أسعد داغر، اسم غير متداول في عالم السياسة والصحافة، ربما هي مشكلة جيلنا في عدم التعرف الدقيق على تاريخه العربي القديم والحديث، وبالتالي جهل أسماء وصفات مَن صنعوه بسلبياته وإيجابياته.
جيل ينقاد خلف التكنولوجيا انقياداً أعمى، لكأنها تعني التضاد الكلي مع التاريخ، ولكأن المعرفة التي تحتويها لا تتكامل مع المعرفة التاريخية، كأن وادياً سحيقاً يفصل بين الاثنين ولا سبيل للتلاقي إطلاقاً، لكن حقيقة الأمر أن التكنولوجيا يجب أن تكون في خدمة التاريخ، ألسنا نعيش في عصر السرعة؟ أوَليست التكنولوجيا هي حصان هذا العصر الذي لا يتعب؟ إذاً لماذا لا نجعل من تاريخنا القديم والمعاصر محتوى رقمياً يجذب الأجيال الجديدة، وهنا ليس القصد طبعاً تحويل كل هذا التاريخ إلى محتوى، وإن فعلنا ذلك فهو أمر محمود، لكن المقصود الأحداث الكبرى والشخصيات التي كان لها كثير أثر في صُنع هذا التاريخ.
وأسعد داغر هو واحد من هؤلاء، ساهم بصناعة تاريخنا العربي في الزمن الصعب، زمن انتهاء السلطنة العثمانية، وسيطرة الانتداب الأجنبي على مناطقنا، والوحدة العربية وإن بدت مصطنعة في بعض محطاتها، وعدم ولادة كيانات عربية يمكنها أن تشكل إطاراً للعيش.
حتى جوجل الذي يعد أهم موسوعة تاريخية وغير تاريخية، لم يتعرف على أسعد داغر عندما تطلب منه البحث عنه، فيحيلك إلى الشاعر السوري أسعد داغر لا القيادي في الثورة العربية الكبرى، ومؤسس أول جريدة جامعة في القاهرة، ولا المفكر اللبناني العروبي أسعد داغر، المسيحي البتروني الذي درس الفقه الإسلامي في مدينة طرابلس.
من هنا تكمن أهمية إعادة "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، نشر مذكرات داغر تحت عنوان: "مذكراتي على هامش القضية العربية"، وهو كتاب كان قد نُشر بعد وفاة داغر عام 1959، وتولى العام الماضي الدكتور خالد زيادة تحقيقه وتقديمه مع شروحات عديدة على الهوامش وبعد التصويبات الداخلية.
ويميط هذا الكتاب اللثام عن شخصية لبنانية مسيحية، فضلت على عكس أبناء بيئتها آنذاك، التوجه نحو إسطنبول بدلاً من باريس لتلقي العلم، ومن هنا يمكننا أن نستشرف موقف داغر من التطورات السياسية والأحداث التي طبعت تلك المرحلة في تاريخنا العربي.
فداغر الذي تعرف على الإسلام في المدرسة الرهبانية عن طريق رفيقه رياض الصلح، لم يكن سمع به من قبل، سيزور طرابلس ويمكث فيها لتعلم الفقه الإسلامي على أيدي علمائها، وما أدراك ما كانت طرابلس في تلك السنوات من القرن الماضي ومطلع القرن العشرين؟ شعلة عربية لا تنطفئ، فكان من الطبيعي أن يتأثر داغر بنورها وطروحاتها وبطولات أهلها ونصرتهم لقضايا الأمة العربية.
ومذ ذاك الوقت، نشأت بينه وبين القضية العربية حالة عشق غير مسبوقة، كان حالماً بالوحدة ساعياً لها، طامحاً لأن تكون البلاد العربية موحدة، ولم يتأخر في بذل كل جهد لتحقيق ذلك، فتراه في إسطنبول ساعياً مع المنتدى العربي هناك لتوحيد الصفوف وتوضيح الأهداف، فدمشق مناصراً لجهاد أهلها ضد الانتداب، ثم بغداد للتواصل مع القيادات الثورية وتأمين الدعم للثورة، كانت الثورة العربية بالنسبة له طفل منّ الله به عليه بعد سنوات طويلة من الزواج، فأحسن مثواه.
في الباخرة إلى تركيا سيتعرف على عبدالحميد الزهراوي أحد نواب سوريا في "مجلس المبعوثان"، فيتقرب منه بعد إعجاب الأخير بفكره وطروحاته، وسيكون ذلك مدخلاً لعلاقات لا تنتهي مع القيادات العربية والفعاليات وأصحاب الرأي والمفكرين وأهل السياسة والعسكر جميعاً.
واللافت أنّ داغر لم يكن مجر شاهد على الأحداث، بل كان ممن يبادرون على الدوام للتقريب بين قيادات الثورة، عاملاً على جمع الصفوف بين قياداتها، صديقاً للجميع لما خبروا فيه من وفاء وإيمان وتفانٍ في خدمة القضية، التي يؤمن أنها الخلاص لـ"أمة عربية قوية وحديثة".
لذا حاز ثقة كل المسؤولين الكبار من الشريف حسين وولده فيصل من بعده، إلى الأمير فيصل بن عبدالعزيز في الحجاز، بعد ذلك، وكان كل همه "توحيد العرب واستعادة فلسطين".
إلا أنه اصطدم دائماً وأبداً في مسعاه بالطموحات الشخصية وعظمة الأنا، والخيانة، لكثير من الفاعين آنذاك في الحياة السياسية العربية وأبرزهم نوري السعيد، فراح يبحث عن "نبي" يكون الخلاص للأمة التي لا تقوم بمفهومه إلا بمصر وسوريا وبغداد والرياض، فراهن على الملك فيصل ابن الشريف حسين لكن رهانه خاب، حاول الرهان على من سواه، لكنه أيضاً أصيب بالخيبة، إلى أن شهدت مصر ثورة الضباط الأحرار، فوجد بجمال عبدالناصر ضالته، لكنه توفي عام 1958 من دون أن يرى ماذا حلّ للعرب مع عبدالناصر وبعده.
يشكل كتاب داغر هذا قيمة عربية نادرة، فهو يضعك على تماس مباشر مع بدايات الثورة العربية الكبرى، مروراً بمراحلها وصولاً لنهايتها، والأهم أنك تقرأها من الداخل، من شخصية كانت على دراية بكل فعل وفصل فيها، لا عبر مؤرخين يأخذهم قلمهم حيث هواهم، إنما بحق ما تضع يدك عليه في مذكرات داغر موضوعية فقدت في عالمنا العربي، وما تجده منه من حرص على القضية المركزية فلسطين بات في خبر كان هذه الأيام.. ولكم نحتاج إلى كتابات مماثلة تضعنا أمام الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقصان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.