بعد هزيمة يونيو وتحديداً في عام 1968، وفي المؤتمر القومي الطارئ للاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الوحيد في مصر آنذاك)، تحدث الرئيس جمال عبدالناصر في جلسته العامة عن كل التفاصيل الخاصة بالعمل الوطني والوضع الداخلي والخارجي، وبالطبع تناول ما حدث وما سيحدث بعد هزيمة يونيو، حيث تحدث صراحة عن أن حرب يونيو 1967 هي هزيمة أمام إسرائيل دون استخدام مصطلح "النكسة" الذي شاع بعد الهزيمة.
ولكنه بوضعه مصطلح الهزيمة مكان النكسة، كان يريد إيصال رسالة خاصة، حيث قال إن إسرائيل هزمتنا عسكرياً لكنها لم تكسب الحرب السياسية والاعتراف منا بها وبما تفعله، إنها تريد نظاماً جديداً يقر بوجودها عبر اتفاقيات سياسية موقعة منا، حتى ترجع لنا أرضنا، ولكننا لن نوقع، ومضى يحدد طبيعة مصر كشعب ونظام، فقال: "نحن نريد السلام ولكن السلام بعيد، ونحن لا نريد الحرب ولكن الحرب من حولنا، وسوف نخوض المخاطر مهما كانت دفاعاً عن الحق والعدل".
بعد انتهاء أزمة السفينة الجانحة في مجرى قناة السويس، وإثبات قدرة المصريين على إدارة القناة بعدما توقفت حركة الملاحة في أهم مجرى ملاحي في العالم، وقف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مؤتمر صحفي وفي الخلفية مجرى قناة السويس، ليعلن للعالم انتهاء أزمة الملاحة في القناة، وليعلن أن مصر قادرة على إدارتها، ولكنه تعقيباً على سؤال موجه إليه عن سد النهضة الإثيوبي، قال: "نحن لا نهدد أحداً ولكن لا يستطيع أحد أخذ نقطة مياه من مصر، وإلا ستشهد المنطقة حالة من عدم الاستقرار لا يتخيلها أحد ومن يريد أن يجرب فليتفضل"، و"محدش يتصور أنه يقدر يبقى بعيد عن قدرتنا" و"أنا مبهددش حد وعمرنا ما هددنا وحوارنا رشيد جداً" و"نسعى للحصول على حقنا في مياه النيل لا أكثر، هناك تحرك إضافي خلال الأسابيع المقبلة عبر المفاوضات".
تشابهت الحوادث واختلفت طبيعتها بين ناصر والسيسي، واتفقت رؤيتهما على تحديد طبيعة حركة مصر نحو درء العدوان، نريد السلام ولكن لا سلام، نريد التفاوض ولكن لا تفاوض، لا نريد الحرب لكن الحرب من حولنا في الحالتين.
ما العمل؟ الحرب.
كما في مظاهرات الطلبة 1972 التي كانت تطالب بالحرب وترى في سلطة الرئيس السادات تقاعساً عن الحرب وعودة الأرض المحتلة، تساءل الشارع المصري حالياً عن مدى تقاعس نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي عن ضرب سد النهضة.
ولكن التساؤل لم يجد إجابة، لأن الإجابة ببساطة تتعلق بحدود وطبيعة الصراع وحدود القدرة، فمع بداية أزمة سد النهضة كانت مصر تمر بفترة من عدم الاستقرار بسبب أحداث ثورة 25 يناير 2011، وهو ما جعل مصر تنكفئ على نفسها في محاولة لترتيب البيت الداخلي، ومع مرور السنوات برزت للسطح أزمات وجودية في الصراع حول المنطقة، فلأول مرة في التاريخ المصري تصبح مصر مهددة من أركانها الأربعة مرة واحدة، فالشمال صراع حول غاز المتوسط كاد أن يشعل حرباً إقليمية، ناهيك عن الخلاف المصري التركي، والغرب والصراع الليبي الذي تحول لحرب أهلية استدعت وجود قوات أجنبية وإقليمية جعل مصر مستنفرة عسكرياً ومستعدة للتدخل، والشرق بطبيعة الحال تقبع به إسرائيل ومن وراءها محيط استراتيجي مهلل يهدد مصر، والجنوب سد النهضة الإثيوبي الذي يهدد الوجود المصري والحياة نفسها، وفي خضم هذه الأحداث تمادت إثيوبيا في بناء السد ومراوغة في المفاوضات، الأمر الذي استدعى بعد 10 سنوات أن تعلن مصر ضمناً أن الحرب ستكون هي الحل في حال فشلت المفاوضات.
استقرت الجبهتان الشمالية والغربية، وهناك مسارات للحل خففت العبء عن القيادة المصرية، ناهيك عن تعاون النظام السوداني الجديد، ولكن غياب المفاوضات الجادة مع إثيوبيا جعل من السلام على ضفاف النيل محل شك، طرف "مصر والسودان" يريد السلام، وطرف "إثيوبيا" لا يريد السلام، والجميع لا يريد الحرب لكن الحرب تحوم حول الجميع، وخوض مخاطر الحرب سيصبح أمراً واقعياً دفاعاً عن الحق والحقوق في مياه النيل.
فهل تستطيع مصر أن تضرب سد النهضة! أم ستشعل حرباً لا طائل منها؟!
في الميزان العسكري الجيش المصري أقوى من الجيش الإثيوبي تدريباً وتسليحاً، لكن مصر قابلها في بداية الأزمة عاملان جعلا من اللجوء للمفاوضات طريقاً اضطرارياً ليعطي فاصلاً زمنياً تحتاجه مصر لترتيب أوضاعها.
العامل الأول: هو أن إثيوبيا دولة حبيسة جغرافياً، لا تستطيع مصر أن تشتبك معها مباشرة، أو أن تقوم بقصف سد النهضة إلا إذا تدخل طرف ثانٍ مساند لها، وهو طرف لن يخرج عن إريتريا التي تردد في بعض الأيام أن مصر تريد قاعدة عسكرية بها، والطرف السوداني وهو الأحق والأقرب جغرافياً وله مصالح في ضرب السد، ولكن نظام البشير كان مراوغاً، حتى سقط وجاء النظام الانتقالي بقيادة البرهان وتلاقت المصالح وأصبح هناك موطئ قدم بجوار السد تنطلق منه العمليات العسكرية.
العامل الثاني: وهو تساؤل عريض، هل تمتلك مصر القدرات العسكرية والتكنولوجية لضرب السد؟ وهو تساؤل أجابت عنه مصر عبر السنوات الماضية، بعقد صفقات تسليح نوعية أضافت لها نوعية من الأسلحة جعلت ذراعها أطول، مثل صفقات طائرات الرافال، والميج 29، والسوخوي 35، وتلك طائرات ذات مدى كبير وتحمل ذخائر ذات طبيعة خاصة مثل الصاروخ "سكالب" الخاص بضرب التحصينات والسدود، وغيرها من الأسلحة التي إن نقلت إلى جوار السد ستحدث فارقاً هائلاً، ما كان ليكون لولا التغير النوعي لطبيعة التسليح المصري، أو لربما احتاج الفارق لشكلٍ مختلف من السلاح.
ومع الاستعداد المصري للحرب، هل تحسبت القاهرة لسيناريوهات ما بعد انطلاق العمليات العسكرية؟
بعد انطلاق العمليات العسكرية من المؤكد أن الوقوف عند التداعيات وحصر الخسائر بين أطراف الصراع فقط هو ضرب من المستحيل، حيث تحتل منطقة القرن الإفريقي مكانة خاصة في الاستراتيجيات العسكرية للدول الكبرى، وهو ما ينذر بتدخل دولي ربما يتحول لحرب بين الدول الكبرى، خاصة أن أمريكا مثلاً لا تريد للنفوذ الصيني في شرق إفريقيا أن يتمدد، وكذلك بالنسبة للنفوذ الروسي.
المنطقة تحمل بين جنباتها أكثر من قاعدة عسكرية لدول متعددة، أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين وإسرائيل والإمارات، وبالتالي مع اندلاع الحرب ستتقاطع المصالح ويصبح أمن المنطقة كلها في خطر، خاصة أمن الخليج الهش بطبيعته، ناهيك عن الصراع الداخلي في دول القرن الإفريقي المرشحة لاندلاع حروب أهلية تنتظر فقط الظروف المناسبة، فوق هذا وذاك سيصبح ضرب سد النهضة سابقة عالمية خطيرة وستدشن أولى الحروب على المياه، وستعطي الذريعة لأكثر من 40 دولة بين بعضها البعض مشاكل على المياه لتسوية نزاعاتها على الحقوق المائية عن طريق الحرب.
إذاً أليس هناك طريق لحل أزمة سد النهضة بعيداً عن الحرب؟!
حل الأزمة في يد إثيوبيا التي عليها أن تدرك أن مصر التي أقرّت بهزيمتها العسكرية أمام إسرائيل كسبت المعركة السياسية ما مكّنها من امتلاك القدرة وانتصرت في حرب أكتوبر 1973، وأن مصر عندما أقرت بأحقيتها ببناء السد اعتبرته انتصاراً على الأرض، لكنها كما إسرائيل خسرت المعركة السياسية أمام العالم ومع امتلاك القدرة العسكرية المصرية فخسارة إثيوبيا لسد النهضة أصبحت تلوح في الأفق لا يملك التحكم في توقف ساعتها الرملية إلا إثيوبيا ذاتها.
مصر تريد السلام، مصر لا تريد الحرب، لكن انتقاص حقها في المياه سيجعل إثيوبيا تتحمل عبء إشعال الحرب، وجعل السلام على ضفاف النيل بعيد المنال ربما لعشرات السنين القادمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.