بادئ ذي بدء، يجب توضيح وتأكيد أن مصر، وليست تركيا، هي من تحتاج للتقارب والتصالح مع أنقرة، سواء في ملف شرق المتوسط أو الأزمة الليبية أو غيرهما من الملفات المشتعلة بالشرق الأوسط حالياً. ولا أدل على ذلك من الخسارة الفادحة التي ستتكبدها مصر بشرق المتوسط في حالة ترسيمها حدودها البحرية وفق الرؤية اليونانية المتعنتة لملف شرق المتوسط. ولأن تركيا تؤمن بطاولة الحوار والمفاوضات، فإنها تفتح ذراعيها لجميع المعنيين في ملف شرق المتوسط، ومن ضمنهم مصر؛ من أجل تحقيق وضمان المصلحة المشتركة بين البلدين والشعبين. ولكن الدعوة إلى الحوار وإعادة فتح قنوات الاتصال على كل المستويات، لا تعني وضع الاختلافات السياسية والجوهرية بين النظام التركي والنظام المصري في طي الكتمان. فموقف تركيا الرافض للانقلابات العسكرية والمندد بانتهاكات حقوق الإنسان وقمع الحريات واضح وثابت. ولا يعني التعاون في مجالات ما، بين تركيا وأي دولة أخرى، أن تغض تركيا الطرف عن الانتهاكات التي ترتكبها تلك الدولة في حق شعبها.
على سبيل المثال، لا تتوقف تركيا عن التنديد بالانتهاكات الجسيمة التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في كل المنابر وفي كل المناسبات، لكن ذلك لا يمنعنا من عقد اتفاقيات والتعاون في مجالات أخرى.
وبالنسبة لنا، فإنَّ ما وقع ويقع في مصر منذ انقلاب يوليو/تموز 2013 وحتى يومنا هذا، من مجازر دموية، وانتهاكات لحقوق الإنسان وتكميم للأفواه ووأد للتجربة الديمقراطية، أمور لا يمكن السكوت عنها، وهو ما تعترض عليه تركيا وستبقى تعترض عليه، ولا خير فينا إن صمتنا أو تجاهلنا. أليس الساكت عن الحق شيطاناً أخرس؟
لكن الرفض والتنديد بتلك الممارسات لا يعنيان القطيعة التامة مع الدول التي تمارسها، فالحياة بوجه عام والسياسة بوجه خاص، أعقد من ذلك. لذلك تُبقي تركيا على قنوات اتصالها مفتوحة مع الجميع، ومستعدة للتعاون في أي مجال يضمن المصالح المشتركة.
ونحن نمدُّ أيدينا الآن لمصر علانية أمام العالم؛ كي تتخلص القاهرة من أي قلق أو حذر يجول بصدرها تجاه أنقرة. لا لأن تركيا هي التي تحتاج مصر أو أن تركيا تعاني أو أنها في عزلة، فكل متمعن في المشهد الإقليمي حالياً يعلم أن تركيا قوية الآن أكثر من أي وقت سابق. ومن يعتقد أن مجيء الرئيس الأمريكي، جو بايدن،
قد نشر الخوف والفزع لدينا وأننا سنغير من كل سياساتنا وخريطة تحالفاتنا وأن الخوف منه كان وراء دعوتنا لمصر، فهو مخطئ.
نحن من نتهم بايدن والولايات المتحدة الأمريكية بدعم الجماعات الإرهابية المرتكبة لجرائم في حق تركيا، وبالتأكيد لا نقصد المعارضة السياسية؛ بل التنظيمات الإرهابية التي تمارس القتل والتخويف بحق المواطنين الأتراك الأبرياء. بوضوح، تركيا الآن في موقف الهجوم وليس الدفاع في علاقاتنا مع أمريكا. فلا يعتقد أحدهم أن تركيا أُجبِرت أو ارتعدت من قدوم بايدن فهرولت إلى القاهرة أو أي عاصمة أخرى. ولهذا، لا يمكن قبول ما يخرج على لسان الأذرع الإعلامية للنظام المصري تجاه تركيا في الآونة الأخيرة.
صحيحٌ أن هذه هي طريقة النظم الديكتاتورية والانقلابية في إدارة البلدان، ولكنني لم أتصور إدارة بلد كبير وعريق بحجم مصر بمثل تلك الطريقة المراهقة.
عندما تتجمد العلاقات السياسية بين بلدين، وتسود حالة من الجمود، يصبح لزاماً على بعض الأطراف أخذ المبادرة لحلحلة الوضع وخفض معدلات التوتر؛ لخلق آفاق للحوار، وهذا هو مقصد التصريحات الرسمية الأخيرة الصادرة من رئيس الجمهورية، رجب طيب أردوغان ووزيري الخارجية والدفاع بحق مصر. ما تقدمه تركيا الآن هو فرصة لمصر لإعادة النظر في علاقتها مع تركيا وتغييره؛ لضمان مصالح مصر. هذا هو ما تقصده تركيا ليس أكثر. على كل حال، تركيا لا تحتاج التنازل عن مبادئها لضمان مصالحها.
لذلك من المستهجن والمستغرب، أن تسارع مصر لفتح كل الملفات المتعلقة بين البلدين؛ ومن ثم وضع شروط غير عقلانية (كالانسحاب من ليبيا) لإعادة العلاقات معنا كأننا سنموت إن لم تتم المصالحة! ومع ذلك، تقدّر تركيا وتضع بعين الاعتبار المصالح المصرية في ليبيا ولا تحاول المساس بها. ولكن في الوقت نفسه ستبقى تركيا وفيَّة بتعهداتها والتزاماتها المبرمة مع الحكومة الليبية. وستبقى أيضاً محارِبة للانقلابيين، ولن يستطيع أحد أن يمنعنا عن هذا.
وإن كان لي من نصيحة للطرف المصري، فهي أن يفكروا كثيراً وليتكلموا قليلاً.
ما أود قوله هو أنه من الممكن أن نكون مختلفين (أي مصر وتركيا) في كثير من الملفات، مثلما هو الحال بين تركيا وروسيا من جهة أو إيران من جهة أخرى، ومع ذلك تبقى العلاقات الدبلوماسية والمخابراتية في أعلى مستوياتها.
المصريون في الداخل التركي
الحديث عن "تسليم" المعارضين المصريين المقيمين بتركيا إلى مصر هو كلام وادعاءات عارية من الصحة، وتلك فعلة لا تقْدم عليها دولة تحترم حقوق الإنسان مثل تركيا، بأن تُسلّم معارضين سياسيين إلى نظام لا تمتلك مؤسساته القضائية الحد الأدنى من النزاهة والشفافية والعدالة. ولو كان الأمر غير كذلك، لما رأينا المصريين كطالبي لجوء في تركيا، وألمانيا، والسويد، وهولندا، وكندا، والولايات المتحدة الأمريكية. وتركيا موقفها واضح وهو أنها لن تقوم بتسليم أي مصري على أراضيها للنظام المصري أو لأي نظام يمارس التعذيب بحق المسجونين أو يقوم بإصدار أحكام بالإعدام دون نظام قضائي عادل.
أما بخصوص القنوات المصرية التي تُبث من إسطنبول، فإن تركيا تحترم السيادة المصرية من جهة ولكنها في الوقت نفسه تحترم حرية التعبير والرأي. وللعلم، فإن القنوات المعارضة لا تأخذ ترخيصها من الدولة التركية ولا تبث عبر القمر التركي (Turksat)، ولكن تركيا لا تسمح بأي هجوم أو تجاوز في حق أي دولة أو نظام. لكن كذلك لا تقبل تركيا بأن تُملي أي دولة أو جهة عليها شروطها، أو تحاول إخضاع تركيا معتقدين أن أنقرة في أزمة عصيبة.
رسالتنا إلى مصر هي: تعالوا إلى مصلحة مشتركة بيننا وبينكم. ونذكِّركم، نحن لسنا في مقام التنازل عن مبادئنا الإنسانية والحقوقية. هذه رسالتنا فأنصتوا إليها جيداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.