يشكّلون 30% من تجارة مصر غير الرسمية.. أين تذهب البضائع المصادَرة من الباعة الجائلين؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/19 الساعة 07:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/19 الساعة 07:21 بتوقيت غرينتش

مشاهد الكر والفر بين الباعة الجائلين وموظفي الأحياء المسؤولين عن إزالة الإشغالات من الشوارع، واحدة من المشاهد الكلاسيكية في أذهان كل مصري، حيث يندر أن تخلو ذاكرة أي مواطن من مشهد لموظف في أحد أحياء القاهرة الكبرى وهو يطارد عدداً من الباعة الجائلين؛ لمصادرة بضائعهم البسيطة، أو "القبض على" فرشاتهم المتواضعة التي تنتشر في شوارع العاصمة المصرية.

لكن، مؤخراً تحولت تلك العلاقة من مادة للتندر والطرافة في مجالس العائلة وجلسات الأصدقاء إلى حالة مثيرة للشجن على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما تم تداول صورة لموظف بأحد أحياء القاهرة يسير مزهوّاً بنفسه وهو يحمل كرتونة صغيرة بداخلها بعض ربطات الخس، صادرها من بائعة متجولة تظهر في خلفية الصورة، وهي سيدة عجوز رثة المظهر معتلة الصحة، تنظر باستسلام تام يكشف عن قلة حيلتها.

ورغم معاناة كثير من المصريين من الإزعاج والفوضى وقلة النظافة الناتجة عن انتشار الباعة الجائلين في الشوارع، فإن الصورة حصدت كمّاً هائلاً من التعاطف مع البائعة المسكينة، خصوصاً بعدما انتشر مقطع فيديو للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وهو يشتري 4 كيلوغرمات من الموز من بائع متجول في أحد الشوارع، خلال جولة ميدانية له بالقاهرة، كما سبق تداول فيديوهات أخرى، في أوقات سابقة، للسيسي وهو يتحدث مع باعة جائلين بمناطق مختلفة، ما يعكس عدم ممانعة أعلى هرم السلطة التنفيذية في الدولة وجود الباعة الجائلين.

في الأثناء انتقد فريق ثالثٌ الأمر، معتبراً أن تلك الحملات لا تؤدي الهدف منها بتنظيف الشوارع من الباعة العشوائيين، بقدر ما تفتح الباب أمام بعض موظفي البلدية ومعاوني المباحث وأمناء الشرطة غير الشرفاء للاستفادة من الأزمة عبر مقايضة الباعة وفرض إتاوات (رشاوى) عليهم مقابل تركهم يسترزقون، لكن يبقى سؤال أهم، وهو: أين تذهب كل هذه البضاعة المصادَرة من الباعة الجائلين في مصر؟

جال فريق "عربي بوست" على عدد من أحياء القاهرة؛ للتعرف على معاناة الباعة الجائلين في مصر، وكانت البداية أسفل كوبري المشاة بموقف عربات النقل الجماعي "عبود" بمنطقة شبرا الشهيرة في وسط القاهرة، باعتبار المكان جاذباً لكل من لديه رغبة في البيع؛ لكونه ملتقىً للآلاف يومياً من المواطنين البسطاء الذين يترددون على الموقف من المحافظات المختلفة.

يضم المكان بائعين يعرضون كل المستلزمات اليومية بداية من الإبرة وفرشاة الشعر وصولاً إلى الأجهزة الإلكترونية، ولا تتوقف حركة البيع والشراء على مدار الساعة. 

على الرصيف المواجه لمستشفى "مجد الإسلام" في قلب الموقف، تجلس "أُم ياسين" بملابسها السوداء، مستندة بظهرها إلى الجدار الإسمنتي الملاصق لكوبري عبود، قائلة لـ"عربي بوست"، إنها تسكن في بدروم إحدى البنايات بمنطقة الشرابية الشعبية القريبة من المكان، وتستيقظ كل يوم مع بزوغ الفجر، وتنهض من على حصيرتها البلاستيكية لتجهيز بضاعتها من قدّاحات وجوارب رجالية وأربطة الأحذية بخلاف بعض المستلزمات المنزلية البسيطة، وتحميلها على "تروسيكل" يملكه أحد جيرانها (دراجة نارية ثلاثية العجلات)، وتنتقل به إلى هذا المكان الذي اعتادت الجلوس فيه منذ سنوات كثيرة، فالمكان مأوى لها من السادسة صباحاً وحتى الثامنة مساء.

تعمل السيدة الستينية بهذه المهنة منذ ما يزيد على 19عاماً، حيث جاءت من الصعيد منذ 40 عاماً وعملت  في تنظيف المنازل، لكن بعد اعتلال صحتها وإصابة واحدة من بناتها الست بالفشل الكلوي، تحولت للبيع المتجول، فاستأجرت صندوقاً يتكون من قطعة خشب قديمة ومتهالكة مليئة بالمسامير مقابل رهن 70 جنيهاً، تفرش عليه بضاعتها القليلة التي تحصل عليها بالتقسيط من أحد التجار وتسترزق من بيعها، مشيرة إلى أن كل بائع يكتب اسمه وعلامة خاصة به على الصندوق الذي يفرشه؛ حتى لا يُسرق أو يضيع في زحام السوق.

السيدة واحدة من ستة ملايين بائع متجول ينتشرون في شوارع العاصمة المصرية، طبقاً لتقدير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يتحكمون في نحو 30% من حجم التجارة غير الرسمية، تمكَّن بعضهم من إنشاء كيانات نقابية مستقلة  خلال الأعوام القليلة الماضية، وتم ضمهم للنقابة العامة لعمال التجارة، التابعة لاتحاد عمال مصر، تحت اسم "شعبة الباعة الجائلين".

هؤلاء يحصلون على قُوتهم من خلال البيع على أرصفة الميادين الرئيسية والأسواق، وأمام محطات السكك الحديدية ومترو الأنفاق، ويتحايلون على الإجراءات الأمنية عبر المرور من دهاليز وفتحات الأسوار لعرض الخدمات الموزعة بين أكواب الشاي والمأكولات والملابس والمستلزمات اليومية.

الباعة الجائلون بين مصادَرة بضائعهم ورشوة موظفي الحي 

ذكريات البائعة مع الشرطة مريرة وكثيرة وهي مثل أغلب الباعة الذين أجمعوا على أن الشرطة والبلدية- هذه الأيام بالتحديد- في حالة توحش، فالحكومة هائجه تبحث عن أية أموال، وأفرادها عطشى لأخذ نصيبهم من الغنيمة، والتجار يرفعون الأسعار، والبائع "مش عارف يلاقيها منين واللا منين!".

هؤلاء الباعة يمثلون الملامح الأساسية المميزة لشوارع محافظات مصر، كما أنهم عنصر حيوي في الثقافة السائدة بالمدينة. ومع ذلك، فإنهم يومياً في "جهاد"، تارة مع البلدية وتارة مع البلطجية وأخرى مع معاوني المباحث الذين رفعوا مبالغ الرشوة التي يتقاضونها إلى أضعاف ما كانت عليه، لموازاة الارتفاع الكبير في الأسعار! وبين هذا وذاك تشتعل موجة الغضب التي يصبُّها على الباعة المتجولين من وقت لآخر، المارة أو أصحاب المتاجر التي يقفون أمامها، فضلاً عن ظروف الطقس وتقلباته والوقوف أو الجلوس لساعات طويلة.

رصد "عربي بوست" مشهد البيع والشراء الذي ينقلب خلال لحظات إلى كابوس عندما يصرخ الناضورجي (طفل يكلَّف بالوقوف في مكان بعيد؛ لمتابعة ظهور حملات الحي والشرطة)، قائلاً: "بلدية.. بلدية.. شرطة.. شرطة..شد.. ارفع.. جُرِ"، حيث تعد هذه هي كلمات السر التي تتغير بها معالم الشوارع التي يقف بها الباعة الجائلون. 

لمدة لا تقل عن الساعتين يشهد المكان مطاردات لا تتوقف، بعض الباعة- خصوصاً من الشباب والرجال- يهرولون إلى الحواري والأزقة الجانبية؛ للإفلات بأقل قدر من الخسائر. بينما يجري آخرون خلف العربات التي تحمل بضاعتهم، وغالباً ما تكتفي النساء العجائز باستجداء الأمناء لتركهن، قائلات إنهن يكتبن على أنفسهن إيصالات أمانة وشيكات للتجار، فضلاً عن أن أُسرهن ينتظرون عودتهن بما يسد رمقهم. 

ولا يخلو المشهد من باعة يقفون ساكنين يتابعون الحملات دون خوف أو هرولة أو استجداء مثل غيرهم، وعلمنا أن هؤلاء نوعان: إما أن بضائعهم تخص واحداً من الباشوات (والمقصود هنا أحد موظفي الحي أو أمين شرطة، أو حتى تاجر كبير من تجار السوق ممن يملكون علاقات متشعبة مع الحي والشرطة).

تقول السيدة: "يستكثرون علينا رزقنا القليل ويشاركون فيه، ويستولون على بضائعنا، وبعدما كنا نسمع عن البلدية كل شهر مرة، أصبحوا يباغتوننا مرة واتنين في اليوم الواحد؛ للاستيلاء على ما معنا أو لأخذ إتاوات كبيرة مقابل تركنا نسترزق.. ولا نعرف هل نعمل لندبّر احتياجات أولادنا أم لندفع لرجال البلدية وأمناء شرطة المرافق"، معتبرةً أنَّ توحُّش هؤلاء سببه معاناتهم الاقتصادية، فهم يعوّضون الضرائب التي تقتطعها الحكومة منهم، وكذلك الأسعار التي ترتفع باستمرار "من سرقة جيوبنا".

تطلق السيدة زفرة ضيق، مشيرة إلى أنهم لجأوا إلى أحد الناضورجية ودفعوا له راتباً شهرياً؛ لمراقبة الطريق، وبمجرد أن يلمح سيارة الحي الذي يعرفه البسطاء باعتباره "البلدية"، يطلق صفارة إنذار متفقاً عليها لتحذيرهم، ونوع الصفارة هي الحاكم لهم، فالمتقطعة تعني أنهم سيدفعون إكرامية، والمتواصلة تعني أن الحملة تضم ضباطاً ذوي رتب كبيرة جاءوا لاستعراض عضلات الدولة والتقاط الصور وهم يطاردون الباعة، وبالتالي فلا مجال للتفاوض معهم، وتحسباً لعدم انتباه بعض الباعة للصفارة يأتي الولد جرياً وهو يصرخ "بلدية، شرطة"، كما أشرنا في السطور السابقة.

وعلى الفور يلملم الباعة بضائعهم بسرعة البرق، ثم يتجهون بها إلى أحد الشوارع الخلفية ومنه إلى أحد المخازن بإحدى العمارات، حتى تهدأ العاصفة، فيعودون إلى أماكنهم مرة أخرى.

البضائع المصادَرة تُحفظ في مخازن تابعة لشرطة المرافق والبائع المحظوظ فقط من يتمكن من استرجاع بعضها 

تعبّر السيدة عن استيائها، لأنها لا تستطيع الهروب ببضاعتها، فتضطر إلى دفع المعلوم المتفق عليه للبلدية، وإن رفضت فإنهم يأخذون بضاعتها، وتلف "كعب داير"، وتتعرض للإهانات والمضايقات لاسترجاعها.

تتذكر الخمسينية عندما أخذ رجال البلدية بضاعتها واستولوا على "فرش" الباعة المجاورين لها، وقتها ذهبوا معاً إلى القسم لدفع الغرامة وإحضار البضاعة ففوجئوا بسرقة نصفها، وعندما اشتكوا نصحهم أمين الشرطة بأن يحمدوا الله وينصرفوا بما تبقى لهم وإلا فسيصبُّ الضابط الموجود غضبه عليهم ووقتها لن يأخذوا أي شيء، واختتمت كلامها قائلة بمرح، إنها أوفر حظاً من غيرها، لأن بضاعتها لا تغري البلدية كثيراً، عكس "عم سلامة" صاحب عربة الفاكهة، فقد اعتاد أمناء الشرطة الذين يحرسون مخازن المصادرات، سرقة فاكهته؛ "ليدخلوا بها على عيالهم"، ثم يخبرونه بأنها تلفت وأنهم تخلصوا منها، دون أن يملك أي رد فعل سوى الدعاء عليهم.

الرصيف.. حائط الصد الأخير للباحثين عن فرصة عمل 

الباعة الذين التقاهم "عربي بوست"، أجمعوا على أنهم لا يريدون إلا بيع بضائعهم في مناطق التجمعات، فهم لا يريدون مخالفة القانون أو إشغال الطريق أو محاربة أصحاب المحال في رزقهم، لكنهم أيضاً يشتكون قطع أرزاقهم ويحذّرون من تحوُّل بعضهم إلى بلطجية.

"المسلمي" شاب في أواخر الثلاثينيات، يبدو من هيئته أنه على مستوى عالٍ من التعليم، وعلمنا من خلال حديثنا معه، أنه حاصل على ليسانس شريعة وقانون من جامعة الأزهر، ويعمل صباحاً في مكتب محاماة لا يعطيه أجراً جيداً، مما اضطره إلى العمل بائعاً متجولاً بعد نهاية دوامه الصباحي.

يقول الشاب بحسرة: "الرصيف هو حائط الصد الأخير للباحثين عن فرصة عمل، في سوق لفظت آلاف العاملين بالسنوات الأخيرة، لقد التحقنا أنا وكثير من أصدقائي بالأرصفة بعدما فشلنا في إيجاد عمل يتناسب مع الشهادات التي حصلنا عليها، أو يعمل بعضنا بشهادته لكن مقابل أجر لا يكفي لدفع ثمن المواصلات حتى، فما بالك بالإنفاق على أسرة".

يشير الرجل إلى أن لديه طفلتين توأمين وطفلاً أجرى عملية قلب مفتوح ويحتاج علاجاً مكثفاً بمبالغ طائلة، وعندما يجلس في البيت يوماً واحداً لا يجد طعاماً لهم.

يقف "المسلمي" على كرسي خشبي بالقرب من شارع 26 يوليو بوسط القاهرة، ويتجمع حوله المارة؛ ليلتقطوا منه قطع ملابس يقذفها في الهواء؛ لجذبهم إلى بضاعة أخرى معلَّقة على مواسير معدنية، سعر القطعة منها لا يتعدى خمسة دولارات.

جرَّب البائع المحامي البيع على الإنترنت ولكنه فشل، قائلاً: "زبائننا من الفقراء لا يستطيعون الشراء بأسعار المحال، والناس أصبحت أكثر فقراً وليس في استطاعتهم دفع قيمة التوصيل للمنازل، والحل هو الوجود في السوق ومواجهة البلدية وحملات الأجهزة، قائلاً: "اعتدنا الكر والفر، وكلنا نعلم أن حملات البلدية تأتي بتكليف من رئاسة الحي والمحافظة، وتصادر اللي على مزاجها، أو بمعنى أصح اللي الحكومة نفسها فيه، وهذه الأيام تقطَّعت أنفاسنا، بسبب وقوفهم فوق رؤوسنا ليل نهار، فهم يهبطون علينا من كل مكان"، مرجعاً ذلك إلى "رغبة الحكومة في جني المال بأي طريقة، فضلاً عن أن أمناء الشرطة وموظفي البلدية باتت حالتهم الاقتصادية صعبة مثل الأغلبية من فئات الشعب، مما يضطرهم إلى تكثيف الحملات للخروج بأكبر قدر من الغنائم سواء استولوا على بضائعنا أو أموالنا".

بائع متجول "جامعي" يحذّر من أن التضييق عليهم يمكن أن يقود إلى ثورة جياع

يستأجر "المسلمي" رصيف أحد المحلات مقابل مبلغ شهري يدفعه وفقاً لأهمية الشارع، فالمكان التجاري والمتميز في موقعه تصل قيمة إيجاره إلى ما يوازي مئة دولار شهرياً، لكنهم خفضوا القيمة في الفترة الماضية، بسبب ركود حركة البيع والشراء في الأسواق الشعبية، إذ إن ارتفاع الأسعار قلّل من حركة البيع، ولم يعد الزبون، كما كان سابقاً، بل أصبح يشتري قطعة واحدة بعدما كان يأخذ من كل نوعٍ ثلاث وأربع قطع.

تحايل المحامي على الحملات المستمرة بعمل تابلوهات خشبية لها أرجل معدنية بعجلات متحركة تُمكِّنه من جرِّها سريعاً في حال عدم رغبته في دفع الإتاوة وقت مداهمة شرطة المرافق أو المحليات له.

ويؤكد أن زيادة التعنت الحكومي ضدهم سترفع معدلات الجريمة في الفترات القادمة، فمعظم الباعة يعملون في ظروف مناخية صعبة وبلا أي ضمانات إجتماعية أو تأمين في حالة العجز أو المرض، ومع ذلك هناك دخل حتى لو كان بسيطاً، لكن إن انقطع فسيكون البديل "ثورة جياع". 

صاحب عربة فول في وسط القاهرة يحمّل البرلمان السابق المسؤولية عن معاناته! 

يشرح "عم علي"، وهو بائع على عربة فول، معاناته قائلاً إن سببها هو موافقة البرلمان المصريّ على قانون تنظيم وتشجيع عمل وحدات الطعام المتنقّلة في 15 أبريل/نيسان عام 2018.

يقول لـ"عربي بوست"، إنه يقف بعربته في شارع الصحافة بوسط القاهرة على مدار سنوات طويلة، لكن القانون وضعه هو وغيره تحت رحمة المحليات، فتعقيد الإجراءات وعدم إنهائها تقابلهما محسوبيات ومزيد من الرشاوى، والقانون فرض عقوبة الحبس لمدة لا تتجاوز الشهر وغرامة 20 ألف جنيه (1273 دولاراً أمريكياً) على كلِّ من يخالف أحكام الترخيص، وهو الأمر الذي سوف يقع فيه الجميع؛ لصعوبة تركيب جهاز(GPS) في العربات الحالية، ويهدف الجهاز إلى معرفة خط سير العربة ومكانها.

يشير البائع الى أن الحكومة تقسو عليه واضطرته إلى رفع سعر أطباق الفول على المواطن وتقليل كميته، فضلاً عن شراء نوع رديء؛ لتعويض ما يأخذونه منه، مختتماً حديثه بقوله: "تصرفاتهم تجبرنا على أن يسرق بعضنا بعضاً، الغلبان ينفّث عن غضبه في الغلابة مثله، لأنه ليس بمقدوره مواجهة الحكومة".

على الرغم من أن تلك الممارسات موجودة منذ انتشار الباعة الجائلين في الستينات من القرن الماضي، فإنها استفحلت في السنوات الأخيرة، بسبب زيادة الطلب على مهنة "البائع المتجول"، والإحصائيات تشير إلى ارتفاع عددهم لأكثر من ستة ملايين. 

باحث في الموارد البشرية أكد لـ"عربي بوست"، أنه ليس هناك حصر دقيق ورسمي بأعدادهم، لكن المؤكد أنها ارتفعت بعد تدهور الحالة الاقتصادية للمواطنين وارتفاع نسبة البطالة وتسريح العمال وتصفية الشركات والمصانع، فضلاً عن انضمام حمَلة الشهادات العليا إلى المهنة بعد الفشل في الالتحاق بوظائف تتناسب مع مؤهلاتهم، وتعثُّر كثيرين منهم في التزاماته الأسرية، والحل الأيسر لعمل شريف هو النزول للشارع من أجل تحسين الدخل.

في المقابل، جاءت زيادة صعوبة الظروف في مصلحة أمناء الشرطة ومعاوني المباحث وموظفي البلدية الذين يصطادون في المياه العكرة ويستغلون تردي الأوضاع المعيشية لفرض مزيد من الإتاوات، والغريب أنهم يفعلون ذلك دون أن يشعروا- كما يقول الباعة- بتأنيب ضمير أو شعور بالذنب.

شرطي يؤكد وجود تعليمات بتكثيف الحملات بحثاً عن أموال الغرامات

"عربي بوست" تحدث إلى "مهدي"، وهو معاون مباحث، عن حقيقة ما يقوله الباعة، فأنكر أنه شخصياً يفعل ذلك، كما أنكر معرفته بوجود معاونين وأمناء يفعلونه، لكنه أردف مبرراً بأن من يفعل ذلك معذور، لأن "الحياة أصبحت صعبة علينا وعليهم، وعلى الجميع أن يتحملوا بعضهم، بمعنى (أطعمني حتى أتركك تُطعم نفسك)، وهذا ليس عيباً أو حراماً"،، مؤكداً أن عدم الاتفاق بين البائع وموظف البلدية أو معاون المباحث يصب في مصلحة الضباط، لأن البضائع المصادَرة يتم حفظها في مخازن تابعة للأحياء ولشرطة المرافق، ثم تقام عليها مزادات كل فترة كما يقول، وفي تلك المزادات يتفق الضباط على طريقة سيرها، حيث يقللون من سعر البضائع إلى مستويات لا يتخيلها أحد، مقابل أن يأتوا بتجار من معارفهم لشرائها بهذه الأسعار البخسة، ويحصلون على عمولات ضخمة منهم، و"كله بالقانون"، كما قال.

ويشير إلى أن لديهم توجيهات في الفترة الأخيرة بتكثيف الحملات، مرجعاً ذلك إلى أن كل الوزارات تحاول تدبير مصادر دخل لها، لأنه سمع أحد الضباط الكبار وهو يتحدث على الهاتف في مكتبه، حيث كان يقول إن الدولة قلصت ميزانية الوزارات وطالبت كل وزارة بالاعتماد على نفسها في تدبير مواردها.

عضو بنقابة الباعة الجائلين قال لـ"عربي بوست"، إن مهنة "بائع متجول" باتت "مهنة من لا مهنة له" كمهن كثيرة شقت طريقها للشارع المصري، بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار، وفقد كثيرين وظائفهم، واضطرار البعض إلى العمل بأكثر من وظيفة لمواجهة الغلاء، فمن كان مستوراً تعرَّى الآن، بسبب فرض الضرائب التي تفوقت بها حكومة "الجباية" على مدار السنوات الست الماضية. 

ويشير إلى دخول الباعة يومياً في مطاردات من شرطة المرافق ورجال الوحدة المحلية المختصين بالتراخيص، وأمامهم طريقان لا ثالث لهما: إما الغرامة والإتاوة، وإما مصادرة بضائعهم.

ضبطيات حملات الإشغالات.. أين تذهب وكيف يمكن استردادها وماذا يحدث للبضائع التي لا تُسترد؟!

تابع "عربي بوست" بعض الحملات اليومية لإزالة الإشغالات من الشوارع ومصادرة آلاف الإشغالات ليتم وضعها في مخازن شرطة المرافق والأحياء والمراكز والمدن، بمختلف أنواعها، وذلك على مستوى المحافظات، وتتبع مصير هذه الضبطيات، خاصة تلك التي لا يستردها أصحابها، وأين تذهب أموالها وما المدة القانونية التي يحق للبائع تسلُّم الإشغالات الخاصة به؟ 

مصدر أمني قال لـ"عربي بوست"، إن مخالفات بعض معاوني المباحث وأمناء الشرطة سلوك لا يجوز تعميمه على الجميع، فهناك شرفاء يريدون الصالح العام، ويشرح أن لكل حي ومدينة مخزناً أو أكثر للمضبوطات، بعضها تابع لشرطة المرافق، والآخر تابع للحي مباشرة، حيث يتم التحفظ على الإشغالات التي تمت مصادرتها، وهناك مسؤول عن المخازن بكل حي ودفاتر لتدوين وتسجيل كل صنف تتم إضافته أو إخراجه وعدده ونوعه؛ لضمان أحقية المواطن في استرداد تلك البضاعة مرة أخرى بعد فترة سحبها، وتتم محاسبة المسؤولين عن المخزن في حالة الشكوى منهم، مشيراً إلى أن أي بائع لديه مهلة تصل إلى 15 يوماً، بحسب القانون، لاسترداد المضبوطات الخاصة به، بعد دفع الغرامة طبقاً لقرار رئاسة الحي.

أما في حالة تأخُّر المواطن عن تسلُّم بضاعته، فيتم تشكيل لجان للحصر والتسعير قبل بيعها من خلال المزاد العلني، وبالمثل تحديد مكان للبيع، وبعد انتهاء المزاد تقوم الأحياء والمراكز بتوريد 90% من حصيلة البيع لخزينة الدولة تحت بند "الخدمات الحكومية"، وباقي النسبة تذهب لوزارة التنمية المحلية، أو لصندوق الحي؛ للإنفاق على تجميل الأحياء ورصف الشوارع وتطويرها، وغيرها من الأعمال.

وعندما سألناه عن اتهامات بعض الباعة بأن الفاكهة المسحوبة منهم تأخذها عناصر الحملة لمنازلهم، قال إن "هذا غير صحيح، حيث يجري توريد الطعام والفاكهة إلى دور الأيتام بإيصالات رسمية معتمدة تكشف تفاصيل الأصناف وأوزانها، دون أن ينكر وجود أفراد فاسدين يستغلون الإجراءات لتحقيق فوائد خاصة بهم، وهو أمر تحاربه الدولة والجهات الرسمية، لكن من المستحيل منعه تماماً، كما أن الفساد موجود في كل دول العالم، لأننا نتحدث عن نفوس بشرية". 

تحرير الشوارع من الباعة الجائلين أمر محمود لو لم تكن هناك انتقائية في التعامل

 باحث بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية يؤكد أن ظاهرة الباعة الجائلين لا تصبُّ في مصلحة المنظر الحضاري الذي تريد الحكومة تصديره، لكن ممارساتها تطرح سؤالاً مُهماً يدور بعقل هؤلاء الباعة ومن يدافعون عنهم، فهل تتم مباغتة البائعين وشن حملات لإجلائهم لمخالفتهم القانون حقاً، أم لأنهم ضعفاء وفقراء لا يسمع أحدٌ صوتهم؟

ويشير إلى أن تحرير الميادين والشوارع من جيوش الباعة الجائلين إنجاز مهم؛ للقضاء على تشوهات الفضاءات العامة، لكن المشكلة أن ذلك دائماً ما يتم بالقوة والإجراءات الأمنية التي لا يمكن اعتبارها حلاً للمشكلة، خاصةً أن المحسوبية تتدخل، والدليل أن المداهمات لا تسري على كل المخالفين للقانون ولوائح البلديات، فهناك انتقائية في التعامل، بحيث تستأسد السلطة على الفقراء والغلابة، فيما تغض الطرف عن مخالفات الأثرياء والوجهاء وولاد الأكابر.

لا يخفي الباحث تعاطفه مع الباعة الجائلين باعتبار أغلبهم على الأقل، من الغلابة الذين أُضيروا وقُطعت أرزاقهم، بسبب حملات إجلائهم المستمرة. وتداول النشطاء على فيسبوك مؤخراً، صورة لموظف البلدية الذي استوقف بائعة خس وفجل وجرجير على الرصيف، وفي دقائق يطاح بقفص الجريد الذي يتكوم عليه الفجل والجرجير!.

المفارقة أن الموظفين والشرطيين المشاركين في حملات البلدية يمارسون ازدواجية محيرة، فبينما يداهمون بمنتهى الحماسة بائعاً بسيطاً يبيع الفول والشاي لعدد من عمال البناء، يديرون ظهورهم لمهرجانات المخالفات التي ترتكبها المقاهي والمعارض والمحلات الكبرى لمجرد أن أصحابها من الأثرياء. 

تركيبة "البائع السرّيح" لا تعرف سوى البيع أمام أقدام الزبائن

بدأ ظهور الباعة الجائلين في شوارع القاهرة خلال فترة الستينيات، بسبب الهجرات القادمة من المحافظات، خاصة محافظات الصعيد، التي يسيطر أبناؤها الآن على معظم فرشات البيع في الشوارع الرئيسية بالقاهرة.

أكد "محمد. ب"، وهو عضو بشعبة الباعة الجائلين، أنهم بعد الثورة تمكنوا لأول مرة من تكوين تنظيمات عمالية، وتم ضمهم إلى شعبة الباعة الجائلين، بالاتحاد العام لعمال مصر.

ويوضح أن الأمن الذي يصبُّ لعناته وحملاته على الباعة له يد في توافدهم إلى الميادين حين انسحبوا منها أثناء الثورة، فضلاً عن أن بعض الموجودين يعمل مع الأمن كمخبر؛ لنقل نبض الشارع في حالة الغضب وعدم الرضا، لكن الآن الأمن مسيطر وليس بحاجة إليهم، مؤكداً أن الجهات الأمنية على علم بالممارسات المخزية لأفرادها وتُغمض عينيها عن ذلك. 

ويذكر أن مصر لديها قانون منذ عام 1957 لتنظيم الباعة الجائلين، لكنه لم يشهد تعديلات منذ عقود طويلة إلا فيما يتعلق بتغليظ الغرامات والعقوبات لتشمل في بعض المخالفات الحبس، دون النظر إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية الأخرى للظاهرة. 

ومنذ أيام وافق مجلس الوزراء على مشروع قانون يقضي بمعاقبة الباعة الجائلين بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على سنتين، وبغرامة لا تقل عن ألف جنيه، ولا تزيد على 10 آلاف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين نتيجة لفعلهم.

يشير إلى أن منظومة الأسواق البديلة التي أنشأتها المحافظة فشلت فشلاً ذريعاً، لأنها بعيدة عن الزحام، فضلاً عن أن تركيبة "البائع السرّيح" لا تعرف سوى البيع أمام أقدام الزبائن، وكانت قد خصصت أسواقاً بديلة لهم، كسوق موقف أحمد حلمي وسوق آخر في الزاوية، ونقل عدد منهم إلى موقف الترجمان.

ويؤكد أن محافظة القاهرة منذ افتتاحها سوق الترجمان عام 2014 ونقل الباعة إليه وهم يعانون من قلة الزبائن؛ لبُعد السوق عن المناطق الحيوية وضعف المواصلات إليه، فالمكان- كما صرح نقيب الباعة المستقلين- "غير صالح إلا لرمي القمامة وليس البيع والشراء، فضلاً عن أن البائع يدفع إيجاراً يصل إلى 500 جنيه شهرياً للباكية بالأسواق البديلة بزيادة 10% سنوياً"، لذلك تركوها وعادوا للشارع مرة أخرى.

ويوضح الرجل بصوت خافت، أنَّ "حنق الباعة وعدم التزامهم بالتعليمات سببهما شعورهم بأن الحكومة ليست لديها عدالة، فهي استولت على الأماكن التي يتوافد إليها المواطنون وأجَّرتها بآلاف الجنيهات مثل أسفل كوبري الميرغني بمصر الجديدة، وبالمثل منطقة مسطرد وغيرها من الأماكن التي باتت تحت أيادي اللواءات الكبار، ما يعني أن المشكلة ليست في افتراش الشوارع أو ازدحامها بالباعة، وإنما فيمن يقوم بذلك وهل هو من المحاسيب أم لا".

تحميل المزيد