أثر انهيار أسعار النفط بسبب وباء كورونا والإغلاق الاقتصادي سلبياً على الدول التي يعتمد اقتصادها على صادراتها النفطية مثل أغلب دول الخليج، ومع عودة الأسعار للارتفاع خلال الشهر الجاري وتوقعات مواصلة ذلك ظهرت تحذيرات من تداعيات الارتفاع، فما القصة؟
كانت أسعار النفط قد شهدت انهياراً تاماً في مارس/آذار من العام الماضي، واضطر بعض منتجي الخام الأمريكي إلى بيعه بسعر أقل من الصفر لتقليص الخسائر الناجمة عن تكلفة التخزين العالية، وانخفض سعر خام برنت القياسي إلى أقل من 12 دولاراً للبرميل، بسبب تأثير وباء كورونا من ناحية وحرب الأسعار التي اشتعلت بين السعودية وروسيا وقتها للخلاف حول تمديد تخفيضات الإنتاج.
وبعد مرور عام على ذلك الانهيار شهدت الأسواق العالمية ارتفاعاً قياسياً في أسعار النفط، إذ تجاوز سعر خام برنت مستوى 70 دولاراً أمريكياً للبرميل الواحد في وقتٍ سابق من مارس/آذار الجاري، ثم انخفض السعر منذ ذلك الحين إلى أقل من 64 دولاراً للبرميل. فإلى أين يتجه سوق النفط، وما تداعيات هذا التقلّب على وتيرة التحول العالمي إلى الطاقة النظيفة؟
لماذا ارتفعت أسعار النفط؟
تقف عدة أسباب وراء ارتفاع أسعار النفط من أدنى مستوياتها في عام 2020، ويتمثَّل أحد هذه الأسباب في اعتقاد شائع بأنَّ العالم مقبل على دورة فائقة للسلع، حيث سيؤدي حدوث تسارع كبير في النشاط الاقتصادي بعد جائحة فيروس كورونا إلى ارتفاع الطلب على النفط.
وقد ظلّت إمدادات النفط محدودة منذ أن خفضت المملكة العربية السعودية وروسيا إنتاجهما في ربيع عام 2020، الأمر الذي أدى بدوره إلى ارتفاع الأسعار.
وخلال اليومين الماضيين تراجعت الأسعار وسط مخاوف من أن صعوبات توفير اللقاح في أوروبا سَتبطئ وتيرة الانتعاش الاقتصادي العالمي، وبفضل ارتفاع قيمة الدولار بعد رفض بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الحد من ارتفاع عائدات سندات الخزانة الأمريكية في أحدث اجتماع للجنة السياسة النقدية للبنك في 17 مارس/آذار.
ومع ذلك، يبدو أنَّ أسعار النفط ستتخذ منحنى تصاعدياً على نطاق واسع. تشير معظم شركات النفط الكبرى إلى تخفيضات في الإنفاق الرأسمالي، وفي الوقت نفسه، ثمة مصلحة ثابتة لدى منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في مواصلة تقييد الإنتاج للحفاظ على ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى أنَّ برنامج عمل اتفاق باريس للمناخ يهدف إلى رفع تكلفة إنتاج برميل النفط، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الأسعار.
ما تأثير أسعار النفط على الطاقة النظيفة؟
رغم صعود مصادر الطاقة المتجددة فإنه لا يزال يُتوقع زيادة الطلب على الوقود الأحفوري لسنوات عديدة مقبلة، إذ تتوقع دراسة حديثة أجرتها شركة الأبحاث الأمريكية "BloombergNEF" أنَّ الطلب على النفط سيشهد انخفاضاً هيكلياً لصالح الأجندة الخضراء بدايةً من عام 2035، بحسب تقرير لموقع The Conversation الأسترالي.
بالتأكيد، قد تساهم ضرائب الكربون في تخفيف الطلب العالمي من خلال معاقبة الشركات على حجم استخدامها للوقود الأحفوري، سواء بموجب برنامج تجارة الانبعاثات التابع للاتحاد الأوروبي أو برنامج الصين الجديد، أو برنامج لندن التطوعي المقترح، أو برنامج الولايات المتحدة. ومع ذلك سيعتمد الأمر على كيفية تطوير القواعد الملزمة. يعتبر برنامج الاتحاد الأوروبي الأكثر تطوراً، لكنه يتضمن الكثير من الاستثناءات التي تقلل حالياً من المتطلبات الواجبة على العديد من القطاعات.
سيكون سعر النفط وعلاقته بالتعافي الاقتصادي وأسعار السندات والتضخم أمراً حيوياً للنظام العالمي ما بعد جائحة فيروس كورونا، فأسعار النفط ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتضخم، نظراً لأنَّ النفط يُستخدم في شتى المجالات الاقتصادية. على سبيل المثال، عندما تتكبد الشركات تكلفة إضافية في خدمات النقل المعتمدة على النفط، فإنَّها تمرر تلك التكلفة إلى المستهلك من خلال زيادة أسعار سلعها وخدماتها، الأمر الذي بدوره يدفع معدلات التضخم إلى الارتفاع.
هناك بالفعل مخاوف كبيرة في الولايات المتحدة بشأن الأثر التضخمي لحزمة التحفيز الاقتصادي البالغ قيمتها 1.9 تريليون دولار أمريكي، لاسيما عندما أشار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى أنه سيتحمّل ارتفاع معدل التضخم أكثر من أي وقت سابق، ويغذي ارتفاع أسعار النفط تلك المخاوف.
ترتفع أسعار الفائدة طويلة الأجل مع تعزيز مخاوف التضخم. إذا استمر هذا الوضع فقد يحد مما يمكن للحكومة الأمريكية أن تقترضه للإنفاق على البنية التحتية. في الوقت نفسه، فإنَّ التضخم كفيل برفع تكلفة البنية التحتية.
لذلك، يمتلك بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي حافزاً لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة قدر الإمكان، وانتشرت الكثير من التكهنات حول ما إذا كان سيفعل ذلك من خلال شراء المزيد من سندات الخزانة طويلة الأجل، لكن قد يزيد ذلك من معدلات التضخم، الأمر الذي ربما يدفع أسعار النفط إلى مستويات أعلى في نهاية المطاف. وبناءً عليه، يتضح أنَّها مسألة تحقيق التوازن الصحيح بين الإفراط في تحفيز الاقتصاد والتهاون في فعل ذلك. إذا استطعنا السيطرة على معدلات التضخم فقد يحدث ارتفاع في أسعار النفط أو على الأقل استقرارها، تماماً كما حدث بعد الأزمة المالية العالمية خلال الفترة من 2007 إلى 2009.
كان الوضع مختلفاً بعض الشيء في المملكة المتحدة، فقد ظل التضخم منخفضاً مع تراجع أسعار النفط، وألقت أزمة جائحة كورونا بظلالها السلبية على الطلب على النفط وأنشطة الحفر والاستكشاف للشركات البريطانية. يُفترض أن يساعد ارتفاع أسعار النفط في عكس هذا التأثير السلبي، بحسب حجم الطلب على النفط من الخارج، بما في ذلك من أوروبا.
على الجانب الآخر، يكون ارتفاع أسعار النفط موضع ترحيب في البلدان النامية التي تعتمد على تصدير النفط والموارد الطبيعية الأخرى، فقد تضررت الميزانيات الحكومية للعديد من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، من بينها نيجيريا وإندونيسيا، بسبب انخفاض الطلب على النفط خلال فترة تفشي فيروس كورونا.
اضطرت الحكومة في نيجيريا إلى تخفيض قيمة النيرة النيجيرية لتحفيز الاقتصاد. في مثل هذه الظروف، قد يُشكّل ارتفاع أسعار النفط مصدر ارتياح بالنسبة لحكومات مثل هذه الدول، وكذلك لمصدري السلع الأخرى المرتبط أسعارها بالنفط مثل المعادن الصناعية.
في الوقت نفسه، تتضرر دول أخرى جراء ارتفاع أسعار النفط، لاسيما الدول المستوردة للنفط مثل تايلاند وتركيا، وكان البنك المركزي التركي قد رفع سعر الفائدة بمقدار نقطتين مئويتين، جزئياً بهدف كبح التضخم.
المناخ أبرز الخاسرين من ارتفاع سعر النفط
يؤثر سعر النفط في قدرة الدول على تحقيق الهدف المطلوب بموجب اتفاق باريس للمناخ، ألا وهو تحييد أثر الكربون، أي خفض صافي انبعاثات الكربون إلى مستوى الصفر.
يساهم ارتفاع أسعار النفط في تعجيل الوصول إلى نقطة التحول إلى الطاقة النظيفة، حيث تصبح مصادر الطاقة المتجددة أرخص وسيلة لتوليد الكهرباء وإمدادات الطاقة، وساعدت بالفعل التكلفة الأقل للطاقة المتجددة مقارنةً بالوقود الأحفوري في جعلها أكثر جاذبية للمستثمرين.
ومع ذلك، من المفارقات أنَّ ارتفاع أسعار النفط يوفر أيضاً حوافز للشركات النفطية لكي تنفق المزيد على عمليات الاستكشاف والإنتاج، وهي خطوة محتملة في الاتجاه الخاطئ لتحقيق صافي انبعاثات صفرية. أما في البلدان النامية التي تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط، فيعني ارتفاع أسعار النفط كسب المزيد من الأموال للإنفاق على احتياجات المجتمع المحلي، وهو ما يعزز شعبية الحكومة، لذا قد تمنح حكومات تلك الدول أيضاً أولوية أكبر لاستكشاف وإنتاج النفط، ربما على حساب تطوير مصادر الطاقة المتجددة والالتزام بالمساهمات المحددة وطنياً للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة.
وكانت الحرائق التي شهدتها غابات الأمازون لمدة أسابيع، في أغسطس/آب 2019، قد أثارت قلقاً عالمياً، إذ رغم أن حرائق الغابات تحدث كل عام، فإنها تزداد اتساعاً بصورة متسارعة وفاقت المساحات التي التهمتها النيران في 2019 مساحة ما التهمته العام الذي سبقه بنسبة 82%، وهو ما زاد من حدة التحذيرات بشأن تأثير التغير المناخي ووصوله إلى مستويات مخيفة.
ورغم أن ارتفاع أسعار النفط لا يعني بالضرورة التأثير السلبي على حجم أو وتيرة الإنفاق على مصادر الطاقة المتجددة بوجهٍ عام، لكنها بالتأكيد تخاطر بتقويض إحراز التقدّم في البلدان النامية في هذا الصدد. وهذا يعني أنَّ القدرة على منع حدوث ارتفاع قياسي في أسعار النفط ستؤدي دوراً رئيسياً في وتيرة وحجم التحول العالمي في مجال الطاقة.
وفي ظل تسارع التغيرات المناخية في الكوكب وظهور تأثيرها المدمر بصورة أكثر تسارعاً، تصبح قضية الحد من الانبعاثات الكربونية ملفاً ملحاً يحتاج إلى مراقبة أسعار النفط حتى لا تنهار مرة أخرى ولا ترتفع بصورة تسبب أضراراً بالغة، بحسب محللين يستشهدون بحرائق أستراليا المدمرة قبل عام، والفيضانات التي تعاني منها حالياً وغير المسبوقة منذ أكثر من قرن.