكياناتها، إذ ليس من مصلحة أمريكا وفرنسا وحلفائهم أن تفشل هذه الدولة في شرق المتوسط وأن تنهار لتسقط بالكامل بيد حزب الله الذي أطلق آليات لدعم الموالين لخطه حصراً في الوقت الذي يُترك فيه الموالون للغرب إلى مصائرهم.
الثالث: ضرورة دعم القوات المسلحة اللبنانية، المؤسسة الوحيدة الصامدة في لبنان، والتي تشكل حليفاً استراتيجياً، بل أحد أفضل الشركاء، بحسب وصف وزارة الدفاع الأمريكية، وفي الوقت الذي يسيطر فيه حزب الله على الحدود الجنوبية يصبح دعم الجيش ضرورة ليتمكن من الحضور على كل الحدود. واعتبر إدوارد غابريل أخيراً أن ليس هناك أي فرصة للتوصل إلى حلول تضمن الشفافية والمساءلة والمحاسبة ووضع حد للفساد المستشري مع النخبة السياسية الحالية وأن السبيل الوحيد للتغيير هو عبر الانتخابات النيابية المقبلة في مايو 2022 والتي على الولايات المتحدة أن تصر على إجرائها في موعدها.
كل "عدة الشغل" التفاوضية في المنطقة بحسب الشريف باتت تسير بالتوازي، من فيينا إلى بغداد مع إيران، فالتفاوض البحري مع لبنان والتفاوض مع سوريا.
الضوء في آخر النفق
ينهي الشريف قوله إن 100 يوم في الولاية "البايدنية" وباتت تلوح بشكل واضح بقعة ضوء في آخر النفق اللبناني. قد يطول الانتظار وقد يقصر، بحسب المسارات الأخرى والتوصل إلى نتائج مرضية لكل الأطراف وعنوانها: العودة إلى الاتفاق النووي المقر عام 2015 بكل مندرجاته. بعدها نرى أي حكومة قد تتشكل وأي إصلاح قد يحصل وأي دعم دولي قد يخصص للبنان. وحتى ذلك الحين موسم التقهقر والتراجع والفقر والتحلل مستمر لكن مع ضوء في آخر النفق ربما.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.