كواليس 144 ساعة من الكفاح لتعويم سفينة “إيفرغيفن”.. هكذا نجحت المحاولات في تحرير قناة السويس

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/01 الساعة 16:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/01 الساعة 16:55 بتوقيت غرينتش
السفينة الجانحة بعد التعويم/رويترز

نشرت صحيفة The Washington Post الأمريكية، الخميس 1 أبريل/نيسان 2021، تفاصيل كواليس تحرير السفينة العملاقة التي جنحت في مجرى قناة السويس، الإثنين 29 مارس/آذار، بعد قرابة أسبوع، وتسببت في أزمة تجارة عالمية أخرت وصول أطنان من السلع.

يقول تقرير الصحيفة الأمريكية، في ظلام الفجر، جلس القبطان مجدي جمال إلى جانب دفة السفينة القاطرة "مساعد 2″، يحدّق في جدار حديدي هائل بدت له محاولات تحريكه ضرباً من العبث. 

توقف رابع أكثر ممرات الشحن ازدحاماً

فحتى الآن، لا شيء بعد ستة أيام محمومة وخطيرة من الجهد قد نجح في إزاحة تلك الكتلة العملاقة التي تشكلها السفينة "إيفرغيفن" في قناة السويس، نحو 200 ألف طن من الصلب والبضائع الاستهلاكية ظلت عصية على التحرك تسد رابع أكثر ممرات الشحن ازدحاماً في العالم.

يوماً بعد يوم، تحولت الكتلة الهائلة المستعصية على التزحزح إلى شيء أشبه بخنفساء عملاقة تهيمن ظلالها على سرب لا يتوقف من الآلات والبشر -عمال الكرّاكات والجرافات وزوارق القطْر- التي ظلت تحفر وتدفع وتسحب دون جدوى. 

على الرغم من تشغيل محركات وكابلات القاطرة "مساعد 2" والسفن القاطرة الأخرى إلى أقصى درجات عملها، فشلت كل المحاولات لتخفيف قبضة الجاذبية على هذا الهيكل العملاق مع كل حركة مدٍّ مرت بهم حتى الآن، ثم انحسار المياه في دورتها المستمرة.

سمعة مصر على المحك

الآن، سيعاودون المحاولة في فرصتهم الأخيرة والأفضل. فيوم الإثنين، تتحاذى مدارات الشمس والقمر لسحب مياه الأرض في نفس الاتجاه، مؤديةً إلى وقوع ما يُعرف بـ"المد الملك" [مصطلح غير دقيق يُستخدم لوصف المد المرتفع على نحو استثنائي في قناة السويس، وهي ظاهرة ربيعية تحدث ثلاث أو أربع مرات في السنة]، وهو أحد أعلى معدلات المد في العام. 

كانت النية قد انعقدت على أنه إذا فشلت الجهود مرةً أخرى، فإن الحكومة المصرية ستشرع في المسار الأشد مشقةً لتفريغ 18 ألف حاوية شحن من السفينة "إيفرغيفن" واحدة تلو الأخرى.

على الجانب الآخر، كانت السفن التي تحمل أطناناً من البضائع العالمية تتكدس على طرفي قناة السويس المسدودة. وكان الضغط الاقتصادي والسياسي العالمي يتزايد لحظةً بعد لحظة لتحرير السفينة. والعالم الذي يحاول شغلَ نفسه عن عامٍ هيمنت عليه الجائحة كان يرصد التطورات في ترقُّب.

كل هذا ضاعف من الخطر المحتمل. فالبحارة يعرفون أن الجمع بين الآلات البحرية السريعة والثقيلة هو مزيج مميت قد يبرز خطره في أي لحظة. وهم يطلقون على المنطقة المحيطة بالكابلات المشدودة إلى أقصى درجة بمنطقة "الارتداد"، حيث قد ترتد الكابلات المقطوعة في أي وقت لتقطع الأذرع وتحطم الجماجم وتتسبب في إصابات لا رجعة عنها.

كان يحيط بالقبطان جمال ما لا يقل عن 10 سفن قاطرة أخرى ومئة من أفراد الطاقم. كانت سمعة مصر وصورتها على المحك، قرأ الفاتحة في سرِّه، ووضع يده على ذراع الوقود.

"يبدو أننا سنبقى هنا قليلاً"

قبل أسبوع تقريباً قبيل شروق الشمس في يوم 23 مارس/آذار بقليل، دخلت قافلة مؤلفة من 20 سفينة قناة السويس من بوابتها الجنوبية، القريبة من مدينة السويس المصرية.

السفينة الخامسة في الصف، المزوَّدة بضوء كشاف بقوة 3 ملايين شمعة يجب على جميع السفن العابرة للقناة تركيبها على أقواسها [مقدمة السفينة]، كانت السفينة "إيفرغيفن" التي يبلغ ارتفاعها 400 متر، في منتصف رحلتها تقريباً من ماليزيا إلى هولندا. وكانت حاويات الشحن المعدنية مكدسة بارتفاع 10 حاويات إلى 23 حاوية فوق بدنها، كل منها بحجم مرآب السيارة الواحدة، ومليئة بالبضائع.

بعد ارتفاع الشمس لمدة ساعة فوق الأفق، أبحرت السفينة "إيفرغيفن" لعبور أحد شرايين قناة السويس ذات المسار الواحد في هذه المنطقة، واقتربت من منعطف يميل إلى اليمين. تُظهر بيانات الأقمار الصناعية أن السفينة بدأت في الانحراف من ضفة إلى أخرى بسرعة تزيد على 24 كيلومتراً في الساعة، وهي سرعة أعلى بكثير من الحد الأعلى للسرعة في القناة الذي يقل في المعتاد عن 16 كيلومتراً في الساعة.

ما كان يحدث وقتها في كابينة قيادة السفينة "إيفرغيفن"، حيث كان القبطان واثنان من مرشدي قناة السويس المعتمدين في الخدمة، لا يزال لغزاً. لكن بعض البحارة ومسؤولي القناة أشاروا إلى أن رياحاً تصل سرعتها إلى 40 عقدة كانت تهب من الجنوب، ضاغطةً على جدران الحاويات.

ولأكثر من نصف ساعة، ظلت السفينة تنحرف من جانب إلى آخر، وفقاً لتتبع الأقمار الصناعية لها، وتجنّبت الاصطدام بضفتي القناة بصعوبة حتى جاءت لحظة وبدت مؤخرة السفينة وكأنها تحطم الضفة اليسرى للقناة. انحرف قوس السفينة (مقدمتها) على الفور بحدة إلى اليمين، لتجنح السفينة في الضفة الشرقية الرملية للقناة بسرعة 21 كيلومتراً في الساعة.

أبطأت السفن التالية في الصف محركاتها، ثم توقفت. وبعد دقيقة من تأمين سفينتها، نشرت جوليان كونا، مهندسة إحدى السفن "ميرسك دنفر"، صورة للسفينة الضخمة الجانحة في قناة السويس على موقع إنستغرام، وكتبت: "يبدو أننا سنبقى هنا قليلاً".

ليس عملاً سينتهي بمجرد سحب السفينة من طرفين

السفن التالية للسفينة "إيفرغيفن" في القافلة أسقطت مراسيها في المجرى الملاحي. وفي غضون ذلك، تجمعت نحو 30 سفينة متجهة جنوباً كانت دخلت بالفعل من البحر المتوسط، في منطقة البحيرات المرة، وهي إحدى البقع العريضة القليلة في قناة السويس. وتكدست بالفعل 24 سفينة إضافية في انتظار دخول القناة عند مدخلها الشمالي في بورسعيد.

جنحت السفينة "إيفرغيفن" في أحد الامتدادات الضيقة من القناة، ولم يكن ذلك أحد الأقسام التي وسّعتها مصر في عام 2015، ضمن توسعة عمدت إليها وقتها بقيمة 8.5 مليار دولار لاستيعاب السفن الأكبر حجماً والسماح بحركة المرور في اتجاهين. وبات الوضع أن حتى السفن الصغيرة لا تستطيع المناورة أو المرور من حول السفينة العالقة، ما عوّق جهود نشرِ قوارب الإنقاذ، فضلاً على سفن الشحن الأكبر حجماً.

السفينة التي كانت عالقة في قناة السويس/ رويترز
السفينة التي كانت عالقة في قناة السويس/ رويترز

بعد فترة وجيزة من جنوح السفينة، وصل اثنان من أوائل المستجيبين للمجرى المائي، وهما السفينتان القاطرتان "مساعد 2" و"عزت عادل"، إلى مكان حادث. وتحتفظ هيئة قناة السويس بأسطول مكون من 31 قاطرة، لكن في الماضي كانت اثنتان كافيتين لإخراج السفن العالقة.

أنزل أعضاء طاقم السفينة "إيفرغيفن"، المكون من 25 بحاراً هندياً، الحبال من المؤخرة، واحد لكل قاطرة، وربط أطقم السفن القاطرة كابلاتهم الثقيلة في السفينة العملاقة. رفع طاقم السفينة الكابلات وأحكمها، لتكون جاهزة للسحب من الضفة. لكن الطقس والجاذبية كانا ضدهم، كانت الرياح لا تزال شديدة، وأحكم الرمل والطين القبضةَ على بدن السفينة، ومن ثم كانوا بحاجة إلى مزيد من القوة لسحب السفينة الجانحة.

مع دخول مزيد من القاطرات وصعود المد في قناة السويس، حاولوا مرة ثانية، لكن مرة أخرى لم يحدث شيء، بدأ الماء ينحسر، ومعه بدأت تتراجع الآمال في تخليص عاجل للسفينة.

تراكم التكاليف

خارج قناة السويس، كانت السفن العالقة آخذة في التكدس بسرعة، وفي غضون أيام تصاعد العدد إلى نحو 350 سفينة عالقة.

مع توقع بعض خبراء الإنقاذ أن الأمر قد يستغرق أسابيع لإعادة تعويم السفينة "إيفرغيفن"، بدأت أصابع الاتهام في الارتفاع، واحتدمت المناقشات حول المسؤول عن تلك التكاليف التي ما انفكت تتراكم، جنباً إلى جنب مع التكهنات حول سبب الحادث: الرياح أم ضعف الرؤية أو هل هو خطأ بشري أم فني.

بدا الأمر معقداً ما بين الشركة المالكة للسفينة "إيفرغيفن" والشركة المسؤولة عن إدارتها -فالسفينة مملوكة لشركة قابضة يابانية، لكن مستأجرة من تكتل تايواني، ويشرف على إبحارها مشغّلون ألمان، وتسجيلها في بنما- ولاح أن الأطراف تتبادل إلقاء المسؤولية ومحاولات التخلص منها. وهكذا أصدرت شركة "إيفرغرين" التايوانية بيانات حثّت فيها المالكين على التحقيق في الحادث، مشيرةً إلى أن القانون البحري يُفرد المالكين بالمسؤولية.

من جانب بحارة قناة السويس، بدت السرعة العالية التي عمدت إليها السفينة قبل جنوحها مثيرةً للشكوك على نحو خاص.

مع ذلك، يقول رمضان، أحد الأعضاء ذوي الخبرة في طواقم هيئة قناة السويس: "ربما كانت السرعة العالية أحد العوامل التي تسببت في جنوح السفينة. لكن في بعض الأحيان، عندما تكون سرعة الرياح عالية، تحتاج إلى زيادة سرعة السفينة لتتمكن من المناورة بها".

محاولات السحب، والآن الحفر

بحلول اليوم الثاني، أرسل مسؤولو قناة السويس كرّاكات، وأطقم تعبيد الطريق للممر المائي، وهي الأطقم المسؤولة عن إبقاء القناة عميقة وواسعة بما يكفي لمرور السفن.

بعد أن شقوا طريقهم عبر جميع السفن المنتظرة، وصل أول كراكين. وهما الكرَاكة "العاشر من رمضان" التي تعد أصغر كراكات أسطول القناة المكون من 10 كرّاكات، والكرّاكة الأضخم "مشهور"، التي تصل قوة تكريكها تحت الماء إلى 31 ألف حصان. كما وصل فريق من الغواصين أيضاً إلى مكان الواقعة لمسح القاع.

في ذلك اليوم، وصلت مزيد من التعزيزات: فريق من المتخصصين من شركة "سميت" Smit، وهي شركة إنقاذ هولندية استدعاها مالكو السفينة اليابانيون.

لكن الأهم من ذلك، أن قاطرتين ثقيلتين تعاقدت معهما الشركة الهولندية -وهما عملاقان قادران على السحب بقوة هائلة- كانا لا يزالان على بعد يومين إلى الجنوب. وكان موقع جنوح السفينة "إيفرغيفن" يحول دون إرسال قاطرات ثقيلة قد تكون أقرب، لكنها تقع شمال القناة، ومن ثم كان يتعين عليها الدخول من البحر الأحمر للوصول إلى مؤخرة السفينة. وقال متحدث باسم "سميت" لصيفة هولندية: "كان الإمداد من البحر المتوسط مستحيلاً. فقد كان علينا أن نبدأ من مؤخرة السفينة".

استمرت الكرّاكات المصرية في الحفر دون توقف، وسرعان ما تلقت المساعدة من حفارات أخرى عملت من الشاطئ. وبعد يوم آخر من الحفر، الذي أزال آلاف الأطنان من الرمال، ظهر جزء كبير من دفة السفينة، لكن المد العالي حلّ وذهب، وظلت السفينة "إيفرغيفن" جانحةً على ضفة قناة السويس.

هيمن الذهول على سكان القرى المجاورة للقناة وهم يشاهدون عمليات الإنقاذ التي لا تتوقف، فقد كانت أضخم سفينة رأوها على الإطلاق جاثمة بارتفاعها الشاهق فوق منازلهم وأراضيهم الزراعية.

أمامنا فرصة

على متن السفن الأخرى الراسية في قناة السويس لم يكن هناك شيء لفعله سوى الانتظار. شغلت الطواقم وقتها بنوبات العمل، ومشاهدة الأفلام، ومتابعة المخططات الإلكترونية التي توضح موقف السفينة العالقة.

قال مسؤولو الزراعة المصريون إنهم قدموا أكثر من 300 طن من العلف لأكثر من 60 ألف رأس من الأغنام و420 بقرة كانت في طريقها إلى السعودية والأردن.

بحلول يوم السبت 27 مارس/آذار، كانت السفينة العالقة قد اجتذبت ما يشبه ساحة ميناء خاص بها. فقد كان هناك ما لا يقل عن 14 قاطرة، وعدد من القوارب الصغيرة التي عملت بنقل المعدات والطعام وأفراد الطاقم، إضافة إلى فرق غطس وأطقم صيانة، وأكثر من 200 شخص يعملون على مدار الساعة، وفقاً لمقابلات مع فرق الإنقاذ.

كانت الضغوط تتصاعد لتحرير السفينة في أقرب وقت، وفي غضون ذلك صعدت مجموعة من مسؤولي قناة السويس وخبراء الإنقاذ الهولنديين على متن السفينة "إيفرغيفن" واجتمعوا مع ضباط وطاقم السفينة.

كانت القاطرات الأضخم والأعلى قدرات تقترب من القناة، وكانت حركة المد الأعلى في العام على وشك إضافة قوى تعويم ثمينة. تطلع الجميع إلى يوم الإثنين 29 مارس/آذار.

ترقيم قناة السويس وحركة السفن بها
ترقيم قناة السويس وحركة السفن بها

تعويم السفينة

وصلت أول قاطرة من القاطرتين الضخمتين اللتين تعاقدت عليهما الشركة الهولندية ليل الأحد 28 مارس/آذار، وهي السفينة القاطرة "آلب جارد" Alp Guard، التي تزن أكثر من 3700 طن. ويقول غريغوري تيلوسكي، ربان السفينة ومؤسس مجموعة Maritime Expert Group لخبراء الإنقاذ البحريين، إن هذه "هي غودزيلا [عملاقة] القاطرات".

بحلول الساعة 3 صباحاً من يوم الإثنين 29 مارس/آذار، تركزت عمليات الحفر عند قوس السفينة، وكانت حفارة متخصصة قادرة على إزالة 70600 قدم مكعب من الرمال في الساعة تعمل على تخليص السفينة من الضفة.

اتخذت القاطرة الهولندية Alp Guard و9 سفن قاطرة أخرى مواقعها في 4 مواقع حول هيكل السفينة الجانحة.

تابع إسلام نجم عملية المحاولة، من على ظهر الزورق "بركة 1″، وورد إلى خاطره جميع الميمات المنتشرة على الإنترنت حول السفينة، بعد أن أعجزهم كل شيء عن تحريكها. كان العالم يضحك على مصر، ويقول هو: "لم ير أحد مقدار الضغط الذي كان واقعاً على كاهلنا".

لقد كانوا منهكين، وقد اعتادوا الفشل مع كل مرة من المرات السابقة، لكنهم ما زالوا مصممين.

استمع الجميع إلى هدير محركات القطْر تنطلق، وصوت العملاق Alp Guard أعمق من أي محرك آخر.

قبل الفجر بوقت قصير، وصلت القاطرة العملاقة الثانية، السفينة الإيطالية "كارلو ماغنو" Carlo Magno، بطاقم مكون من 13 شخصاً، وصلت حديثاً من الإمارات.

قامت السفينة الإيطالية بتوصيل كابلها أيضاً لتضيف مزيداً من القوة إلى عملية القطر النهائية التي أعقبت ذلك. وعلى مدار الساعات الطويلة التالية، تحرك الأسطول لممارسة الضغط بعناية، وسحب الهيكل دون كسره، والحفارات تعمل بلا توقف.

ومع انحسار المد، بدا أن القاطرات توقفت عن العمل، فيما بعض أفراد الطواقم يخشون الفشل مرة أخرى، لكن بعد نصف ساعة عادت المحركات إلى العمل مرة أخرى من أجل ارتفاع كبير آخر للمد.

فجأة، تحررت السفينة، لقد تم الأمر.

يقول محمود شلبي، الذي كان على متن "بركة 1": "انتابنا جميعاً نوع من القشعريرة، لقد نسينا كل معاناتنا".

تصاعدت أبواق القاطرات وتعانق البحارة، وهتف أفراد الطواقم في فرح، وبعد ذلك نشروا مقاطع فيديو تسجّل فرحتهم حتى يتمكن العالم الذي ظل مترقباً في قلق لمدة ستة أيام، من المشاركة في ابتهاجهم بتحرير السفينة في قناة السويس.

تحميل المزيد