في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، ومع بداية ظهور الخوارج وزيادة الانشقاقات والخلافات داخل الدولة الإسلامية، كان لرجل يدعى نافع بن الأزرق، آراء خطيرة ودموية راديكالية أسست لما سُمي بطائفة الأزارقة المتشددة.
يعد الأزارقة من أشهر فرق الخوارج الذين خرجوا من البصرة باتجاه الأهواز، وليس لإنجازاتهم بل لهول ما ارتكبوه، وأفكارهم المتطرفة التي خالفت الشريعة الإسلامية السائدة.
تبع ابن الأزرق عدد كبير من الرجال، وبعد أن ولوا نافع أميراً عليهم، تمكن من تعزيز سلطته في الأهواز وما وراءها من بلاد فارس وكرمان.
تميز نافع بمقدرته الخطابية الفذة وشجاعته التي جعلته صاحب شخصية قيادية أثرت تأثيراً عظيماً على أصحابه وتوَّجته زعيماً كبيراً من زعماء الخوارج، ولكنه أيضاً كان الأعنف، كما ستروي لنا النصوص التاريخية.
التشدد الأموي وظهور طائفة الأزارقة
كان والي البصرة، عبيدالله بن زياد، لا يدع من الخوارج أحداً إلا قتله، لذا لم يجرؤوا على دخول البصرة، ولمَّا توجه ابن زياد إلى الشام بعد وفاة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، دخل الأزارقة البصرة.
لكن أهل المدينة تجمعوا وقاتلوهم وطردوهم، فلجؤوا إلى الأهواز في سنة 64هـ/ 684م.
ويرى بعض المؤرخين أن خلافاً اندلع بين الخوارج أنفسهم، عندما أبدى بعضهم الرغبة في المواجهة العنيفة التي نادى بها جماعة نافع بن الأزرق.
كان نافع يعتبر كل من خالفه الرأي مشركاً وبالتالي يحل دمه وماله وعرضه، وكان هناك من خالفه الرأي، فانشقت صفوفهم وانطلق من البصرة نحو الأهواز بعدما قتل عمال الخلفية والصحابي عبدالله بن الزبير فيها.
عزز الأزارقة سلطتهم على المنطقة عن طريق جباية الأموال وفرض فكر ديني متشدد جرّم الكبائر وحاسب على صغائر الأمور وكبائرها بطريقة قاسية، إلى جانب تكفير كل من خالفهم الرأي، رجالاً ونساءً وأطفالاً، وغيرها الكثير من الأفكار المتطرفة.
أهل البصرة يدافعون عنها
في العام 65 هجرياً، اشتدت المعركة بين الأزارقة وأهل البصرة، ولما وصلهم فكر الأزارقة الدموي ودعوتهم للتكفير والقتل، استعان أهل البصرة بعبدالله بن الحارث الخزاعي الذي أمّر عليهم مسلم بن عبيس.
حض مسلّم الناس على الجهاد ضد هذا التيار الديني المتشدد، فاجتمع 10 آلاف شخص وقال لهم:
"أيها الناس، إنا لسنا نخرج بالذهب ولا بالفضة، إنما نسير إلى قوم إن ظهرنا عليهم كانت غنائمهم أطراف الأسنّة، وإنما يقدمون على الموت ويلقون المنايا، فمن أحب المضي فليمض، ومن كرهه فلينصرف من قريب".
غادر عدد ممن تجمع حوله بداية، ثم انطلق إلى الأهواز لقتال نافع وأتباعه.
في تلك المعركة قتل مسلّم بن عبيس، لكنه كان قد أوصى بأن يتولى من بعده ربيع بن عمرو الغداني.
قُتل بعدها نافع بن الأزرق، وجمع الأزارقة صفوفهم من بعده تحت قيادة عبدالله بن الماحوز التميمي.
انضم عدد كبير من غير العرب إليهم، وسرعان ما هاجموا البصرة من جديد، فانتصروا وفتكوا بأهلها وعاثوا فيها فساداً.
وبما أن العراق كان يتبع الحجاز، فوجَّه عبدالله بن الزبير القياديَّ المهلّب بن أبي صفرة، الذي حاربهم إلى أن تغلب عليهم.
ولم تنته الحرب، بل استمرت المعارك إلى أن قُتل الماحوز التميمي، ثم بايع الأزارقة قطري بن الفجاءة المازني.
ولكن عندما عاد العراق إلى سلطة الخلافة الأموية، قرر والي البصرة خالد بن عبدالله بن أسيد استكمال قتال الخوارج.
اشتبك معهم في معركة قاسية بالأهواز انتهت بهزيمة خالد، فعزل الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان خالداً وولى مكانه بشر بن مروان.
فوّض بشر، المهلب بن أبي صفرة لقتال الأزارقة دون الرجوع لأحد، فواظب على قتالهم إلى أن تولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق وجند جيشاً ضخماً من أهل الكوفة والبصرة.
اشتدت بعدها المعارك بين الطرفين، وانتصر المهلب، مشتتاً تجمع الأزارقة إلى ما وراء بلاد فارس.
ولم يكتف بذلك، بل لاحقهم المهلب نحو سنة ونصف السنة حتى استقروا في منطقة كرمان، واستمر على ذلك لنحو 3 سنوات.
انشقاقات داخلية استغلها الحجاج
إلا أن الحجاج اعتبر أن الأمر طال، فطلب من المهلب حسم الأمر، ولكن كل هذا القتال الشرس كان يتم بالتوازي مع انشقاقات داخلية بين الأزارقة أنفسهم.
إذ عارض البعض بعض ما سموه "المخالفات الشرعية" التي ارتكبها أميرهم قطري بن الفجاءة وانتقدوا القيادات العسكرية وانقسم جمعهم.
بقي الفريق الأول موالياً لقطري بن الفجاءة ومعظمهم عرب، واتخذ القسم الثاني عبد ربه الصغير خلفة لهم، ومعظمهم من الموالي.
وبعد هذا الانشقاق، اندلع القتال بين الفريقين المنشقين لمدة شهر تقريباً.
في هذه الأثناء، كان المهلب يراقب عن كثبٍ جميع هذه التطورات التي تصب لصالحه دون التدخل، كي لا يتحد الجمعان.
انتصر أخيراً عبد ربه في عاصمة كيرمان -جيرفت- وأخرج أتباع قطري منها، فاتجهوا إلى طبرستان.
ولم يكن من المهلب إلا أن استغل هذه الفرصة ليقاتل من بقي من الأزارقة في كرمان وهزمهم هزيمة كاملة في عام 78 هجرية أو 697 ميلادية.
وفي هذه الأثناء وجه الحجاج القائد العسكري سفيان بن الأبرد لقتال القطري وأتباعه في منطقة طبرستان، فحاصرهم وطالب استسلامهم. وعندما رفض القطري اندلع القتال إلى أن قضى ابن الأبرد عليهم جميعاً، في العام نفسه.
معتقدات تكفيرية
اعتبر الأزارقة أن كل من خالفهم بالرأي كافر يحل قتله واستباحة كل ما يملكه.
كفروا العديد من الصحابة ومن ضمنهم الخليفتان عثمان بن عفان والإمام علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وعبدالله بن عباس وطلحة والزبير وحتى أم المؤمنين عائشة ومن كان معها من أصحاب الجمل.
إلى جانب ذلك، دعا ابن الأزرق إلى عدم الاستجابة لنداء الصلاة إذا لم يكن صادراً عنهم، وأن لا يأكلوا من طعام غيرهم ولا يتزوجوا أحداً خارج ملتهم أو يتوارثوا معه.
اعتبر الأزارقة أن المسلمين المعارضين لفكرهم كفرة كعبدة الأوثان، فإما أن يعتنقوا مذهبهم أو يواجهوا السيف.
كما أسقط الأزارقة عقوبة الرجم عن الزاني بذريعة أنها لم تُذكر في القرآن، وأسقطوا حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال وأبقوا حد قاذف المحصنات من النساء.
اعتبروا أيضاً أن كل من ارتكب إحدى الكبائر خرج عن الملة، واعتبروا أن عدم إقامة الصلاة أو الصيام أو التصدّق كفر وإن كان الإنسان يؤمن بالله والرسول، فهي ليست كافية لإثبات الإيمان.
واستحل الأزارقة جحد الأمانة إن كانت لمخالفيهم، وسارعوا إلى تنفيذ حكم قطع اليد يميناً ويساراً دون تحديد نصاب الأمور أو وضع اعتبار لقيمة المسروق.
أوجبوا على المرأة الحائض الصيام والصلاة، وذكر ابن كثير أنهم عندما ذهبوا إلى المدائن "جعلوا يَقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم"، كما جاء في كتاب "البداية والنهاية".
أما عن امتحان الولاء لمن تبعهم حديثاً فكان دموياً هو الآخر، إذ كانوا يضعون أسيراً أمامه ويؤمرون التابع الجديد بقتله، فإن قتله صدقوه وانضم إليهم، وإن رفض قتله كفّروه وقتلوه!