يبدو أن اليمين المتطرف في فرنسا يعيش لحظة صعود تاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، وكلما وقع حادث إرهابي سارع إيمانويل ماكرون وماري لوبان إلى انتهاز الفرصة والنفخ أكثر في النيران المشتعلة بالفعل.
وقد كشفت حادثة الطعن التي أسفر عنها مقتل شرطية فرنسية على يد مهاجر تونسي مسلم الجمعة 23 أبريل/نيسان عن هذه الحقيقة بصورة واضحة، إذ نشرت صحيفة The New York Times الأمريكية تقريراً لها بعنوان "المخاوف من الإرهاب تغذِّي صعود اليمين المتطرف في فرنسا"، ألقى الضوء على خطورة ما تشهده فرنسا التي يمثل عدد الجالية المسلمة فيها ما يقرب من 10% من السكان.
وتشهد فرنسا العام المقبل انتخابات رئاسية من المتوقع أن تشهد منافسة محتدمة بين الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون من جهة وبين اليمينية المتطرفة ماريان لوبان زعيمة حزب التجمع الوطني المعادي للمسلمين، وتظهر استطلاعات الرأي أن فرصة لوبان في الفوز تبدو مواتية هذه المرة بعد أن فشلت مرتين في جولة الإعادة الحاسمة.
وانتهزت لوبان فرصة حادثة طعن الشرطية وقالت لشبكة BFM-TV الإخبارية بأن فرنسا يجب أن "تطرد مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين على أراضيها. فرنسا بحاجة إلى أن تعاود الاحتكام إلى العقل. ادعموا الشرطة واطردوا غير الشرعيين واستأصلوا الإسلاموية"، وتساءلت كيف يمكن "لشخص ظل في فرنسا بطريقة غير قانونية لمدة 10 سنوات أن يُقبل بتسوية وضعه؟".
اليمين المتطرف واللحظة التاريخية
وكان آلا فراشون، المحرر السابق بصحيفة Le Monde الفرنسية قد قال: "لا تحتاج مارين لوبان إلى قول أي شيء. ففي كل مرة تتعرض فيها فرنسا لعملية إرهابية، يكون اليمين المتطرف أكبر المنتفعين"، وذلك في إشارة إلى حادثة الطعن التي أسفرت عن مقتل الشرطية بعد أن هاجمها المهاجر التونسي، الذي أقام في فرنسا لمدة عقد دون أوراق قانونية قبل الحصول على إذن بالبقاء في عام 2019 ثم تصريح إقامة مؤقت العام الماضي.
ويهيمن التوتر على الأجواء بشكل عام في فرنسا بعد سلسلة من الهجمات الإرهابية، إذ يتعالى صدى خطاب لوبان اليميني ويشتد تأثيره، وفي المقابل تبدو قوى اليسار في حالة يرثى لها، حيث تعاني من غياب زعيمٍ تجتمع حوله أو رسالة تمنحها الفاعلية، وهي ليس لديها حل لأسئلة اللحظة الراهنة.
وفرنسا الآن منقسمة بين مؤيدين متحمسين للشرطة والأمن من القوى اليمينية، التي تجادل بأن الشرطة مقيَّدة من الحكومة رغم أنها معرَّضة لخطر مزدوج: التخريب والإرهاب، وعلى الطرف الآخر، قوى يسارية، يتركز نقدها على وقائع العنف المتكررة من الشرطة، والأوضاع المزرية التي يعيشها كثير من المسلمين الفرنسيين في ضواحي بائسة أشبه بالغيتوهات المعزولة.
في الهجوم الذي وقع يوم الجمعة الماضي 23 أبريل/نيسان، تلقَّت ضابطة شرطة تبلغ من العمر 49 عاماً، تُدعى ستيفاني وهي أم لطفلين، طعنتين في رقبتها في رامبوييه، وهي بلدة مزدهرة تقع في جنوب غرب باريس. ومن المتوقع أن يُفاقم مقتلها من حدة هذه المعركة الاجتماعية، التي تنطوي على تشابه واضح مع الانقسامات التي يشهدها المجتمع الأمريكي حول دور الشرطة وصلاحياتها.
أطلقت الشرطة الفرنسية النار وقتلت الرجل، الذي عُرَّف على أنه المهاجم، وهو تونسي يبلغ من العمر 36 عاماً، ولم يكن مصنَّفاً لدى أجهزة الاستخبارات الفرنسية الداخلية، وأفادت وكالة الأنباء الفرنسية بأن منشورات المهاجم، الذي عُرِّف فقط باسم جمال، على وسائل التواصل الاجتماعي كانت في كثير من الأحيان مخصصةً للتنديد بالإسلاموفوبيا في فرنسا، وللهجوم على شخصيات إعلامية يمينية بارزة، منهم الصحفي الفرنسي إريك زمور، مؤلف كتاب "الانتحار الفرنسي"، الأكثر مبيعاً في فرنسا.
ماذا عن موقف ماكرون؟
ولم يفوّت ماكرون نفسه جريمة القتل الأخيرة وأصدر تعهداً جديداً بمقاتلة ما سمّاه "الإرهاب الإسلاموي" بلا هوادة. وقبل وقوع الحادثة الأخيرة، كان ماكرون قد وعد في مقابلة مع صحيفة Le Figaro بتجنيد 10 آلاف شرطي وجندي درك إضافي، وهو ما يعكس تصميمه على إرساء ما يُسميه "الحق في حياة ملؤها السلام"، لكن سرعان ما استهزأ نقاده بهذه العبارة بعد واقعة الطعن الأخيرة.
وكتب غيوم بلتيير من حزب "الجمهوريين" الفرنسي، المنتمي إلى قوى يمين الوسط، على موقع تويتر ساخراً: "حياة ملؤها السلام، إيمانويل ماكرون؟"، واتهم ماكرون بـ"تقاعس لا يُغتفر عن إبداء الشجاعة والعمل" بخطوات ملموسة. أما لوبان، فقد كانت أشد صراحةً بكثير: "لا يمكن لفرنسا أن تتحمل هذا بعد الآن".
ويؤكد موقف ماكرون الحالي، وهو الذي كان ينتمي سابقاً إلى قوى الوسط ونجح في الانتخابات الأخيرة على أرضية بعيدة عن اليمين المتطرف، أنه قد قرر التقرب إلى اليمين المتطرف أكثر فأكثر، لا سيما مع غياب أي تهديد له من اليسار، وحدد ما سماه "الانفصالية الإسلامية" تهديداً للجمهورية الفرنسية، ولا يزال مشروع القانون الذي أعدَّه الرئيس معروضاً على البرلمان، ويُقال إن الهدف منه مواجهة منابع التطرف بين مجتمع الأقلية المسلمة الضخمة في فرنسا.
مشروع القانون الذي أعدَّته الحكومة هاجمته قوى اليمين بدعوى أنه معتدل للغاية، وهاجمه اليسار باعتباره تحريفاً للنموذج العلماني الفرنسي وتحويله إلى أداة لاستهداف المسلمين بالمعاداة، ومن ثم أبان الجدل حول مشروع القانون عن حجم التصدعات والانقسامات المتزايدة في البلاد.
فرصة لوبان قوية للفوز
من جهة أخرى، فإن استطلاعات الرأي المتعلقة بالانتخابات الفرنسية المقررة في العام المقبل تُشير إلى أن لوبان، التي تخلت عن دعواتها السابقة إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي والانصراف عن عملة يورو في خضم محاولاتها لتقريب خطابها من الاتجاه العام السائد، من المرجح أن تخوض منافسة متقاربة مع ماكرون في سباق الوصول إلى الرئاسة.
ويُنظر إلى احتمال وصولهما إلى جولة إعادة على أنه السيناريو الأرجح للجولة الثانية من التصويت. ولأن كثيراً من ناخبي ماكرون هم من يسار الوسط الذين خاب أملهم فيه بعد تصويتهم له في انتخابات عام 2017 وقالوا إنهم لن يصوتوا له مرة أخرى تحت أي ظرف من الظروف، فإن الافتراضات بأن فرنسا لن تتجه أبداً إلى أقصى اليمين تبدو الآن أضعف من أي وقت مضى.
رغم أن لوبان وصلت للجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية مرتين من قبل وتعرضت للهزيمة في الجولة الأخيرة، فإن هناك مخاوف هذه المرة من أنها تستطيع التغلب على ماكرون في الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة المقررة عام 2022، حتى لو كانت استطلاعات الرأي تنفي ذلك، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
ومع ذلك، يصعب قياس المزاج العام وانحيازاته في بلد لا يزال قيد الإغلاق في محاولة لمواجهة الوباء، وفي الوقت الحالي، تظل التوترات مكبوتةً بدرجة ما بسبب صعوبة التنقل والخروج، لكن مع رفع هذه القيود خلال الصيف، ستصبح خطوط المعركة الانتخابية أوضح وأشد حسماً.
ومن المنتظر، على وجه الخصوص، إذا وصلت لوبان إلى الحكم أن نرى مدى نجاح جهودها المضنية لتحقيق ما أطلق عليه المحللون في بلادها "التكرار المبتذل" الرامي إلى التطبيع مع الدعاوى اليمينية – ويقصدون به إخفاء أو تلطيف أي تهديد يميني من خلال لهجة هادئة والإعلان عن تأييد بعض السياسات الأكثر اعتدالاً.
ويكفي في هذا السياق الإحالةُ إلى دعوتها الأخيرة إلى ترحيل "مئات الآلاف من غير الشرعيين"، وما قد يستدعيه ذلك من عمليات إعادة جماعية وفوضى، وكل ذلك كان بمثابة تذكير بما يمكن أن تخفيه لوبان وراء المظهر اللطيف البادي للعيان.