ثمة حالة غموض كبير اكتنفت حيثيات إقدام المغرب الأسبوع الماضي، على قطع العلاقات التي تجمع الدولة المغربية بجميع مؤسساتها بالسفارة الألمانية في الرباط، فضلاً عن قطع العلاقة مع مؤسسات التعاون والجمعيات السياسية الألمانية.
المغرب علل قراره بـ"وجود خلافات عميقة بين البلدين تهم قضايا مصيرية"، دون أن يكشف عن هذه القضايا، أو عن طبيعة هذه الخلافات. أما ألمانيا، فقد تجنب جوابها ردة الفعل، وأكد في المقابل حرص برلين على العلاقات المغربية الألمانية التي وصفها بـ"الطيبة"، لكنها في المقابل، استغربت الموقف المغربي، ولم ترَ أي سبب يعرقل العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، بل إن وزير الخارجية الألماني دعا سفير المغرب في برلين إلى لقاء لإجراء مناقشة حول الموضوع لمعرفة خلفيات القرار المغربي.
وسائل الإعلام المقربة من الموقف الرسمي الألماني فضلاً عن بعض المحللين السياسيين الألمان، بدأوا يعددون الأسباب التي يمكن أن تكون وراء القرار المغربي، لكنهم في النهاية، رجحوا أن يكون الأمر له علاقة مباشرة بملف النزاع حول الصحراء، وذهب بعضهم إلى تفسير القرار برفع برلمان بريمن، لعلم ما يسمى بـ"جمهورية البوليساريو" في ذكرى تأسيسها، علماً أن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يعترفان بهذه الجمهورية الوهمية.
والحقيقة أن ثمة التباسات كثيرة لفهم الموقف المغربي، وما إذا كان بالفعل مجرد رد فعل على رفع علم البوليساريو في برلمان بريمن، أم أن الأمر يعود لأشياء أخرى. فبرلمان بريمن، التي تعتبر أصغر ولاية في ألمانيا الفدرالية، اعتاد رفع هذا العلم كل سنة بمناسبة ذكرى تأسيس جمهورية البوليساريو الوهمية، وذلك بسبب شراكة رسمية تجمعه بجمعية محلية داعمة للانفصاليين.
ثمة تفسير يبدد هذا الالتباس، كون المغرب بعد الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، غير سياسته تجاه الاتحاد الأوروبي في هذا الموضوع، ولم يعُد يقبل بعض الأمور الاعتيادية التي كانت تقوم بها بعض المؤسسات الرسمية في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، مثل ما فعل برلمان بريمن، وأصبحت تدرج ذلك ضمن حيثيات بل محددات الإقرار الدبلوماسي.
لكن هذا التفسير، إن تم قبوله، فإنه سيعرض العلاقات المغربية الأوروبية لتحديات خطيرة، فدول أوروبا لا يمكن لها أن تلزم المؤسسات الرسمية بها بعدم إقامة شراكات مع جمعيات داعمة للانفصاليين، وهذا- تبعاً لهذا التفسير- يمكن أن يتسبب في قيام زوابع دبلوماسية متكررة بين المغرب ودول أوروبا.
البعض حاول تجاوز هذه الأبعاد الجزئية في التفسير، فتجاوز موقف برلمان بريمن، وطرح الموقف الألماني من التطورات الجديدة التي حصلت في النزاع حول الصحراء، وتحديداً الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، وأن ألمانيا سارعت إلى تبخيس هذا التطور، واعتباره غير مؤثر في طبيعة الصراع، وأن الملف لا يزال بيد الأمم المتحدة، وأنها الكفيل بتسريع التفاوض لإيجاد حل سياسي متوافق حوله بين الطرفين.
وثمة وجهة نظر أخرى، حاولت أن تضيف إلى التفسير شيئاً آخر، وهو تضخم التعامل التجاري وحجم الاستثمارات الألمانية الموجهة للجزائر، في مقابل وجهة نظر أخرى، حاولت أن تقحم الموضوع الليبي في الموضوع، وكون مؤتمر برلين لحل النزاع بين الأطراف المتصارعة في ليبيا تصرف بطريقة تفتقد لكثير من اللياقة مع المغرب، لما أنكر دور المغرب في الوساطة لتقريب وجهات نظر هذه الأطراف وعمد إلى تغييبها في الوقت الذي أصر فيه على حضور الجزائر التي لم تقُم وقتها بأي دور في الملف الليبي.
والحقيقة أن هذه الخلافات الجزئية، لا تبتعد كثيراً عن الموضوع الرئيس، الذي هو ملف النزاع حول الصحراء، فتغييب المغرب في مؤتمر برلين، وتوجيه الأولوية للتعاون التجاري، الاستثمار الألماني إلى الجزائر، فضلاً عن تبخيس التطورات التي حدثت في ملف الصحراء ومنها على الخصوص اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه، هذه الملفات كلها، دفعت المغرب إلى تقييم الموقف الألماني، وكونه لا يناسب توصيف الخارجية الألمانية العلاقات بين البلدين بكونها طيبة.
ثمة اعتراض يمكن أن يوجه إلى هذا التفسير، فثمة دول ربما كان موقفها أسوأ من الموقف الألماني في هذه الحيثيات، مثل روسيا، لكنها لم تحظ بهذا التصعيد من قبل المغرب، لكن هذا الاعتراض يفقد حجيته بالاعتبار السياسي والاعتبار الجيوستراتيجي أيضاً، فالجزائر من جهة السياسة، هي حليف تقليدي لروسيا، بينما الأمر ليس كذلك بالنسبة لألمانيا التي تربطها بدول شمال إفريقيا علاقات متوازنة لا يُكَيِّفُها الاعتبار السياسي، أما من جهة الأبعاد الجيوستراتيجية، فنظرة الاتحاد الأوربي، وفي قلبه ألمانيا، إلى المصالح الإستراتيجية وأيضاً إلى الاستقرار السياسي في منطقة شمال إفريقيا تختلف بشكل كبير عن النظرة الروسية، مما يجعل المقارنة غير ذات معنى.
التفسير الذي نميل إليه، أن ألمانيا ليست هي المقصودة وحدها بالقرار المغربي، وإن كان الأمر قد استهدف العلاقة معها، وإنما المقصود هو الاتحاد الأوروبي برمته، لا سيما بعد التردد الذي طبع موقفه من الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، فالمغرب يدرك أن موقفاً (تصعيدياً) مثيلاً لو وجه ابتداء إلى فرنسا أو إلى إسبانيا، فإن تداعياته ستكون أكثر تعقيداً، مع العلم أن العلاقات المغربية الإسبانية، هي نفسها قد عاشت توتراً صامتاً، على نفس الخلفية، أي موقف الخارجية الإسبانية من الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، لكن دون أن يقرر المغرب إخراج هذا الموقف إلى العلن، فاضطر فقط إلى تأجيل اللجنة المغربية الإسبانية، مما نظر إليه إسبانياً على أساس أنه ضربة أخرى موجعة لإسبانيا بعد قرار المغرب إقفال معابر تهريب السلع الإسبانية إلى المغرب في كل من سبتة ومليلية، وبعد تصعيده الموقف في ملف الهجرة غير المشروعة إلى أوروبا.
الرسالة التي يريد المغرب إيصالها إلى أوروبا، والتي اختار أن يمررها عبر ألمانيا، أن المغرب لم يعد هو المغرب السابق الذي يخضع لابتزاز أوروبا، وإنما هو مغرب آخر صاعد، يملك أوراق اعتماد هجومية قوية، هو جاد في استعمالها إن لم تتجه أوروبا إلى التلاؤم مع استراتيجيته عبر اعتراف الاتحاد الأوروبي بسيادة المغرب على صحرائه، وذلك بتحويل الصحراء إلى منصة للتوغل الأوروبي في عمق إفريقيا.
الواقع أن استراتيجية المغرب في إدارة علاقته الدبلوماسية مع أوروبا، لا تبتعد عن أسلوب تركيا، التي اختارت أن تجعل العلاقة مع ألمانيا بوابة للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي حتى يتفهم مصالحها في شرق المتوسط، ويتجنب في الوقت نفسه التهديدات التي تمس المصالح الأوروبية في المنطقة لا سيما ما يتعلق بأمنها، ولذلك ما يمكن أن يقرأ على أساس أنه توتر للعلاقة بين المغرب وألمانيا هو في الحقيقة مدخل لإعادة تقييم هذه العلاقات، وربما فتح الأفق لتقويتها وتعزيزها، وفتح شهية ألمانيا للتوغل في العمق الإفريقي عبر منصة الصحراء، لكن بتقديم ثمن، ليس فقط بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، على شاكلة ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن أيضاً بلعب دور مركزي لجر الاتحاد الأوروبي كله إلى هذا الموقف، وتحويل ألمانيا إلى وسيط مركزي للمغرب، يدير به العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت ذاته، دفع فرنسا إلى مراجعة موقفها، وربما التلويح بإمكان الاستعاضة عنها باختيار الحضن الألماني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.