" أنا ابن لهذه المرحلة والمراحل التي سبقتها.. هنت عندما هان كل شيء وسقطت كما سقط الجميع في بئر سحيقة من اللامبالاة والإحساس بالعجز وقلة الحيلة. لكني اصطدمت بحالة خاصة شديدة الخصوصية، جعلتني أراجع نفسي أراجع موقفي كله أراجع حياتي وحياتنا.. اصطدمت بالمستقبل!
صبي من الذين حُكم عليهم.. رأيت فيه المستقبل الذى يحمل لنا طوق نجاة حقيقياً. رأيتنا نسحقه دون أن يهتز لنا جفن، نقتله ونحن متصورون أن هذه هي طبائع الأمور".
تلك كلمات مجمعة من المرافعة الشهيرة للراحل الباقي أحمد زكي في فيلم "ضد الحكومة" الذي خرج للنور ليناقش قضايا هامة في أوائل التسعينات، لكن وبعد مرور ثلاثة عقود نجد أنفسنا نعيد الكرة ونسترجع المشهد لنستخلص منه كلمات تكاد تكون أبلغ ما يوصف للحالة التي نعيشها ونخوض في قضاياها الآن.
مع فارق أن القضية من دون قاضٍ والأطراف المعنية هم الشعب المجني عليه، والشعب الجاني وهم من سينطقون الحكم في نهاية الجلسة.
أيمن موسى
شاب مصري تم إلقاء القبض عليه في منطقة رمسيس بالقاهرة يوم ٦ أكتوبر عام ٢٠١٣ وضمّه ضمن قضية تجمهر مع كثيرين وتم الحكم على أغلبهم بالسجن 15 عاماً وعلى مدار 7 سنوات ونصف أفرج عن بعضهم بعفو رئاسي.
أيمن موسى الشاب صاحب التسعة عشر عاماً -آنذاك- والمحكوم عليه هو نفسه الشاب العشريني الذي يطلب المتضامنين معه، وبالأخص عائلته التي أصبحت مكونة من فردين بعد أن قُبض على أيمن وتوفي والده وصارت والدته قعيدة ورفيقة للحزن على ما آلت إليه أحوالهم، من القيادة السياسية ومن يملك قوة القرار بالإفراج عنه "بعفو رئاسي" استناداً إلى قضائه نصف المدة المقررة. واستناداً إلى الضمير الإنساني الذي لا يرضى بأي شكل من الأشكال أن يثقب المستقبل الذي يحمل لنا طوق النجاة، ويُسحق دون أن يهتز لنا جفن، ويقتل أمام أعيننا ونحن متصورون أن هذه هي طبائع الأمور.
وإن كنت شاباً مصرياً فمن الأرجح ستصبح رؤياك للقضية أن أيمن موسى ليس بالشيء الفريد والنادر بل حالة عامة قد طالت أغلب شباب الوطن، فمنهم في السجون ومن في الشتات ومنهم من افترش الأرض بعد أن تحطمت آماله وأحلامه.
وإن كنت كهلاً أشيب فسترى المستقبل يلفظ أنفاسه الأخيرة وأنت ساقط كما سقط الجميع في بئر سحيقة من اللامبالاة والإحساس بالعجز وقلة الحيلة.
هل أصبحت القضايا السياسية تابوو؟
إبان حملة التضامن مع أيمن موسى جاءني من العدم سؤال يبدو عقلانياً بعض الشيء: هل أصبحت القضايا السياسية تابوو؟
سؤال قد ترتب على ظهور فئة جديدة من المتضامنين مع أيمن، فئة تضم المؤثرين والممثلين وبعض الشخصيات العامة التي لا تمت للسياسة بأي صلة.
سؤال يُوحي للمرة الأولى بأنه يناقض السطور السابقة وأكاد أجزم بأنك تعتقد أنني مخبول بطرحي ذلك السؤال. لكن إذا خرجت من عنق الزجاجة ونظرت إلى القضية بنظرة شمولية فمن المؤكد أنك ستدرك مكنون السؤال. على سبيل المثال، من المحتمل أن هؤلاء المؤثرين والممثلين وبعض الشخصيات العامة قد علموا بوجود كاتبة ومدونة مصرية تسمى شيماء سامي تم إلقاء القبض عليها يوم ٢٠ مايو العام الماضي قبل موعد الإفطار بساعة واحدة. ثم اختفت قسرياً لمدة 10 أيام ومن بعد ظهرت في النيابة العامة ليتم اتهامها "بالانضمام لجماعة محظورة ونشر أخبار كاذبة"، ومن حينها يتم مراعاة التجديد لها. أو قد سمعوا سمع العابرين عن ماهينور المصري أو عمرو إمام أو الكاتب والصحفي الكبير جمال الجمل، أو الباحث باتريك جورج وكلهم معتقلون أيضاً.
ففي عصر "التريند" والسوشيال ميديا التي تعتبر أرضاً خصبة لانتشار المعلومات والقضايا والأحداث على مدار الساعة فأكاد أجزم بأنهم قد علموا بوجود مظلوم ما في مكان ما على هذه الأرض ولم يتضامنون معه إلا من رحم ربي.
وحديثي هذا ليس بوصاية أو مزايدة على أحد، فقط أتساءل: هل أصبحت القضايا السياسية تابوو حتى نخشى الحديث عنها أو نادراً ما نجد أفراداً من فئات الشعب المختلفة يتضامنون مع قضية سياسية بعينها!
وإذا حدثت النادرة ورأينا متضامنين مع قضية سياسية مثل قضية أيمن موسى لنجدهم يهللون بفكرة أنهم متضامنين فقط لأنها قضية إنسانية ومقتنعين بأن المجني عليه أيمن موسى مذنب ويستحق العقاب، لكن تكفي ثماني سنوات قد قضاها الفتى!
وإذا سلمنا بفرضية أن أيمن موسى شارك في التجمهر فبأي منطق تصبح المطالبة بالحقوق ذنباً يعاقب عليه القانون؟ وإذا افترضنا الرواية الأخرى فبأي ذنب يتم ضم مواطن "له ما له وعليه ما عليه" في قضية ليس شريكاً بها؟ وفي تلك الحالتين أيمن موسى ليس مذنباً، وعلى الرغم من كل هذا يظل البعض مؤمناً بأنه أذنب مع مراعاة التضامن معه.
لكن لا يسعني سوى أن أقول إن هذه هي طبائع الأمور في وطني المجيد.
"ربما ذنبه الوحيد أنه وُلد حاملاً الجنسية المصرية خصوصاً في تلك الحقبة الزمنية الأسوأ على الإطلاق في التاريخ المصري المعاصر".
حين يتم اعتقال فتاة من بيتها وتختفي قسرياً لمدة 10 أيام وكل هذا بسبب رأيها، أليس هذا بخرق واضح للحق الإنساني كما حدث مع الكاتبة شيماء سامي.
وحين يتم اعتقال رجل مُسن فور وصوله إلى مطار القاهرة دون أي مراعاة لكبر سنه أو حتى حالته الصحية المتدنية وكل هذا بسبب رأيه المعارض لسياسات الحكم كما حدث مع الكاتب الصحفي جمال الجمل، أليس هذا بخرق للحق الإنساني.
وحين يتم اعتقال إنسان وحرمانه من حريته بسبب آرائه التي لا تهوى على مزاج البعض أليس ذلك انتهاكاً للإنسانية ويستحق منا التضامن معه بدعوى الإنسانية. والكثير الكثير من الأمثلة والقضايا والأحداث المشابهة.
نحن نصدق وندعم سجناء الرأي
إذا كانت النسوية العربية ومعها الأغلبية يطالبن ويسعون لترسيخ مبدأ "تصديق الناجيات" فوجب علينا أيضاً لتحقيق العدالة المجتمعية والتوازن المنشود ترسيخ فكرة أن سجناء الرأي مظاليم أصحاب حق وأننا نصدقهم وندعمهم.
" سيدي الرئيس
كل ما أطالب به أن نصلي جميعاً صلاة واحدة لله الواحد إله العدل الواحد الأحد القهار
لست صاحب مصلحة خاصة
وليست لي سابق معرفة بالشخوص الذين أطلب مساءلتهم
لكن لدي علاقة ومصلحة في هذا البلد
لدى مستقبل هنا أريد أن أحميه، أنا لا أدين أحداً بشكل مسبق
سيدي الرئيس
أنا ومعي المستقبل كله نلوذ بكم ونلجأ إليكم
فأغيثونا.. أغيثونا"
الوطن ليس بفرد، والفرد ليس بوطن، ولا يصح أن يتمثل في شخصية بعينها، الوطن المجيد للشعب المجيد، الوطن لأبنائه الذين يؤمنون به رغماً عن كل شيء.
فوجب على العاقلين القلائل أصحاب القرار هنا أن ينهوا الصراعات والنزاعات الداخلية، وأولى خطوات الحل هي الإفراج عن معتقلين الرأي وتسوية كافة القضايا، والأخذ بعين الاعتبار أنهم جزء لا يتجزأ من الوطن، لنستطيع فيما بعد مواجهة كافة التحديات والعقبات الخارجية التي تواجه الدولة المصرية ولنخلق التوازن الداخلي بين فئات الشعب من قيادة إلى مواطن له ما له وعليه ما عليه.
فلتحيا مصر بأبنائها الذين في السجون والشتات ومن افترش التراب منهم، فلتحيا مصر بمن آمن بها، فلتحيا مصر بنا نحن أبناء الوطن المجيد الواحد نحن شركاء الأرض والعرض والحرية والكرامة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.