في البداية، وقبل أن أتحدث عن الإلحاد والشك، ينبغي أن نفرِّق بين الشك الذي اتبعه كل من الدكتور مصطفى محمود –عليه رحمة الله– والإمام الغزالي، فهناك فرق شاسع بين من يبحث عن الحقيقة المطلقة ويحاول أن يجد لها حلاً مطلقاً، وبين مَن يعاند ويغلق على نفسه الدائرة ولا يريد الخروج منها ولا يعترف بإمكانية الخروج منها بالأساس، وهذا ما يسمى "الشك الارتيابي"، وينتج عادة بسبب التعارض بين أفكار وشهوات دنيوية تتعارض مع أفكار الإيمان وتطبيقاته.
والإلحاد أو الشك في الإيمان بشكل أعم، مرحلة وفترة يمر بها العلماء والفلاسفة والفقهاء والمفكرون عادة، كالدكتور مصطفى محمود -عليه رحمة الله- الذي ظل قرابة ثلاثين عاماً يشكك بعملية الخلق ليخرج لنا في النهاية بعلم واسع وبكتبه التي ترد على شبهات الإلحاد، ومنها كتاب "رحلتي من الشك إلى الإيمان" الذي أنصح بقراءته. وكذا الإمام الفيلسوف أبوحامد محمد الغزالي، وصف "حجة الإسلام" في كتابه "المنقذ من الضلال" كيف أصابته موجة الشك نتيجة التناقضات التي تعرَّض لها في عصره بسبب التقليد الأعمى للاعتقادات والقيم الموروثة. وهذا أمر لم يستسغه ولا يمكن تصوره؛ لأنها مذاهب يناقض بعضها بعضاً، فإما أن تصبح باطلة كلها وإما أن تصبح أحدها صحيحة والباقي باطلاً. فرأى الإمام الغزالي أنه لا بد من الخوض في رحلة الشك حتى يستقل بفكره ويكون له رأي في هذه المسألة، فلا خلاص إلا بالاستقلال والشك بالموروث.
وعبَّر عن ذلك بجملة موجزة ناجزة: "إن الشكوك هي الموصلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بات في العمى والضلال".
بعدما رفض الغزالي المعلومات التي حصلها عن طريق الحواس بالتقليد والتلقين، اتجه إلى المحسوسات ينشد فيها اليقين، لكنه شك في المعرفة الحسية لأن الحواس عرضة للخطأ كما في خداع الحواس، ويضرب مثالاً على ذلك بأننا نرى الكواكب صغيرة جداً في مقدار الدينار؛ لكن الأدلة الهندسية تثبت عكس ما نرى، وأن الكواكب منها ما هو أكبر من الأرض.. فمن أين الثقة بالمحسوسات؟
ويقرر الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال" أن الحواس تخدعنا، وأن المعارف الحسية بناء على ذلك عارية عن اليقين، ولهذا فلا يمكن أن تعد علماً حقيقياً. يقول في ذلك الغزالي: "من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف. هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته. فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً".
فالعقل البشري الذي أنعمه الله علينا لا تنفذ إليه أي أدلة أو براهن إلا من خلال نطاق محدود جداً وعادة تكون حسب البيئة التي وُلد فيها، لذلك اعتبر الجاحظ أن آراء الإنسان وعقائده هي غير إرادية، بل هي أشياء تفرض عليه فرضاً، وأنها نتيجة حتمية للطريقة التي تكون بها عقلك وما عرض عليه من آراء.
مثل الخيل الذي وضع له إطار فوق عينيه ليصبح لا يرى الأشياء إلا ما وضح له في مجاله وإطاره فقط، وهكذا نحن البشر، لا نحسُّ بوطأة الإطار الموجود فوق أعيننا، إلا في حالة واحده فقط، إذا تحررنا قليلاً منه، وكلما تحررنا أكثر وأكثر نيقن أن أفكارنا الخاصة يقيناً وصرنا أقل تعصباً لآرائنا وأكثر تواضعاً في تقبل الاختلافات بشكل أعم.
إن كل طائفة من البشر تعتقد أنها هي الصحيحة وأن قيمها هي المعيار الذي يميز بين الحق والباطل، كل منا يعيش في قوقعته البشرية، ويرى الدنيا بمنظوره العاطفي ورغباته. وكل ما ازداد الإنسان حنكة وتجارب في حياته ضعفت تلك النظرة وإن كانت لا تموت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.