"نتعهد بالدفاع عن حقوق الإنسان أينما كانت في العالم، حتى لدى شركاء الولايات المتحدة". هذا ما أعلنه صراحة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن خلال تقديمه التقرير السنوي لوزارته حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم، في قطيعة واضحة مع سياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي تبنى مواقف دبلوماسية "انتقائية وصامتة" حيال هذا الملف، بحسب وصف التقرير. فكيف يمكن لإدارة بايدن فعل ذلك، خصوصاً مع الدول الحليفة أو الصديقة لواشنطن؟
ما أدوات واشنطن للدفاع عن حقوق الإنسان في العالم؟
منذ توليه الحكم أوضح الرئيس الأمريكي جو بايدن عدة مرات نيته تبني سياسة معاكسة لعدم مبالاة ترامب – إن لم يكن دعمه الصريح – لانتهاك القيم الديمقراطية من قبل حلفاء الولايات المتحدة وحتى غيرهم. وخلال حملة الانتخابات الرئاسية كتب بايدن على تويتر: "لا شيكات على بياض بعد الآن لديكتاتور ترامب المفضل"، في إشارة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. كما كان قد تعهد بإعادة تقييم العلاقات مع السعودية بسبب ملف حرب اليمن، وملف اغتيال الصحفي السعودي الراحل جمال خاشقجي، ووعد بمحاسبة منتهكي حقوق الإنسان.
ولكن تطرح تساؤلات الآن عن مقدار الضغط الذي يستطيع الرئيس بايدن ممارسته على خصومه، أو حلفائه -خصوصاً أولئك في الشرق الأوسط- كي "يكبح الانزلاق نحو السلطوية، لإقامة تحالف عالمي للديمقراطية"، بحسب وصف بايدن.
بالعودة إلى تقرير وزير الخارجية الأمريكي، "أَسِف" بلينكن لوضع حقوق الإنسان في العالم، "الذي يستمر بالسير في الاتجاه الخاطئ"، قائلاً: "سنستخدم كل أدوات دبلوماسيتنا للدفاع عن حقوق الإنسان ومحاسبة الذين يرتكبون الانتهاكات".
مؤكداً أن إدارة بايدن ستعترض على "انتهاكات حقوق الإنسان أينما حصلت ومن دون أن تهتمّ لكون المسؤولين عنها خصوماً أو شركاء".
الوزير الأمريكي لفت بشكل خاص في حديثه إلى الإبادة المرتكبة بحق الإيغور وغالبيتهم مسلمون في إقليم شينجيانغ الصيني، وقمع القوات المسلحة البورمية للمتظاهرين المعارضين لانقلاب شباط/فبراير.
بالإضافة إلى "اعتقال معارضين" في روسيا، و"العنف ضدّ المتظاهرين في بيلاروسيا"، و"الانتهاكات التي يتعرّض لها سكان اليمن"، و"الفظائع" التي وقعت في إقليم تيغراي الإثيوبي، و"عمليات الإعدام والإخفاء القسري والتعذيب التي ارتكبها النظام السوري".
لا آثار واضحة لسلاح العقوبات الأمريكية
لكن في الوقت نفسه، لم يعلن بلينكن عن أيّ إجراءات عقابية جديدة، في وقت لم تؤدّ فيه العقوبات الحالية المفروضة على الصين أو بورما، على سبيل المثال، إلى أيّ نتيجة سوى أنّها دفعت ببكين للردّ بعقوبات مماثلة.
وأكد بلينكن أنّ واشنطن ستسعى دائماً للقيام بأعمال "بتناغم" مع حلفائها، كما حدث مؤخراً في العقوبات التي استهدفت روسيا وبورما والصين، دون توضيح أكثر.
رافضاً في الوقت نفسه "ما يردده البعض بأن الولايات المتحدة يجب ألا تكلّف نفسها عناء الدفاع بقوة عن حقوق الإنسان، أو أنه يجب علينا فقط أن نسلّط الضوء على الانتهاكات التي تحدث في بعض الدول". معرباً عن أسفه؛ لأنه "في السنوات الأخيرة غالباً ما لم يسمع منا المدافعون عن حقوق الإنسان سوى الصمت"، في هجوم على السياسة الخارجية التي انتهجها سلفه مايك بومبيو، وشدّد على أنّ هذه الصفحة طويت "لأننا لن نبقى صامتين".
هل فشلت إدارة بايدن بهذا الملف قبل أن تبدأ فيه؟
منذ توليها السلطة في 20 يناير/كانون الثاني 2021، سعت إدارة بايدن لأن تبرهن على أنها تضع بالفعل حقوق الإنسان في قلب دبلوماسيتها، ولا تتردّد في إدانة قرارات تتخذها دولة حليفة لها. وككلّ عام، تناول التقرير السنوي عن أوضاع حقوق الإنسان في العالم الانتهاكات التي تتعرّض لها هذه الحقوق في دول حليفة للولايات المتحدة مثل مصر والهند والمملكة العربية السعودية.
لكنّ بايدن فشل في أنظار منتقديه في أحد أول اختباراته في هذا المجال، عندما بدا في قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي اغتيل داخل قنصلية المملكة في إسطنبول في 2018، أنه يأخذ في الحسبان اعتبارات أخرى تتخطّى اعتبارات حقوق الإنسان.
يعتبر هؤلاء أنه إذا كان الرئيس الديمقراطي وفّى بوعده برفع السرية عن تقرير للاستخبارات الأمريكية يتّهم علانية وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بأنّه "أجاز" العملية التي أدت لمقتل خاشقجي، إلا أنّ بايدن لم يذهب في هذه القضية إلى حدّ فرض إجراءات عقابية على الرجل القوي في المملكة النفطية والمتهم بقتل خاشقجي.
أثارت هذه "المقاربة السياسية الواقعية" خيبة أمل لدى المدافعين عن حقوق الإنسان، وكشفت عن مقاربة حذرة لواشنطن لتجنّب أي شرخ دبلوماسي مع الرياض.
مع ذلك، فقد ميّز الرئيس الديمقراطي نفسه بشكل واضح عن سلفه الجمهوري، الذي كان يرفض مجرّد توجيه اتهام علني لوليّ العهد السعودي، والذي على نطاق أوسع، لم يجعل حقوق الإنسان أبداً أولوية في سياسته الخارجية.
ليس لدى إدارة بايدن الكثير لتفعله حيال انتهاك حقوق الإنسان في الشرق الأوسط
وبعيداً عن الدول الغنية الحليفة لواشنطن، لم تبرهن بعد إدارة بايدن شيئاً حيال دفاعها عن حقوق الإنسان في دول أخرى حليفة لها تعتمد على مساعداتها ودعمها المباشر السنوي، مثل مصر على سبيل المثال.
وعموماً، يقول الدبلوماسي المصري السابق، والكاتب بصحيفة "واشنطن بوست"، عزالدين فشير، إنه ليس لدى إدارة بايدن الكثير لفعله حيال الانتهاكات لحقوق الإنسان في الشرق الأوسط.
وبحسب فشير، "يواجه الرئيس الأمريكي شرق أوسط يعاني من استقطاب أشد مما كان الوضع عليه في عام 2016، مع حلفاء مصممين على انتهاج سياستهم الخاصة. وأي تغيير في سياسة الولايات المتحدة – سواء فيما يتعلق بالسياسة التوسعية النووية والإقليمية لإيران أو الحروب الأهلية العربية أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي – سيواجه مقاومةً صلبةً من قبل هؤلاء الحلفاء: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل ومصر"، بحسب تعبيره.
مضيفاً: نتيجة أولوية هذه الموضوعات للقادة العرب وتقلص شهية واشنطن للتورط في الشرق الأوسط، فإنّ اختيارات بايدن ستكون أكثر صعوبة من اختيارات سابقيه. في هذا السياق، من المستبعد أن يضيع موارده المحدودة في إجبار هؤلاء القادة على احترام القيم الديمقراطية، خاصة في ضوء النتائج الهزيلة لسياسة "دعم الديمقراطية" التي تبناها كل من جورج بوش وباراك أوباما. فبعد قرابة عقدين من اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول وعقد من تظاهرات "الربيع العربي"، أصبح الاعتقاد السائد أنّ الديمقراطية العربية لن تنطلق من واشنطن، هذا إن انطلقت من الأساس.
يقول فشير: ليس معنى هذا أنّ بايدن لن يفعل شيئاً إزاء انتهاكات حلفائه للقيم الديمقراطية. فمن المؤكد أنه سيدين هذه الانتهاكات ويدعو لاحترام القيم الديمقراطية ويبقي على مسافة من مرتكبي الانتهاكات الأكثر سوءاً. كما يمكن أيضاً أن يصر، مع التهديد بفرض عقوبات جزئية، على اتخاذ حلفائه إجراءات محددة وواضحة كي يبين الفارق بين موقفه وبين تواطؤ ترامب. وهناك العديد من الممارسات القبيحة التي تصلح هدفاً لهذه الإجراءات؛ في مصر، إطلاق سراح معتقلين سياسيين والحد من الاحتجاز التعسفي؛ وفي السعودية، إطلاق سراح المدافعات عن حقوق المرأة ووقف اغتيال المعارضين؛ وفي الإمارات، إلغاء نظام الكفالة الذي يستغل العمال الأجانب.
من جانبه، يقول دانيال برومبرغ، الباحث والأكاديمي ورئيس مؤسسة إحلال الديمقراطية والتغيير السياسي في الشرق الأوسط، بواشنطن، إن احتفاء الإدارة الأمريكية بالقيم الديمقراطية ليس بالأمر الصعب، لكن تأسيس برامج وسياسات تمنح القادة ومؤيديهم حوافز مقنعة للمخاطرة، حتى ولو بإجراء تغييرات متواضعة في قواعد ومؤسسات الحكم الاستبدادي شيء آخر تماماً.
ويقول برومبرغ في مقالة بموقع Responsible Statecraft الأمريكي: في الواقع إذا أراد بايدن خلال عامه الأول أن يبرز دبلوماسية متجددة في الشرق الأوسط والمجتمع الدولي ككل فسيتعين عليه استضافة قمة عالمية لحقوق الإنسان، ومن شأن هذه القمة أن تبرز التزامه باستعادة القيادة الأمريكية تحت مظلة التعددية المتجددة.
وهذه الدعوة سيستمع لها القادة العرب ومناصروهم على نطاق واسع، وبالطبع معارضوهم المحاصرون، وستجد لها صدى لأن انتهاكات حقوق الإنسان أدت إلى تعطيل العديد من جوانب الحياة اليومية للمواطنين والنخب، ناهيك عن خطط الأنظمة العربية.
وبحسب برومبرغ، فإن "مزيجاً من الدبلوماسية الثنائية الهادئة والجهود متعددة الأطراف الأعلى صوتاً" قد يؤدي إلى إحراج منتهكي حقوق الإنسان وإزعاجهم بطرق قد تكون أكثر فاعلية بكثير من تهديدات الولايات المتحدة بفرض "المشروطية".