تقسم الدولة العباسية عادةً إلى عصرين، أولهما هو العصر العباسي الأول الذي اتسم بالقوة واتساع رقعة الدولة الإسلامية ويوصف دائماً باعتباره العصر الذهبي. لاحقاً، أدت عوامل الضعف لظهور نزعات انفصالٍ عن الدولة، وهو ما حدث في العصر العباسي الثاني الذي اتسم بالضعف وتحاربَ العرب والأتراك والفرس داخل دولة الخلافة على النفوذ حتى أصبح الخلفاء ألعوبةً في يد قادة الجيش الذي سيطر عليه القادة الأتراك من ناحية، بينما أقام المسلمون من أصل فارسي عدة دويلات على الجانب الآخر.
كان اتساع الدولة الكبير أحد أكبر هذه العوامل التي أدت إلى عدم قدرة الدولة على التحكم في أطرافها، وهو ما جعل هذه النزاعات الانفصالية تقيم دولاً لها. بجانب ذلك ساهم الوضع الاقتصادي المُزري في نهاية عصر الخلافة العباسية إلى غضب الناس ومحاولتهم للخروج عن هذا الوضع.
وطبقاً لرأي الباحثة مها الخليفة -صاحبة بحث في تاريخ الدولة الصفارية– ترى أنه في حين أن دول المغرب الإسلامي اتسمت بالانفصال الكامل عن الدولة العباسية، كانت دول المشرق تتسم عادةً بالتبعية إلى الدولة والحرص على الدعاء للخليفة على المنابر، وعدم الانفصال الروحي عن جسد الخلافة.
كان من أمثال تلك الدويلات التي قامت في العصر العباسي الثاني الدولة الطاهرية والطبرية، والزيارية، والبويهية.
في هذا التقرير نستعرض إحدى هذه الدول: الدولة الصفارية، التي قامت في منطقة سيستان التي يقع جزء منها في إيران وجزءٌ آخر في أفغانستان الحالية، والتي سُميت سجستان أيضاً، والتي بقيت حوالي نصف قرن من الزمان.
يعقوب بن ليث الصفار.. قائد فذ تغلب على أقرانه
في رسالته البحثية، تحت عنوان "الدولة الصفارية"، يروي الدكتور منذر خنفر أنه في عام 844 ظهرت حركة تدعى "المُطوعة" في إقليم خراسان. تطوعوا من أجل محاربة الخوارج وذلك بعد إخفاق حكام الإقليم للتصدي لهم.
وفي عام 862 ومع وصول محمد بن طاهر إلى الحكم خلفاً لأبيه، وبسبب كونه شاباً يحب اللهو، استطاع الخوارج الإغارة على خراسان نفسها، مما دعا يعقوب بن الليث الصفار -وقد كان حينها قائد المطوعة- لاستئذان محمد بن طاهر لمحاربة الخوارج، فأذن له.
لم يقف يعقوب بعد هزيمته للخوارج على انتصاره، وزحف إلى عدة مدن فجعلها تحت إمرته، وكان من بين تلك المدن ما هو تابع للدولة الطاهرية ولقائده المفترض محمد بن طاهر.
عندما دخل يعقوب إلى مدينة هراة، وذلك في عام 867، حاول محمد بن طاهر التصدي له إلا أنه هُزم وأخذ يعقوب أسرى من جيشه، إلا أن الخليفة العباسي توسط عنده ليُفرج عنهم، فأطلق سراحهم عندما وصل إلى سجستان. ويمكن لنا الآن أن نتخيل كيف كان الخليفة العباسي يحكم بالاسم فقط، فهو يتوسط لدى أحد أتباعه ليطلق سراح أسرى أحد أتباعه الآخرين.
وعند وصوله إلى سجستان استولى عليها وجعلها تحت إمرته، وأمر بالدعاء له وللخليفة العباسي على المنابر، وأرسل يطلب من الخليفة توليته على ولاية كرمان، فوافق الخليفة المعتز، لكنه وافق على طلب والي فارس علي بن الحسين لتوليته على كرمان أيضاً. وهكذا أصبح هناك واليان على إقليم سجستان.
أراد المعتز من هذه المناورة تحطيم أحد القوتين لينفرد هو بالقوة الأخرى، لأنه كان يرى يعقوب بن الليث الصفار تهديداً مستقبلياً لدولته لاستيلائه على أملاكها الشرقية، ولأن علي بن الحسين تباطأ في حمل خراج فارس مما اعتبره المعتز خطراً على الدولة أيضاً.
بناء على هذا الوضع المضطرب، وصل مبعوث علي بن الحسين إلى سجستان قبل وصول يعقوب إليها، ما جعل يعقوب يحاصر المدينة، وعندما أتم الحصار شهرين، ولم يجد يعقوب بُداً من الدخول، اعتمد على الخداع، فتظاهر بأنه ينسحب، مما جعل المُحاصَرِين يحتفلون بذهاب جيش الصفار، وفُجئوا حينها بيعقوب فوق رؤوسهم، وأُسِر القائد وقُتل جنوده، وبذلك استولى يعقوب على سجستان عام 868.
بعد تولِي يعقوب حكم كرمان، أرسل إلى الخليفة هديةً ومعها رسالة يطلب فيها عزل علي بن الحسين وتقليده بلاد فارس كلها بدلاً منه. وتعهَّد يعقوب بدفع خراج بلاد فارس سنوياً.
توجه يعقوب بعد هذه الرسالة إلى بلاد فارس، واتجه علي بن الحسين إلى شيراز وسيطر على موقعٍ استراتيجي يقع بين جبلٍ ونهر، ولا يمكن العبور إليه إلا عن طريق مضيق لا يمكن إلا لشخصٍ واحد العبور منه.
أكل يعقوب الطُّعم، وأمر جنوده بترك كل ما هو ثقيل وعبور النهر مع الخيل، لكن الطعم انقلب نصراً فجأة! ويبدو أن يعقوب بن الليث الصفار كان قائداً فذاً. فقد انقلب الحال واستطاع يعقوب الانقضاض على جيش علي، إلى أن ألقى القبض عليه، ويذكر ابن الأثير في كتابه الكامل أن يعقوب عذب علي بن الحسين ليدله على موضع الأموال والمقتنيات الثمينة التي بحوزته، مما جعله يحصل على الكثير من المال.
أرسل يعقوب بعد المعركة إلى الخليفة باقةً من الهدايا الثمينة، لكنَّه استغل الظروف في نفس الوقت؛ إذ كانت الخلافة العباسية تحارب ثورة الزنج، فاتجه يعقوب نحو كابل وقبض على ملكها، وكان الخليفة المعتمد قد تولى الحكم في ذلك الوقت، فأرسل يعقوب مجموعة من الأصنام دليلاً على وثنية تلك البلاد التي استولى عليها.
ويقول الدكتور منذر خنفر إن هذه الواقعة تجعل البعض ينظر إلى يعقوب على أنه صاحب فضل نشر الإسلام في بلاد أفغانستان، وذلك في عام 870.
أخذ يعقوب منذ عام 870 إلى عام 873 يوسع دولته بالاستيلاء على الكثير من المدن، وكان في ذلك الوقت لم يتبقَّ إلا بعض المناطق في خراسان تابعة لوالي خراسان محمد بن طاهر والتي اتخذ من نيسابور عاصمة لها، فقرر يعقوب القضاء على الدولة الطاهرية تماماً بالاستيلاء على ما تبقى لها من أراضٍ، ودخل نيسابور عام 873، إلا أن الخليفة لم يقره على فعلته وأمره بالرحيل، لكن يعقوب لم يستجب لنداء الخليفة وضم خراسان إليه، ومضى في توسيع رقعة بلاده متحدياً الخليفة.
الدولة الصفارية في مواجهة الخلافة العباسية
بعد أن استتب الوضع ليعقوب في حكم بلاده، أعلن أنه سيتقدم إلى العراق نفسها، وهي عاصمة الخلافة العباسية، وعلَّل خروجه وفقاً لما أورده المسعودي في كتابه مروج الذهب أنه يُنكر على الخليفة المعتمد ومن معه من القادة الأتراك إضاعتهم للدين وإهمالهم مواجهة ثورة الزنج حتى تفاقمت، وقامت المعركة بينه وبين قوات الخليفة في دير العاقول التي تبعد عن بغداد بحوالي 80 كيلو وذلك عام 875.
أحرز الصفار نصراً مبدئياً في بداية المعركة، لكن سلطة الخليفة الروحية فعلت فعلها. فما إن رأى جنود الصفار الخليفة المعتمد يحارب وسط الصفوف ضد الصفار الذي كان في أول أمره جندياً من المطوعة يحارب الخارجين عن الخليفة، حتى انضموا إلى الخليفة وقاتلوا الصفار وانقلب النصر هزيمةً ساحقة!
أُصيب يعقوب بثلاثة جروحٍ بالغة وأوقف القتال بعد أن قُتل الكثير من أصحابه المقربين، وقفل هارباً لينجو ببقية من معه.
بعد ذلك، حاولت الخلافة القضاء على الحكم الصفاري بصورةٍ كلية؛ فأصدر الخليفة المعتمد مرسوماً بتعيين محمد بن طاهر – وقد أُطلق سراحه أثناء معركة دير العاقول – مجدداً على ولاية خراسان وبتولية ابن واصل بلاد فارس.
إلا أن هذا لم يجعل يعقوب يتراجع، إذ لم يتولَّ محمد بن طاهر ولاية خراسان إلا شكلياً حيث لم يترك بغداد بعد إطلاق سراحه إلى أن مات، أما عن ابن واصل فقد أُسر واقتيد إلى يعقوب، ووطد يعقوب حكمه على حكم بلاد فارس وسُكت العملة باسمه.
في تلك الأثناء أرسل قائد ثورة الزنج يحثُّ يعقوب على العودة إلى مهاجمة بغداد، ويعده بالمساعدة، فبعث يعقوب إليه برسالة يقول فيها: "قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون"، إذ نظر يعقوب إلى الزنج باعتبارهم مارقين، إلا أنه ظل يُعد جيشه لملاقاة جيش الخليفة مرةً أخرى.
في هذا الوقت لم يكن المعتمد متفرغاً لقتال الصفار؛ إذ إنه كان منشغلاً بالقضاء على ثورة الزنج، وعندما علم الخليفة نية يعقوب، أرسل إليه رسولاً يبلغه أن الخليفة سيوليه فارس لكي يكف عن قتاله، وكان يعقوب حينها مريضاً، فلما سمع الرسالة قال يعقوب للرسول كما نقل ابن الأثير، وكان ذلك عام 878: "قل للخليفة إني عليل، فإن متّ فقد استرحت منك واسترحتَ منّي، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف، حتى آخذ بثأري أو تكسرني"، ولم يلبث يعقوب أن توفي بعدها في نيسابور عام 879، وأمر أن يُكتب على قبره: هذا قبر يعقوب المسكين.
تولى بعد يعقوب بن الليث الصفار أخوه عمرو بن ليث الصفار، واستمرت الدولة الصفارية إلى عام 912 والتي استولت بعدها الدولة السامانية على حكم هذه الأراضي.