أخيراً اعترفت فرنسا رسمياً عن طريق رئيسها إيمانويل ماكرون بتعذيب وقتل المناضل علي بومنجل أحد أبرز قادة الحركة الوطنية الجزائرية، على يد الجيش الفرنسي الذي كان دائماً يزعم أن الرجل مات منتحراً سنة 1957 في وقت تم رميه من الطابق السادس لعمارة في وسط العاصمة الجزائرية، باعتراف سابق منذ عشرين عاماً من طرف قائد مخابرات الجيش الفرنسي أثناء فترة الاستعمار الجنرال بول أوساريس الذي أقر في وسائل إعلام فرنسية بجريمة القتل، مثلما أقر بقتل الشهيد العربي بن مهيدي وارتكاب جرائم تعذيب في حق الجزائريين أثناء حرب التحرير، لكن فرنسا كانت دائماً ترفض إعادة فتح ملف الذاكرة الجزائرية والاعتراف بجرائمها، ومن ثم تقديم الاعتذار للشعب الجزائري بعد تسوية كل الملفات العالقة خاصة تلك المتعلقة بأرشيف الجزائر والتجارب النووية السبع عشرة التي أجرتها فرنسا في صحراء الجزائر.
اعتراف ماكرون الذي جاء بعد ستين عاماً من استقلال الجزائر، صنع الحدث وأثار ردود فعل متباينة في الأوساط الفرنسية والجزائرية، بين مرحب ومعارض، بين مطالب بمزيد من الاعترافات، وآخر يريد قلب الصفحة أو تمزيقها، وكتابة صفحات جديدة من تاريخ العلاقات الجزائرية الفرنسية التي تمتد إلى ما يقارب القرنين من الزمن بحلوها ومرها، بينما ذهب البعض الآخر إلى طرح تساؤلات حول جدوى الاعتراف وتوقيته خاصة أن الجزائريين والعالم أجمع يعلمون بأن فرنسا سجنت وعذبت ونهبت ودمرت وطمست هوية الجزائريين، وقتلت منهم أكثر من سبعة ملايين على مدى 130 عاماً من الاستعمار، وارتكبت جرائم بشعة ضد الإنسانية بشهادة الفرنسيين ذاتهم الذين اعترفوا قبل ماكرون وستعترف بعده للأجيال الصاعدة بما فعلته فرنسا الاستعمارية بالجزائر والجزائريين.
أول ردود الفعل صدرت عن اليمين الفرنسي المتطرف بقيادة مارين لوبان التي نددت باعتراف ماكرون واعتبرته كارثياً ومسيئاً لفرنسا، ووصفته بالجبن والخيانة التي لا تغتفر في حق الذاكرة لأن المناضلين الذين يعترف الرئيس الفرنسي بقتلهم كانوا في نظرها مجرد مجرمين وإرهابيين حاربوا فرنسا وقتلوا جنودها في أعمال عنف مارسوها ضد المستوطنين وأفراد الجيش الفرنسي، وهي بذلك تساوي بين الضحية والجلاد، وبين دولة استعمارية ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، وشعب حاربها من أجل الحرية والاستقلال. اليمين الفرنسي المتطرف اعتبر الاعتراف بمثابة بداية لحملة انتخابية للرئاسيات القادمة التي يريد من خلالها ماكرون الفوز بعهدة ثانية من خلال استمالة أصوات الناخبين الجزائريين مزدوجي الجنسية والمقدر عددهم بالملايين والذين كانوا دائماً يشكلون وعاءً انتخابياً مهماً في فرنسا.
السلطات الرسمية في الجزائر رحبت بالاعتراف الفرنسي الرسمي دون أن تتراجع عن مطالبة فرنسا بالذهاب أبعد من مجرد الاعتراف بتعذيب ومقتل المناضلين والمجاهدين، بل بالاعتراف بكل الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في حق الشعب الجزائري واسترجاع أرشيف الثورة وإعادة فتح كل ملفات الذاكرة، ومن ثم تقديم الاعتذار الرسمي، وهي نفس المطالب التي ذهبت إليها جمعيات ومنظمات حقوقية ترى أن الاعتراف بمقتل علي بومنجل جاء ناقصاً ومتأخراً، وكان يمكن الاعتراف أيضاً بتعذيب وقتل الشهيد العربي بن مهيدي والعديد من المناضلين والمجاهدين من أبناء الشعب الجزائري في عمليات إبادة جماعية على مدى مئة وثلاثين عاماً من الاحتلال، وعدم الاكتفاء بخطوات رمزية في ملف المصالحة مع الذاكرة الذي يحمل أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية، وتاريخية لكلا البلدين والشعبين يجب معالجتها وتسويتها بشكل شامل يصل إلى درجة تقديم الاعتذار لشعب عانى الويلات على مدى 130 عاماً.
جريمة دولة استعمارية كانت تقتضي اعترافاً رسمياً بكل الجرائم وليس ببعضها، تتطلب أيضاً تقديم اعتذار رسمي باسم فرنسا للجزائر وإعادة فتح كل ملفات الذاكرة، وتهيئة الظروف للأجيال اللاحقة لشراكة جزائرية فرنسية تقوم على الندية والاحترام المتبادل بعد غلق الصفحة دون تمزيقها، لأنها جزء من الذاكرة والتاريخ المشترك بين البلدين، ولا يمكن اختزالها في مجرد اعتراف بمقتل أحد مناضلي الحركة الوطنية التي تعتبر خطوة محتشمة إذا لم تكن مصحوبة بخطوات أخرى أكثر جرأة.
في الجزائر كما في فرنسا، لا أحد بإمكانه التكهن بما سيحدث لاحقاً، والى أي مدى يمكن أن يذهب إيمانويل ماكرون في حالة انتخابه رئيساً لعهدة ثانية، لكن الكل يجمع على أن الأمور لن تتوقف عند هذا الحد لتجاوز مشاعر كراهية يصعب تجاوزها، لا يزال يغذيها يمين متطرف لم يتخلص من ممارسات عنصرية ضد الجزائريين المغتربين في فرنسا، لا يريد أن يصدمهم ماكرون أو يستفزهم أكثر باعترافاته كما كان الحال سنة 2017 عندما كان مجرد مرشح للرئاسة واعترف بأن الاستعمار ارتكب جرائم ضد الإنسانية في الجزائر، في إشارة إلى الإبادات الجماعية والتجارب النووية التي فجرها في صحراء الجزائر أثناء فترة الاحتلال.
إيمانويل ماكرون أقر في البيان الذي أصدره باسم الدولة الفرنسية بأن هذه الخطوة ستتوسع خلال الفترة القادمة، في إشارة إلى مبادرات أخرى سيقبل عليها لتمهيد الطريق نحو مستقبل أفضل في العلاقات بين البلدين، لكن الجزائريين يعتبرون الاعتراف بحقيقة الوقائع غير كاف لتضميد الجراح، خاصة أن الرئيس الفرنسي الذي يدعي الاعتراف بالحقيقة لم يدِن الجرائم ولو من الناحية الأخلاقية، بل يبرئ بطريقة غير مباشرة من ارتكبوا الجرائم ومن تستر عليها سياسياً، ويبرئ فرنسا الاستعمارية من الجرائم التي ارتكبت باسمها ليبقى الهدف من الخطوة سياسياً، بحيث لا يخدم الحقيقة التاريخية، فلا يدين فاعلها ولا يعيد الاعتبار لملايين الضحايا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.