تاريخ الشرق الأوسط الحديث ينقسم إلى مرحلتين، الثانية بدأت مع قيام إسرائيل ومعها بدأ التخطيط لتقسيم العالم العربي حتى لا يتوحد ضد إسرائيل، وربطت إسرائيل بقاءها بتمزيق الدول العربية، وأن تكون إسرائيل هي مركز التفاعلات طبعاً بدعم أمريكي، ولذلك لابد من إجراء دراسات عن أثر إسرائيل في تشكيل نظم الحكم العربية، ولماذا بدأت الانقلابات العسكرية بمناسبة وبعد قيام إسرائيل، ولا بد أن نرفع القدسية عن كل تغير في النظم العربية بدءاً بانقلابات سوريا ثم حركة الجيش في مصر ضد الملك فاروق وهكذا حتى نصل إلى الحقيقة حول دور إسرائيل في المنطقة طوال سبعة عقود.
لقد حلّت واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية محل الدول الاستعمارية الغربية، خاصة بريطانيا، فحل السلام الأمريكي محل البريطاني، وتصدت واشنطن لقيادة الغرب في الحرب الباردة، وكافحت واشنطن لإزاحة الاتحاد السوفييتي وانفردت بكل العالم وخاصة العالم العربي، ولذلك تأخرت واشنطن طويلاً في تدبير مسرحية سبتمبر الأمريكية كي تنقض كالأسد الجريح على العالم العربي والإسلامي في إطار لعبة الإرهاب الجديدة في بداية الألفية الثالثة التي كانت مجرد ذريعة لتنفيذ خططها الجاهزة.
فمصر تحولت إلى واشنطن منذ كامب ديفيد 1978، أما ليبيا فوقعت في صدام مع واشنطن، وكذلك سوريا، فتولت واشنطن تدمير البلدين، وأما العراق فبعد سقوط صدام حسين واحتلال العراق صار العراق ساحة للصدام بين إيران من ناحية وكل من واشنطن وإسرائيل من ناحية أخرى.
أما أتباع واشنطن منذ البداية فقد ازدادوا خضوعاً لها وامتثالاً لأوامرها. وفي عام 2003، وضعت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد بوش الابن القاعدة الذهبية، وهي أن من ترضى عنه إسرائيل رضيت عنه واشنطن.
وهذه القاعدة الواضحة والعلنية تم تطبيقها حرفياً في كل العالم العربي، ولذلك مكّنت واشنطن إسرائيل من كل الدول العربية وفق معادلة واضحة تحكم هذه المسألة: كلما كانت إسرائيل راضية عن الدولة العربية يكون رضا واشنطن عنها بنفس القدر، وكلما كانت الدولة العربية قرينة ولصيقة بواشنطن كانت قريبة بأقدار متفاوتة من العلانية مع إسرائيل.
وتطبيقاً لذلك، فعلاقة مصر بواشنطن حميمية، وهي كذلك مع إسرائيل وكذلك السعودية، ولكن الفارق هو في العلاقة العلنية القانونية.
وحصيلة هذه القاعدة في المنطقة العربية مجموعة من التقاربات مع إسرائيل، حتى صارت القاعدة الثالثة الحاكمة للسلوك العربي في أنه كلما تقاربت الدول العربية مع إسرائيل ابتعدت بنفس القدر عن الفلسطينيين، وتطبيقاً لهذه القاعدة فإن تبرير المطبعين الجدد لتقاربهم المجاني مع إسرائيل بأن تقاربهم فيه خدمة للفلسطينيين تدليس ظاهر وخداع، تماماً كما كان التيار اليساري العربي يمني نفسه بأن الدول التي سمّاها الرجعية وعلى رأسها السعودية بتقاربها من واشنطن، أن تمثل السعودية وجهة النظر العربية لدى واشنطن وتركز واشنطن الآن على دفع السعودية إلى التحالف مع إسرائيل ضد عدو جديد هو إيران وغضّ الطرف عن القضية الفلسطينية، وإن كانت السعودية لا تزال تتمنع استناداً إلى المبادرة السعودية.
وتطبيقاً لهذه القواعد فإن لبنان يتم تدميره وإحراق المقاومة فيه تنفيذاً لصفقة القرن وضماناً لالتزام الولايات المتحدة بذلك فإنها شملت إسرائيل ضمن القيادة الأمريكية الوسطى، وبدأت مهمة ماكرة وسط الفوضى والجمود في لبنان لترتيب الأوضاع على الأرض ضد المقاومة ومحاولة فصل الجيش ناحية واشنطن حتى يتحول ضد المقاومة.
وبالطبع فإن دعم الجيش مطلوب ولكن ذلك يتم تحت شعار خادع وهو إقامة دولة لبنانية حديثة بعد أن تغولت الطائفية وجعلت إقامة دولة وتسيّدها على الطوائف هو برنامج الدولة الحديثة.
هذه القواعد حزمة واحدة حتى يكون التطبيق أسهل:
القاعدة الأولى أن تسيّد إسرائيل مصلحة أمريكية عليا ومتقدمة بصرف النظر عن التكاليف المادية والنفسية والسياسية لتفعيل هذه القاعدة.
القاعدة الثانية: ليس هناك دولة عربية توثق علاقاتها مع واشنطن دون أن تخضع الدولة العربية لإسرائيل، فكل الدول العربية الخاضعة لإسرائيل هي في الواقع أتباع لواشنطن.
القاعدة الثالثة: أن تزايد الضغوط الأمريكية على بعض الإمارات أدى إلى تزايد العلاقات السرية الإسرائيلية مع هذه الكيانات، ولكن الواقع انفجر في صورة هرولة ساخنة نحو التطبيع مع إسرائيل.
وتطبيقاً لذلك ظهرت حالات البحرين والإمارات والسودان والمغرب بمباركة مصرية طبعاً، لكننا بحاجة إلى أدلة عن دور مصر المباشر في هذا التطور الجديد، وصلته بعلاقة مصر بإسرائيل أم بواشنطن أم بكليهما.
القاعدة الرابعة: هي أنه كلما تقاربت الدولة العربية من واشنطن كانت قريبة في نفس الوقت من إسرائيل، ما يقطع بإشراف واشنطن الحثيث على تمكين إسرائيل من الدول العربية.
القاعدة الخامسة: أن تسخير المنطقة كلها لخدمة إسرائيل أدى إلى أن معظم الدول العربية تطبع مع إسرائيل، والقسم الآخر من الدول متحالفة مع إيران، ولكن الدول غير المطبعة تركز واشنطن الضغط عليها مثل: تونس والصومال وجيبوتي بعد أن سقط السودان في براثن المؤامرة عليه وثورة الشعب السوداني.
تريد واشنطن أن تجبر المنطقة على الخضوع لإسرائيل ومعاداة إيران حتى تدرك إيران أن تقاربها من إسرائيل هو الأفضل لمصالحها وأن دعمها للمقاومة سيكلفها بقاء إيران.
القاعدة السادسة: هي أن الدول التي طبعت مع إسرائيل أو الدول العربية التي اعترفت بإسرائيل خاصة مصر والأردن تبتعد بنفس القدر عن القضية الفلسطينية، أي أن الإجماع العربي السابق على دعم فلسطين قد تحول الآن إلى إجماع نسبي يعترف بإسرائيل مع أصوات خافتة تتمتم بصلاح أحوال فلسطين.
القاعدة السابعة: هي أن الدول المعنية والمؤثرة في تنفيذ المشروع الصهيوني هي التي تكلف بإنهاء القضية وإغلاق ملفها لصالح اليهود والمشاركة في تنفيذ خطة القرن لتفريغ فلسطين من سكانها والقضاء على المقاومة.
وقد زعم البعض أن واشنطن تخلت عن صفقة القرن، ولكني أرى أن هذه حرب نفسية ضد صفقة القرن.
وهكذا تفخر إسرائيل بأنها حولت الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع عربي/ عربي، وصراع عربي/ إيراني، وصارت إسرائيل هي الصديق والحليف بعد أن خلقت هدفاً معادياً جديداً توجه إليه طاقة العداء العربي.
كما تفخر بتخلي العرب عن فلسطين ودعم إسرائيل بدلاً من الفلسطينيين في فلسطين، كما تفخر باكتمال الهيمنة الأمريكية على الدول العربية من خلال التحالف مع الحكام ضد أوطانهم وشعوبهم، وفتح الأبواب المغلقة سابقاً لليهود ومعاداة الفلسطينيين.
كما ترتب على ما سبق ضمان اطمئنان إسرائيل، ورفعت الأمل في الاستيلاء على كل فلسطين بعد إخماد المقاومة في الجسد العربي.
وقد انعكست هذه السياسة في كل المآسي العربية وفيها بصمة مؤكدة لإسرائيل. ولذلك فإن تسوية هذه المآسي لابد أن يدرك دور إسرائيل في هذه المآسي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.