كان قرار المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية بمثابة اعتراف جديد بالدولة الفلسطينية وإحياء لحدود 1967 التي تحاول إسرائيل طمسها، الأهم أنه يمثل بديلاً لمسار المفاوضات الفاشل الذي راهنت عليه السلطة الفلسطينية.
جاء هذا القرار كمحصلة لطريق سلكته نخبة من الفلسطينيين مقابل تردد من قبل السلطة الفلسطينية أحياناً، ومقاومة من الغرب دوماً.
وأصدرت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا الأربعاء 3 مارس/آذار 2021 بياناً تعلن فيه فتح تحقيق رسمي في جرائم مفترضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بناء على فتوى الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة قبل شهر، بأن الاختصاص القضائي للمحكمة يشمل فلسطين كونها عضواً في المحكمة، رغم أنها ليست دولة مستقلة.
وذكرت بنسودا أن "هناك أساساً معقولاً" لأن تكون الأراضي الفلسطينية قد شهدت جرائم حرب من الأطراف التي شاركت في حرب غزة عام 2014، أي الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية المسلحة وعلى رأسها حركة حماس.
عباس لم يكن يفكر في المحكمة الدولية، والآن قد يستفيد منها في الانتخابات
يمكن لدولةٍ فقط أن تمنح المحكمة الجنائية الدولية الاختصاص القضائي على أراضيها. سمحت الأمم المتحدة بقرار المدَّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم الحرب المزعومة في الأراضي الفلسطينية التي احتلَّتها إسرائيل عام 1967، عندما وافقت على طلب منظمة التحرير الفلسطينية الاعتراف بهذه المنطقة المحتلَّة وشعبها كدولةٍ فلسطينية.
قوبِلَ قرار الأمم المتحدة هذا، في 29 نوفمبر/تشرين الثاني، بلامبالاة، لكن بيان المدَّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، يوم الأربعاء 3 مارس/آذار، كان له تأثيرٌ مُنعِش.
من المفترض أن تستفيد حركة فتح من هذا الرابط الضروري- لكن المنسي- في حملتها الانتخابية، رغم أنه حين اختار محمود عباس الطريق الدبلوماسي لتحقيق مكانة الدولة، لم يكن يفكِّر في المحكمة الجنائية الدولية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
ضغوط أمريكية وأوروبية
على العكس من ذلك، كان عباس تحت ضغط الولايات المتحدة وأوروبا كي لا يسلك المسار القانوني في الساحة الدولية. وأعرب عن أمله في أن يؤدِّي "التهديد" الموجود على وضع الدولة، وبعد ذلك الوضع نفسه، إلى تحسين موقف الفلسطينيين وإحياء المفاوضات مع إسرائيل بشأن تنفيذ اتفاقية أوسلو.
وتشير العلاقة بين قرار المدَّعية العام فاتو بنسودا ووضع الدولة إلى خط وقف إطلاق النار لعام 1949 باللون الأخضر الفاتح مرةً أخرى- فهو يعطي أهميةً للخط الأخضر، الذي تحاول إسرائيل تجاوزه عبر ضم مساحات كبيرة من الضفة الغربية.
وقال فلسطينيٌّ منخرطٌ في التحرُّك نحو خيار المحكمة الجنائية الدولية لصحيفة Haaretz الإسرائيلية: "إذا كنت في تل أبيب وضربني خمسة إسرائيليين يهود ووقف رجال الشرطة في وضع المتفرِّجين، فلن تُحال القضية إلى لاهاي كجريمة حرب. كنت سأشكو الشرطة وآمل أن يُقدَّم المهاجمون إلى المحاكمة".
وأضاف: "أما إذا ضربني خمسة إسرائيليين يهود بينما كنت أزرع أرضي في الضفة الغربية، ووقف الجنود متفرِّجين ولم تفعل السلطات القانونية شيئاً لمعاقبة المهاجمين، أو إذا ضربني خمسة رجال شرطة في العيسوية بالقدس الشرقية، يمكن بالتأكيد إدراج ذلك ضمن جرائم الحرب".
يُنظَر إلى اختيار دورة المحكمة الجنائية الدولية على أنه خطوةٌ جريئة، وإن كانت واضحة، في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال.
لسنواتٍ من الزمن، كان الفلسطينيون ينطقون اسم المحكمة الجنائية الدولية كبلسمٍ سحري لتخفيف الألم. والآن يُنظَر إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها الفرصة الوحيدة تقريباً لقلب الموازين لصالح الفلسطينيين في وقتٍ يعتاد العالم فيه بشكلٍ متزايدٍ على الاحتلال الإسرائيلي، الذي صار أعنف وأوقح، حسب تعبير الصحيفة الإسرائيلية.
على عكس طريق الذهاب إلى لاهاي، فإن الحصول على وضع "دولة مراقبة غير عضوة" في الأمم المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 كان يُعتَبَر إلى حدٍّ كبير رمزياً، أو إنعاشاً مصطنعاً لقيادةٍ عاجزةٍ الآن لأنها فشلت في أن تفي بوعودها للشعب، وفقاً للصحيفة.
ولكن ينظر إلى الذهاب إلى الأمم المتحدة للحصول على وضع دولة بأنه يُعتَبَر تخلياً عن اللاجئين، وتخلياً عن حقِّ العودة، وقبولاً بالاحتلال الإسرائيلي من عام 1948 باعتباره أمراً محسوماً.
قرار الأمم المتحدة التاريخي
مع احتضار عملية الشرق الأوسط، أصبح الرئيس الفلسطيني محمود عباس أحد الموقِّعين على اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية، على الرغم من الاعتراضات الإسرائيلية على ذلك بدعوى عدم وجود دولة فلسطينية ذات سيادة، وبالتالي تكون غير مؤهَّلة للانضمام.
ولكن تجدر الإشارة إلى أن الأمم المتحدة منحت فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو بعد تصويت تاريخي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012. وصوتت لصالح الطلب الفلسطيني 138 دولة، فيما عارضته 9 دول، وامتنعت 41 دولة عن التصويت.
وبناء على نيلها صفة الدولة المراقب في الأمم المتحدة، انضمت فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2015، لتصبح العضو الـ123 بالمحكمة التي تأسست عام 2002.
كان جزءٌ من الدافع للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية هو رغبة السلطة الفلسطينية في "تدويل" عملية السلام الفاشلة، التي لطالما هيمَنَت عليها واشنطن. لكن هذه الخطوة كانت بمثابة تصميمٍ على ملاحقة إسرائيل في المحكمة، وفتح التحقيق في جرائم إسرائيل ليس فقط بسبب حرب 2014، بل أيضاً لسياسة إسرائيل المستمرة في بناء المستوطنات والاحتلال.
في السنوات الأخيرة، حقَّقَ الفلسطينيون سلسلةً من الانتصارات القانونية، والتي بدأت بحكم المحكمة بأن الفلسطينيين لديهم سمات الدولة الكافية ليكونوا موقِّعين على ميثاق روما وأن يقدِّموا شكاوى إلى المحكمة، وبالتالي التحقيق في جرائم إسرائيل المتعددة.
القوة الدافعة وراء الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية
الكيانات التي حوَّلَت المسار الرمزي لوضع الدولة إلى نقطة انطلاق للعمل الذي يمكن أن يقوِّض الوضع الراهن، ويضع إسرائيل في موقفٍ دفاعي، هي جماعاتٌ حقوقية فلسطينية.
ولعدة سنوات، كان مديرو مؤسَّسة الحق، ومؤسسة الضمير، ومركز الميزان لحقوق الإنسان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، يتنقَّلون ذهاباً وإياباً بين لاهاي ومكتب الرئيس الفلسطيني في رام الله ووزارة العدل ودائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية. أعدوا ملفاتٍ ضخمة بما اعتبره مواد تدين جرائم حرب إسرائيلية. وبفضل جهودهم، انتقلت إمكانية الذهاب إلى لاهاي، كجزءٍ من النضال الفلسطيني، إلى الجمهور الفلسطيني وفتح وشباب الحركة.
تحت ضغط هذه المنظمات، جاءت المحاولة الأولى للسلطة الفلسطينية للتوجُّه إلى المحكمة الجنائية الدولية- أي القول بأنها تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية في أراضي 1967- في يناير/كانون الثاني 2009 مباشرةً بعد أول هجومٍ كبير لإسرائيل على غزة في شتاء 2008-2009. ونظر المدَّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية آنذاك في الطلب لأكثر من ثلاث سنوات، وفي إبريل/نيسان 2012 حكم أنه وفقاً لميثاق روما الأساسي (مصدر سلطة المحكمة) لا يمكن إلا لدولةٍ قبول اختصاص المحكمة.
وقبل بضعة أشهر، في سبتمبر/أيلول 2011، أضاع عباس فرصةً للحصول على وضع الدولة. قرَّرَ أن يطلب من مجلس الأمن قبول فلسطين (في حدود ما قبل 1967، تماشياً مع إعلان منظمة التحرير الفلسطينية الاستقلال في عام 1988) كعضوٍ في الأمم المتحدة، على الرغم من أنه كان من الواضح أن الطلب سوف يُرفَض.
يعتقد بعض الأشخاص الذين قدَّموا فكرة لاهاي أن مخاطبة مجلس الأمن كان متعمِّداً، ويهدف إلى تأجيل القرار بشأن الطلب إلى المحكمة الجنائية الدولية- مرةً أخرى بسبب الضغط الأمريكي والأوروبي. مرَّ عامٌ آخر، جرت خلاله محاولة تدشين محادثاتٍ إسرائيلية فلسطينية غير مباشرة. وحين تبيَّن أن الأمر أيضاً غير مجدٍ، ذهب الفلسطينيون إلى الأمم المتحدة مرةً أخرى، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2012 اعترفت الجمعية العامة بدولة فلسطين كمراقبٍ غير عضو إلى جانب إسرائيل.
ومع ذلك، مرَّت سنتان حتى أعلن عباس توقيعه على ميثاق روما الأساسي في 31 ديسمبر/كانون الأول 2014. ودفعت حرب غزة في الصيف الماضي، إضافةً إلى إدراك أن حكومة إسرائيل تعمَّدَت إطالة المرحلة الانتقالية، وكذلك المطالبة الشعبية بتدشين مبادرة، عباس إلى اختيار المسار الذي كان أكثر تصادميةً لإسرائيل من ميله المعتاد.
موقف حماس وبقية الفصائل الفلسطينية
وحصل عباس أيضاً على إعلانٍ بادَرَ به صائب عريقات، وقَّعَت عليه المنظمات الفلسطينية المختلفة، قائلةً إنها تدعم الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية وإنها مستعدةٌ لتحمُّل العواقب؛ خاصة أنه يمكن استدعاء أعضاء هذه المنظمات واستجوابهم وحتى اعتقالهم للاشتباه في ارتكاب جرائم حرب. منظمة الجهاد الإسلامي هي فقط التي لم توقِّع على الإعلان.
ورحبت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بقرار المحكمة الجنائية الدولية يوم الأربعاء بفتح تحقيق بشأن جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية ودافعت عن أفعالها.
وقال حازم قاسم المتحدث باسم الحركة في غزة: "حماس ترحب بقرار محكمة الجنايات الدولية بالتحقيق في جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد شعبنا".
وأضاف: "مقاومتنا هي مقاومة مشروعة وتأتي في إطار الدفاع عن شعبنا، وهي مقاومة مشروعة كفلتها كل الشرائع والقوانين الدولية".
بعد أكثر من 12 عاماً من المثابرة، أصبح من الممكن لمدير مؤسسة الحق، شعوان جبارين، أن يقول: "كنت مقتنعاً أن بنسودا ستتحمَّل الضغوط الهائلة التي تتعرَّض لها لمقاومة طلباتنا، وكنت على حقٍّ في ذلك. أنا مقتنعٌ بأن مذكرات الاعتقال والاستدعاء ستصدر في النهاية للإسرائيليين المُشتَبَه في ارتكابهم جرائم حرب. متى؟ لا أعلم، لكن هذا سيحدث. نحن لا نسعى للانتقام بل لإثبات إمكانية تحقيق العدالة".
وأضاف: "إسرائيل مصابة بعمى الغطرسة لدى مَن يشعر أنه فوق القانون. ليس عليك أن تتفلسف كثيراً لترى أنه من الممكن- والصائب- مقاضاة الإسرائيليين المسؤولين عن جرائم الحرب بموجب معاهداتٍ دولية".