في بركة من الماء العذب النقي، محاطة بالفواكه من كل الأنواع والأشكال، يقضي الملك تانتالوس عقابه الأبدي، في أسفل درجات "تارتاراس"، الجحيم في ميثولوجي اليونان، فوق رأسه حجارة ضخمة، مهددة بالسقوط على رأسه في أي ثانية، لكنها لا تسقط أبداً، فقط تتركه في خوف وهرع دائمين، بينما المياه تغطي جسده حتى ذقنه، كلما حاول الشرب، تنسحب من حوله مياه البركة، وإذا حاول قطف إحدى حبات الفاكهة من أي شجرة تبتعد عنه فروع الشجر فوراً، ليكون عقابه أن ما يتمناه بين يديه، لكنه بعيد عن متناوله في نفس الوقت، لذلك تمت تسمية العنصر الكيميائي تانتالوم (الرمز Ta، العدد الذري 73) على أسطورة تانتالوس، في إشارة إلى أن العنصر عندما يغمر في حمض فإنه يعجز عن استيعاب أو امتصاص شيء منه.
من هو تانتالوس؟
كان تانتالوس في يوم من الأيام ملكاً عظيم، اختصته الآلهة بما يحلم به أي بشر، فكان مقرباً منهم، وله امتيازات مثل مشاركتهم الطعام، وزيارة الآلهة في جبل "أوليمبوس" مقر آلهة اليونان القديمة، وهو أحد الأبناء الكثيرين لكبير الآلهة "زيوس"، من امرأة بشرية، لذلك فهو أيضاً نصف إله، ويحكم مملكة غنية تعيش في سلام، لكنه لم يحفظ جميل الآلهة.
اعتاد الملك السابق على نقل أسرار الآلهة، والسخرية من جلساتهم مع أصحابه، بحكم أنه كان أحياناً يشارك الآلهة مائدة الطعام، فكان يسمع خططهم وأحاديثهم الجانبية، ثم في إحدى المرات سرق بعضاً من Nectar وambrosia (طعام الخلود) من على طاولة الآلهة، وهو طعام ممنوع على البشر ومحرم عليهم، ورواية أقل دقة تقول إنه سرق أو اشترك في سرقة كلب ذهبي، خاص بالآلهة، بالطبع علمت الآلهة بما يفعل، لكنهم تغاضوا وتجاهلوا الأمر لأنهم استمتعوا بجلسته، وأحبوا وجوده بينهم، حتى فعل ما لا يمكن غفرانه.
العشاء الأخير
في يوم من الأيام دعا تانتالوس الآلهة إلى احتفالية كبيرة في منزله، ليردّ لهم مشاركته طاولتهم ووعد بتقديم أفضل قربان على الإطلاق، كما هي العادة وقتها، يقدم الجميع بعض طعامهم كقربان للتقرب من الآلهة، فأراد الملك الحصول على امتيازات أكبر، اختلفت الروايات في أنه أمر بتقديم أبنائه أو ابنه الأكبر "بيلبوس" فقط على مائدة طعام الآلهة.
تعد أكبر المحرمات أو الجرائم عند الآلهة قتل أفراد العائلة، أو أكل لحوم البشر، ففيما كان يفكر تانتالوس، من ناحية أراد تقديم قربان لم يسبقه إليه أحد، وفي الوقت نفسه يظهر احترامه للآلهة بالتضحية بأغلى ما عنده، كما تقول بعض الروايات إنه أراد اختبار عظمة الآلهة وقدرتهم على اكتشاف ما فعل.
وصل الآلهة الكبار، على رأسهم زيوس، وجلسوا على المائدة، بدأ زيوس بالشك في الطعام الموضوع أمامه، ولحقه باقي الآلهة، ما عدا "ديميتر" (إلهة الحصاد والزراعة)، التي بدأت في الأكل بنهم ولم تلاحظ شيئاً، لأنها كانت حزينة ومصدومة من اختطاف ابنتها من "هاديس" (إله العالم السفلي)، ونزولها معه هناك، فحال الهم والحزن دون ملاحظتها.
ثم تبادل زيوس وهيرميس (رسول الآلهة وإله السفر والتجارة) النظرات في قلق وغضب، ثم سأل زيوس أين حفيده بيلبوس، فكشف الملك عن تضحيته (أو اكتشف الآلهة فوراً)، فاستدعى زيوس الأقدار الثلاثة أو Moirai، المشرفين على تنفيذ القدر، وأن يلقى كل إنسان مصيره المكتوب، وأمرهم بإعادة الشاب بيلبوس إلى الحياة، فقاموا بجمع أجزاء جسده في قدح كبير، وأضيف خليط سري إليها، وعاد إلى الحياة، في هيئة بالغة الجمال والأناقة، لكن أحد كتفيه كان الجزء الذي أكلته إلهة الحصاد ديميتر، فقام هيفايستوس (إله المعادن والحدادة) بصنع كتف آخر له من العاج، ووضعه زيوس في منصب والده الملك، ونفى تانتالوس إلى الأبد، لكن العقاب لم يتوقف عند هذا الحد.
اللعنة الإلهية
طاردت لعنة تانتالوس ذريته من بعده لأجيال، أحد الأبناء مات حرقاً لأنه أهان أثينا (إلهة الحرب والحكمة)، الابنة الأخرى، أطفالها الـ14 تم قتلهم، لأنها ادعت أنها أم أفضل من Leto (إلهة الأمومة وحماية الصغار)، وتحولت نفسها إلى صخرة باكية.
أما الابن الأكبر بيلوبس، بعد عودته للحياة سيدبر مقتل والد زوجته، بالإضافة إلى شريكه في الجريمة، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد للأحفاد، ابنا بيلوبس عاقبتهما الآلهة بالنفي، لأنهما قتلا أخاهما غير الشقيق، ثم سيعودان لحكم إحدى الممالك، لكن خلافاً شب بينهما، فقام أحدهما "اتريوس" بقتل أبناء شقيقه، وتقديمهم له بين الطعام، كما فعل جده من قبل، اتريوس نفسه قتله أحد أبناء شقيقه (بالرغم من أنه قتلهم من قبل!).
ومن نسل اتريوس، سيخرج الملك الشهير "اجاميمنون"، قائد جيوش اليونان في حرب طروادة، أهم الأحداث في أساطير اليونان، وسيكون المنتصر في الحرب، لكن جيشه خلال الحرب، بالأخص أكيليس أو أخيل، أهان الإله "أبولو" (إله الشعر والشمس) وقتل ابنه، فحلت لعنة على كل من شارك في الحرب، وقامت زوجة اجاميمنون بقتله بعد عودته من طروادة، ليقتلها ابنها "اوريستوس"، والذي انتهت معه اللعنة بعد أن تاب عن خطيئته وطلب الصفح من أثينا، على أن يمثل أمام محكمة آلهة الانتقام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.