يا أبي.. في مرحلة من عمري، هي أولى مراحل الصبا، كُنت بجوارك لا أبتعد عنك ولا تبتعد عني، فعند الطعام أنتظرك إلى أن تأتي، لكي نأكُل سوياً، وعند النوم لا أجد النوم غير على ذراعيك وكف يديك الذي يسير على رأسي، واسْتِحْضَار الحكايات والقصص الخلابة منك، وعند الصباح لا ألجأ إلى شيء قبل أن أوقظك من نومك معي حتى أشعُر بالأُنس، فكُنت أذهب لإيقاظك وأستخدم حيلي الصبيانية الماكرة لكي تنهض من النوم.
وعندما كُنت تقوم تأخذني بين ذراعيك بالأحضان التي أتمنى لحظة منها الآن، فتأخذني وتقول لي: سوف ننام قليلاً ثم نقوم بعدها، أقول لك: لا بل الآن، وكُنت أُصِر على نهوضك لكي نتناول وجبة الإفطار سوياً؛ فتستجيب لي وتقوم، وأنت لم تأخذ ما يكفيك من النوم.
وعندما كُنتُ أرتدي حذاءك الشاسع عليَّ كان يطرحني أرضاً من كِبر حَجمِه، ولكني واللهْ كُنت أشعرُ بهيبةٍ ووقار بل وذوقٍ سامٍ رفيع، وعندما كُنتُ ألبس شيئاً من ملابسك أجد فيها الدفء والقوة. وعند وجودك في المكان أشعر بالعزوة والسند، وعند اقترابك لي أشعر بالطمأنينة والسكينة، وعند تحدثك معي أجد فيه الرزانة والحكمة، وعند أمرك أجد الرحمة والشفقة، وعند عقابك يصاحبهُ التهاون والمسامحة، وعند أخذ حقك يتبهرج بالعفو والصبر.
مرحلة الشباب
ولكن يا أبي يُحزنني أن أقول لك: إنني قد بَلغتُ من العُمر شيئاً فشيئاً، وأصبحت ناضجاً العُمر وليس العقل، ويا ليتَ بلوغ العُمر ما قد أتى ودامَ الحالُ على الطفولة.
فعندما بلغت من العُمر يا أبي أصبحَ حذاؤك الذي كُنت أشعرُ بهِ بالهيبة والوقار والذوق الرفيع عند ارتدائهِ الآن أرهُ أنَّه ذوقٌ سيئ منك لاختيارك لهذا الحذاء، بل وأمزح في نفسي على اختيارك لهُ، وملابسك التي كُنتُ أجد فيها الدفءَ والقوة عندما ألبس منها شيئاً في الطفولة. الآن عندما أراك ترتدي منها أقول: إنها ملابس قد مضى أوان عصرها من فترة كبيرة من الزمن، وإنَّ ذوقك قد انقرض.
الآن يا أبي عندما أجدك في مكان ما أذهب إلى مكان آخر. واقترابك الذي كُنت أشعر بِهِ بالطمأنينة والسكينة، الآن كُلَّمَا تقترب أنت أبتعد أنا، وعقابك الذي كُنت أقول: إن فيهِ من التهاون واللين الكثير، بل والمسامحة المُفرطة، في هذا الوقت أقول إنك كَوَّنتَ لي آلاماً لا حصر لها من عقابك المؤلم إلى أن أرهقتني نفسياً ومزقتني قلبياً، بل وألقيت جميع فشلي في الحياة باللوم والعتاب عليك في نفسي أو مع الآخرين.
مرحلة ما بعد الزواج
الآن تزوجتُ يا أبي وأصبح لي أبناء؛ وعندما أتذكر ما فعلتهُ بك وقُلتهُ عليك إن كان في نفسي أو من أمامك في مرحلة الشباب أبكي بدموع من الدماء وليس المياه تحسراً على ما قد مضى من إهانة لك وتحملك لي.
الآن يا أبي أتمنى أن أكون بجوارك تدفعني بيديك إلى أحضانك بل وأبكي بصوتٍ عالٍ. وفي أحيان أُريد أن ألطم على وجهي بيدي وبكامل قوتي عندما عرفت معنى الأبوة، وأدركت كَم خوف الأب على ولده، وكَم حُب الوالد لولده، وكَم مُعاناة الأب مع ابنه، وكَم ظُلم الابن لأبيه في مرحلة الشباب والرعونة والهوج.
ولكنني ما زلتُ مناطِحاً للصِخور، وإلى الآن يا أبي لم أعترف بخطئي أمامك بل كُل ذلك أتحدث بهِ في خاطري فقط والكِبر يملؤني. ولكن أجعل لي من الأعذار؛ لأنها هذه غريزة في البشر. فعندما يُخطئ الإنسان مِنّا لا يعترف بخطئه أو يصلحه بشيء أفضل منهُ غالباً. فعُذراً يا أبي قد تملكني الشيطان ولم أفعل لك شيئاً جميلاً غير المعاتبة واللوم على نفسي، ولم أغير من معاملتي معك أو أفعل لك شيئاً جميلاً.. عُذراً يا أبي.
مرحلة "بعد وفاة الأب": الندم المؤلم
مشتاق إليك يا أبي ولو أنك تعود إلى الحياة مرة أخرى لعوضتك خيراً بما قد مضى من معاملة سيئة لك وبعدي عنك، بل وقد كُنت تَلبَّدت بك، ولا ابتعدت بأشغال الدنيا ومتاع الحياة عنك، ولما جعلتها حاجزاً من اقترابي منك والبر لك. أود لو تعود لأقبّل عند كل صباح يديك بل وقدميك، وما تأمرُني بِهِ سوف أفعلهُ، وما تنهيني عنهُ سوف أتجنبه.
إلى الآن يا أبي لا أصدق أنك رحلت، وأنني لن أراك مرةً أخرى في الدنيا التي لا شيء فيها دائم ولا كامل، ولا ندرك قيمة الشيء أو المرء فيها إلا بعد فقده.
ما زلتُ أتحسر يا أبي في اليوم مئة مرة على كُل لحظةٍ لم اغتنمها معك بحُب وإخلاص، ولكني قد تعلمت يا أبي، واشتريت هذا العلم بأغلى وأكبر الأموال وأفدح وأعظم الخسائر، فأرجوك أن تعفو عني، فهل تعفو عني؟
عليك رحمة الله يا أبي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.