منذ أوائل التسعينيات على الأقل، انخرط جيش التحرير الشعبي الصيني في عملية إصلاح شاملة لقواته البرية. ومع بدء الإصلاحات، أصبح الجيش الصيني منظمة تجارية بقدر ما أصبح منظمة عسكرية، إذ سيطر على مجموعة واسعة من الشركات الصغيرة وتنامت ميزانيته العسكرية عاماً بعد عام، بالتزامن مع نهضة الاقتصاد الصيني في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ومع وصول الجيش الصيني إلى مزيد من التمويل وقطاع التكنولوجيا المبتكر بدرجة متزايدة، بدأ العنصر المركزي للجيش في إصلاح نفسه، ليصبح منظمة عسكرية حديثة، تمتلك مشروعات ضخمة لتحديث وابتكار المعدات والأسلحة الفتاكة والتدميرية.
وفي حين أن جيش التحرير الشعبي لا يتمتع بمستوى التمويل ذاته الذي يتمتع به الجيش الأمريكي، إلا أنه يتمتع بإمكانية الوصول إلى قوة بشرية غير محدودة تقريباً، ويسيطر على موارد أكبر من أي جيش آخر في العالم تقريباً. فإلى أي مرتبة وصلت الميزانية العسكرية الهائلة للصين؟
الميزانية العسكرية الصينية.. إلى أين وصلت؟
بحسب تقرير حديث لمجلة Global Times الصينية، فقد رفعت بكين ميزانيتها الدفاعية لعام 2021 بنسبة 6.8% لتصل إلى 1.35 تريليون يوان (209 مليارات دولار أمريكي).
وتمثل ميزانية 2021 الزيادة السنوية الثالثة للصين في نمو ميزانية الدفاع؛ على الرغم من أن زيادة الميزانية في عام 2021 أعلى قليلاً فقط من الزيادة في عام 2020 (زيادة 6.6% إلى 179 مليار دولار أمريكي)، إلا أنها تمثل جهود التحديث المستمرة في بكين لتحويل جيش التحرير الشعبي (PLA) إلى "جيش على مستوى عالمي من قبل منتصف القرن الحادي والعشرين"، بحسب رؤية الحزب الحاكم.
وفي البيان الصادر عن الجلسة العامة الخامسة للجنة المركزية الـ19 للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول 2020، فإن التحديث العسكري أصبح هدفاً أساسياً في إطار الخطة الخمسية (2021-2025).
وتعتمد الميزانية على الإصلاحات الشاملة وإعادة الهيكلة التي خضع لها جيش التحرير الشعبي منذ عام 2015، بهدف تحقيق إصلاح شامل بحلول عام 2021. وبتحقيق هذه الأهداف، تتطلع بكين الآن إلى دخول المرحلة الثانية من تحديثها العسكري مع التركيز بشكل أكثر حدة على المجالات العسكرية والمدنية والتكامل والابتكار التكنولوجي. بعبارة أخرى، تتماشى ميزانية الدفاع الصينية للعام الجاري مع هذا الهدف، والمقصود منها "الدعم القوي" للقدرات الدفاعية المتزايدة.
يعلق تقرير لمجلة National Interest الأمريكية على هذه التطورات بالقول إن ميزانية الدفاع المتزايدة في بكين لطالما كانت مؤشراً حاسماً على النمو الاقتصادي للبلاد والتهديدات الأمنية المتصورة، مما يوفر نظرة ثاقبة حاسمة لخطط النظام "غير الشفافة"؛ حيث تتبع هذه الزيادة اتجاه بكين للنمو من رقم واحد على أساس سنوي، تزامناً مع الذكرى المئوية المقبلة للحزب الشيوعي الصيني.
إلى جانب ذلك، فإن الهدفين المئويين لبكين – الاحتفال بالذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني في عام 2021 والذكرى المئوية لجمهورية الصين الشعبية في عام 2049 – هناك ذكرى مرور 100 عام أخرى من المقرر أن تحتفل بها بكين، وهي تأسيس جيش التحرير الشعبي الصيني، التي ستكتمل في عام 2027.
الميزانية العسكرية لبكين ودورها في تعزيز النفوذ الصيني
وتأتي الذكرى المئوية لجيش التحرير الشعبي كمقدمة لمناورات الرئيس الصيني شي جين بينغ السياسية لاستخدام الجيش كأداة لتعزيز النفوذ المحلي والعالمي للحزب الشيوعي الحاكم. وبحلول ذلك الوقت، تخطط الصين لبناء جيش حديث تماماً يتماشى مع احتياجات دفاعها الوطني للتعامل مع التهديدات التي تجلبها "الهيمنة وسياسة القوة" وحماية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية والإنمائية في الخارج.
وفي تقرير العمل الحكومي (GWR) الذي عرض في مجلس الشعب في 5 مارس/آذار 2021، بحضور الرئيس الصيني شي جين بينغ، أُقر مرسوم يقضي بأنه في عام 2021 ستركز الصين على تعزيز التدريب العسكري في جميع القطاعات، وتعزيز قدرات جيش التحرير الشعبي الصيني لحماية المصالح الوطنية السيادية، وتحسين استجابة لمخاطر أمنية، والتنمية التكنولوجية والصناعية الدفاع القطاع لتعزيز التعبئة.
بالإضافة إلى ذلك، أكد التقرير أن "التقدم الاقتصادي وبناء الجيش يجب أن يكونا عمليتين متزامنتين". وقد أدى ذلك إلى ضمان أن تكون زيادات الميزانية الدفاعية للصين متماشية مع نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. على سبيل المثال، وفقاً لمعدل النمو العالمي، فإن هدف نمو إجمالي الناتج المحلي للعام الجاري يتجاوز 6%، مما يجعل الزيادة في قطاع الدفاع متماشية مع المسار الاقتصادي. بشكل عام، ظل الإنفاق الدفاعي "المنفتح والشفاف" للصين عند 1.3% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي، والذي لا يزال أقل من المستوى العالمي البالغ 2.6%.
ومع ذلك، فإن الإنفاق العسكري للصين، في الواقع، منخفض بالنظر إلى مكانة البلاد باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم. واقترحت الولايات المتحدة – التي لا تزال أكبر منفق على الجيش في العالم – ميزانية دفاعية قدرها 740 مليار دولار أمريكي للسنة المالية 2021، بدعوى مخاوف تتعلق بالأمن القومي.
لكن مع ذلك، فإن الميزانية المتزايدة للصين خطيرة وذات أهمية كبيرة، يجب النظر في ميزانية الدفاع الصينية مع الأخذ في الاعتبار الفرق في تعادل القوة الشرائية الخاصة بهم بالإضافة إلى التحويل البسيط للمبلغ الإجمالي بناءً على سعر الصرف. إن التكاليف التشغيلية والرواتب المنخفضة بشكل ملحوظ في بكين تعني أن ميزانيتها المتزايدة هي في الواقع، أعلى بشكل فعال – ربما أقرب إلى ثلاثة أرباع الميزانية السنوية للولايات المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب النظر إلى ميزانية الصين بشكل استراتيجي في ضوء تلك الخاصة بمنافسيها الإقليميين الرئيسيين. تظل ميزانيات الدفاع لعام 2021 لليابان (51.6 مليار دولار أمريكي) والهند (49.6 مليار دولار أمريكي) وتايوان (ما يقرب من 14 مليار دولار أمريكي) جزءاً صغيراً من ميزانية بكين.
الجيش الصيني يسارع لإحراز "أعلى الألقاب" عالمياً
وحول القفزات الكبيرة التي باتت تحققها بكين دفاعياً وعسكرياً، والتي تتجاوز بعض الأحيان أمريكا نفسها، أعلن تقرير للبنتاغون حول القوة العسكرية الصينية لعام 2020 -والذي يرصد وتيرة ومدى التحديث العسكري الصيني الطموح- أن البحرية الصينية أصبحت بالفعل الأكبر في العالم متجاوزة نظيرتها الأمريكية، بأسطول يتكون من أكثر من 350 سفينة حربية، بما في ذلك أسطول سريع النمو من المدمرات والناقلات والغواصات.
وبحسب التقرير الرسمي الأمريكي الذي نشر في سبتمبر/أيلول الماضي، يثير هذا الواقع الجديد القلق في الولايات المتحدة الأمريكية، ويؤثر على مطوري أسلحة البنتاغون والبحرية الأمريكية، التي تعد الأقوى والأحدث فنياً وتقنياً في العالم. وبحلول نهاية هذا العقد، من المتوقع أن تشغل الصين ما يصل إلى 360 – 400 سفينة حربية.
وبحسب التقرير، هذه ليست خطة كبيرة فحسب، إذ أصبحت السفن والغواصات الصينية أكثر حداثة. يقول التقرير إن "بحرية جيش التحرير الشعبي أصبحت قوة حديثة ومرنة بشكل متزايد، وركّزت على استبدال الأجيال السابقة من المنصات بقدرات محدودة لصالح مقاتلين أكبر حديثين ومتعددي الأدوار".
وحذر التقرير الأمريكي من التعزيزات للقواعد العسكرية الصينية في الخارج. ويقول التقرير: على الرغم من أن البصمة الخارجية لبكين خفيفة مقارنة مع نظيرتها الأمريكية، فمن الواضح أن الصين تأمل في إبراز قوتها بشكل أكبر في المناطق المجاورة. تعتبر القواعد البحرية الحالية أو المخطط لها، لاسيما في سريلانكا وباكستان، دليلاً على ذلك، ويمكن أن تساعد في إعاقة أي خصم للصين في حالة نشوب صراع في غرب المحيط الهادئ أو ما حوله. وبتطوير القدرات المتزايدة بشكل مطرد، فإن بكين تضع نفسها في وضع أفضل لاتخاذ ما تريده في بحر الصين الجنوبي وحتى في الخارج.
وفي مثال آخر على حرص بكين على إحراز الألقاب، أصبحت الصين بحلول عام 2020 -وليس أمريكا أو روسيا- الدولة التي تمتلك أكبر قوة دبابات على وجه الكرة الأرضية، حيث يبلغ عدد الدبابات التي تمتلكها مجتمعةً 6900 دبابة عسكرية ضخمة، كما يقول تقرير "للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" (IISS).
وبحسب التقرير، فإنه على الرغم من احتفاظ كل من روسيا وأمريكا بأعداد كبيرة من دبابات القتال الرئيسية في المخزن، فإن جيش التحرير الشعبي الصيني لديه حالياً أكبر أسطول دبابات عسكرية تحت الخدمة في العالم.
لكن، من جهة أخرى، يوضح التقرير أن "الحجم والتكلفة المتضمنة في إنتاج تصميمات لدبابات حديثة كافية لتجهيز قوة بهذا الحجم، ثبت أنهما يمثلان تحدياً كبيراً لجيش التحرير الشعبي، ومؤخراً فقط ارتفعت النسبة المئوية لقوة الدبابات المجهزة جيداً للاعتماد عليها فوق 50%".
كيف تقرأ أمريكا التطورات العسكرية الكبيرة التي تُراكمها الصين؟
يقول د. جاغاناث باندا، الباحث والمنسق بمركز شرق آسيا في معهد "مانوهار باريكار" للدراسات والتحليلات الدفاعية في نيودلهي، إنه مع سعي بايدن إلى إعادة بناء التحالفات الأمريكية، أصبحت الصين أكثر وعياً بموقف الحرب الباردة الذي قد تتجه نحوه.
ويضيف باندا في مقالة بمجلة National Interest أن بايدن منذ توليه منصبه، أكد لطوكيو دعم الولايات المتحدة في النزاع البحري الياباني مع الصين حول جزر سينكاكو ودياويو، كما أظهر عزماً أمريكياً أقوى على دعم تايوان (من بين الحلفاء الآخرين) في مواجهة التهديدات العسكرية التي تواجهها من الصين. علاوة على ذلك، فإن تقديم البنتاغون لخطة بقيمة 27 مليار دولار للكونغرس، والتي تركز على ردع الصين من خلال تعزيز القدرات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ – المنتشرة على مدى السنوات الست المقبلة – تشجع بكين على الحفاظ على نمو تحديثها العسكري.
في الوقت نفسه، تعد بكين طرفاً في العديد من النزاعات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتي تصاعدت بشكل أكبر في العام الماضي – مثل النزاع المحتدم في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، والمواجهة العسكرية بين الهند والصين استمرت لأشهر.
وبحسب مراقبين، فقد أظهرت الصين نهجاً أكثر حزماً في المنطقة، مما أدى إلى إظهار قوة متساوية مع دول مثل الهند واليابان وأستراليا والولايات المتحدة. ودفعت صفقات الأسلحة الأمريكية مع تايوان؛ ومناورات "مالابار" المشتركة بين بحرية الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، الصين للتركيز على التطوير العسكري لديها بشكل أساسي. ومن ثَم، فإن ارتفاع ميزانية الدفاع للصين يشير إلى أنها مع تزايد مشاركتها في صراعات عديدة في وقت واحد، فإنها لا تستبعد أي فرصة لتصعيد عسكري في المنطقة.
ما الذي تريد الصين قوله لخصومها من خلال رفع ميزانيتها العسكرية؟
علاوة على ذلك، فإن حماية سياسة "الصين الواحدة" والرغبة في توحيد البر الرئيسي الصيني هما متغيرات حاسمة تشكل تركيز بكين على التقدم العسكري. إن سن بكين لقانون الأمن القومي لهونغ كونغ في عام 2020 – على الرغم من ردود الفعل الدولية الشديدة – يظهر فقط تصميم الصين على وضع المناطق المتنازع عليها (بما في ذلك تايوان) تحت سيطرتها.
وأصدر الرئيس الصيني تحذيرات صريحة تشير إلى أن "بكين ترى أن توحيد تايوان أمر حتمي، ولن تتردد في استخدام القوة لتحقيق الشيء نفسه". وتم تسليط الضوء على موقف الصين الذي لا يتزعزع بشأن هذه القضية مرة أخرى خلال عرض تقرير العمل الحكومي في 5 مارس/آذار الجاري، حيث أعلن رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ، أن الصين "ستعارض وتردع بحزم الاستقلال التايواني".
وتُظهر الميزانية العسكرية الهائلة للصين المكانة المركزية التي تحتلها القوات المسلحة الصينية في تنفيذ أو التأثير على السياسة الخارجية للبلاد وتعزيز مصالحها الدولية، بالإضافة إلى ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية مهيمنة في المحيطين الهندي والهادئ.
وتتماشى زيادة بكين في الإنفاق الدفاعي مع وضعها كقوة اقتصادية، وهذا مؤشر على أن بكين لا تتطلع إلى تأكيد قوتها الاقتصادية فحسب، بل أيضاً قوتها الصارمة على المسرح العالمي من أجل تحقيق حلمها المتمثل في "التجديد العظيم للأمة الصينية".
وكانت صحيفة Wall Street Journal الأمريكية قد نشرت تقريراً في 24 يناير/كانون الثاني 2021، أكدت فيه أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة لتصبح الوجهة الأولى في العالم للاستثمار الأجنبي المباشر الجديد خلال عام 2020، حيث زادت جائحة كورونا من وتيرة التحوّل نحو الشرق في مركز ثقل الاقتصاد العالمي.
وأظهرت بيانات رسمية أن الناتج المحلي الإجمالي للصين نما 2.3% في 2020، لتصبح الصين الاقتصاد الكبير الوحيد في العالم الذي تفادى انكماشاً في 2020 خاصة في ظل تدهور معظم الاقتصادات الكبرى الأخرى في العام الماضي.