عدم إحراز تقدم في ملف الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة منذ تولي إدارة جو بايدن تسبب في انقسام في الآراء، بين من يُثني على أسلوب إدارة بايدن وبين من يُحذِّر من خطورة منهجها المختلف عن طريقة إدارة دونالد ترامب.
وكانت إيران على ما يبدو تتوقع أن يقدم بايدن على رفع العقوبات التي فرضها سلفه ترامب، أو على الأقل تخفيفها كخطوة أولى لإعادة إحياء الاتفاق النووي أو خطة العمل الشاملة المشتركة الموقعة عام 2015، والتي انسحبت منها إدارة ترامب عام 2018 بشكل أحادي، على أساس أن بايدن أعلن بالفعل عن نيته العودة للاتفاق.
لكن منذ تولي بايدن منصبه يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي، لم يحدث تقدم على طريق العودة للاتفاق النووي، في ظل تمسك طهران برفع العقوبات أولاً، وإصرار واشنطن على أن تعود إيران أولاً لالتزاماتها بموجب الاتفاق، ثم وقعت الهجمات الصاروخية التي استهدفت قواعد عسكرية أمريكية في العراق من جانب ميليشيات تأتمر بأمر إيران، لتدفع الأمور إلى حافة المواجهة العسكرية مرة أخرى.
إشادة داخلية بموقف بايدن
رَفْض بايدن التخفيف المسبق للعقوبات المفروضة على إيران أثار غضبَ حكام طهران من رجال الدين، لكنه نال بعضَ الثناء في الداخل الأمريكي، رغم فشله حتى الآن في جذب إيران إلى المحادثات النووية أو ردع الهجمات على القوات الأمريكية في العراق.
وقال إليوت أبرامز، المبعوث الخاص للرئيس السابق دونالد ترامب لإيران، لرويترز، إن عدم استعداد بايدن لتخفيف العقوبات على طهران قبل أي محادثات بين الجانبين لاستئناف الامتثال للاتفاق النووي لعام 2015 "منطقي"، مضيفاً: "التفاوض هو دائماً أخذ وعطاء، لكن ينبغي ألا ندفع لهم فقط مقابل التمتع بصحبتهم على طاولة المفاوضات".
وورِث بايدن عن ترامب تحدياً دبلوماسياً وعسكرياً على طريق السعي إلى إحياء الاتفاق وتوسيعه في نهاية المطاف، لوضع قيود أكبر على برنامج إيران النووي، وتطويرها للصواريخ، فضلاً عن تقييد أنشطتها الإقليمية، وفي هذا السياق يثير المديح الذي كاله مسؤول جمهوري للرئيس الديمقراطي الدهشة، نظراً للفجوة بين الحزبين السياسيين، ويسلط الضوء على تحركات بايدن المتوازنة، وهو يحاول إحياء الاتفاق دون أن يتعرض لانتقادات من الجمهوريين.
ووصف محللون نهج بايدن تجاه إيران بأنه "ماهر" في الحفاظ على تأثير العقوبات الذي ورثه عن ترامب، وبالتالي يوفر الحماية لنفسه من الانتقادات المحلية، في الوقت الذي يتخذ فيه موقفاً أكثر تشدداً بشأن الهجمات الصاروخية التي يشنها وكلاء إيران في العراق.
خطورة الهجمات الصاروخية
وعلى الجانب الآخر، يرى فريق من المحللين أن تصعيد الهجمات الصاروخية يسلط الضوء على ضرورة الإسراع بإحياء الاتفاق النووي، في ضوء أحداث العام الأخير من رئاسة ترامب، والذي شهد لحظات خطيرة من التصعيد، كادت تدفع الأمور إلى حافة حرب لا يريدها أحد.
ونشر موقع Responsible Statecraft الأمريكي تقريراً حول خطور التصعيد في الهجمات الصاروخية التي يشنها وكلاء إيران، سواء في العراق أو اليمن، على الأوضاع في المنطقة، والتي قد تصل إلى نقطة اللاعودة دون قصد، مستشهداً بما حدث في يناير/كانون الثاني عام 2020، إذ ظهر لاحقاً مزيد من الأدلة تدحض فكرة أن القيادة الإيرانية بذلت جهوداً كبيرة لتجنب شبح قتل جنود أمريكيين.
فبعد أيامٍ من الترقب والقلق تنفست دول العالم الصعداء، بعدما أشار دونالد ترامب في 8 يناير/كانون الثاني عام 2020، إلى أن الولايات المتحدة لن تردّ عسكرياً على الضربات الصاروخية الإيرانية التي نفذتها على قواتها في العراق. وكانت هذه الضربات قد جاءت رداً على اغتيال الولايات المتحدة للجنرال الإيراني قاسم سليماني، وجاء إعلان ترامب ليضع نهاية للمناوشات العسكرية، التي كان من الممكن أن تتحول بسهولة إلى حرب شاملة مع إيران.
ومع تداوُل وسائل الإعلام لخبر الضربة، تساءل صناع القرار والمحللون والمفكرون على حد سواء إن كان الإيرانيون يتجنبون عن عمد سقوط ضحايا أمريكيين لمنع المزيد من التصعيد، واكتسبت هذه النظرية زخماً بعدما أعلنت الحكومة العراقية أن السلطات الإيرانية أبلغتها مسبقاً بخططها لمهاجمة قواعد أمريكية داخل العراق. واعتبر بعض المحللين أن هذه هي طريقة إيران لتحذير القوات الأمريكية مسبقاً، وبالتالي منحها متسعاً من الوقت لأخذ احتياطاتها قبل سقوط الصواريخ.
لكن الإشارات المتداخلة التي كانت تبعث بها إدارة ترامب زادت من صعوبة تقدير حقيقة نوايا إيران، ففي حين أكد مسؤولون أمريكيون مثل نائب الرئيس مايك بنس، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، ووزير الخارجية مايك بومبيو، اقتناعهم بأن الضربات الإيرانية قد شُنت فعلاً بنية صريحة لقتل الأمريكيين، كان ترامب هو الوحيد المتفائل، بعد وصفه الضرر الذي لحق بالقوات الأمريكية بأنه "ضئيل"، وزعمه أن إيران الآن "تتراجع".
وعرض برنامج 60 Minutes تقريراً مؤخراً يضفي المزيد من المصداقية على هذه التقارير الأولى، التي أكدت أن إيران سعت لقتل أكبر عدد ممكن من الأمريكيين، على عكس ما روّج له ترامب. وتحدث شهود عيان عن حالة الفوضى المطلقة التي سادت القاعدة والصواريخ الباليستية تندفع نحوها، فراح الجنود يتدافعون بحثاً عن ملجأ، وتكدّس العشرات في مخابئ محدودة الإمكانيات، مجهزة لعدد أقل بكثير من الناس، وحاول آخرون يائسين تفادي النيران التي نجمت عن الانفجارات والحرائق التي تلت سقوط الصواريخ.
ولكن فضلاً عن روايات شهود العيان، عرض تقرير برنامج 60 Minutes مقابلة مع الجنرال الأمريكي كينيث ماكنزي، زادت من التشكيك في المزاعم القائلة بأن إيران تتجنب وقوع قتلى. وبحسب ماكنزي، اشترت إيران صوراً تجارية ملتقطة عبر الأقمار الصناعية للقاعدة في يوم الضربة. وقال ماكنزي إنه انتظر حتى اشترت إيران صورتها الأخيرة هذا اليوم قبل أن يأمر بإخلاء القاعدة. ويزعم ماكنزي أن الخرائط القديمة التي تمكنت إيران من الحصول إليها تُظهر قاعدة مترامية الأطراف، تعمل بكامل طاقتها وتضم جنوداً وطائرات أمريكية.
بايدن يردُّ على الهجمات الصاروخية
وبعد أن شنَّت واشنطن غارات جوية على مقاتلين مدعومين من إيران في سوريا، يوم 25 فبراير/شباط الماضي، رداً على هجوم صاروخي في 15 من الشهر نفسه، على قاعدة تستضيف قوات أمريكية في أربيل بالعراق، عادت المخاوف من أن يخرج التصعيد عن السيطرة.
لكنّ مسؤولين دفاعيين أمريكيين قالوا لرويترز إن بايدن وافق على الخيار الأكثر محدودية، قائلين إنه يهدف إلى إبلاغ طهران بأن واشنطن لن تقبل مقتل أو إصابة مواطنين أمريكيين، لكنها لا تريد تصعيداً عسكرياً.
وقال مسؤولو الدفاع إنهم لا يتوقعون توقف الهجمات الصاروخية على الأفراد الأمريكيين في العراق بعد ضربة واحدة في سوريا، لكنهم قالوا إنهم يهدفون إلى التأكيد على أنه رغم أن الدبلوماسية هي الخيار الأول، فإن الخيار العسكري متاح.
لكن الفريق القلق من المحللين قال للموقع الأمريكي ما دامت اختارت إدارة بايدن ترك عقوبات ترامب على حالها، فاحتمال نشوب صراع عسكري جديد بين الولايات المتحدة وإيران سيظل قائماً. وتشي الروايات المروعة التي تصف ما حدث في قاعدة عين الأسد، بأنه في حالة اندلاع صراع عسكري جديد سيكون الإيرانيون مستعدين وقادرين على تنفيذ ضربات قاتلة، وهو احتمال لا يفيد إيران ولا الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، منذ ضربة قاعدة عين الأسد، كشفت إيران النقاب عن مزيد من التعزيزات والتوسعات في برنامجها الخاص بالصواريخ الباليستية، الذي يحظى بدعم واسع من الجمهور الإيراني. وأحد التطورات الرئيسية في هذا البرنامج كان إنشاء منصة جديدة تحت الأرض، قائمة على السكك الحديدية، بإمكانها إطلاق صواريخ باليستية في تتابع سريع، ومصممة للتغلب على منظومات الأعداء المضادة للصواريخ. كما تحدثت البلاد عن "مدينة صواريخ" جديدة على ساحل الخليج.
الدبلوماسية والمعارضة الأمريكية
في الوقت الذي قال فيه السفير الفرنسي السابق لدى الولايات المتحدة جيرار أرو لرويترز، إن بايدن كان بارعاً في دبلوماسيته المبكرة والضربات الجوية الأسبوع الماضي، فقد لمّح إلى أن فريق الرئيس أجاد اللعب بما في جعبته من أوراق، عندما رفض مطالب إيران بتخفيف العقوبات على الفور، مضيفاً: "لم يفعلوا ذلك لأنهم لم يتمكنوا من فعل ذلك محلياً.. (أن يبدوا وكأنهم) يقدمون تلك الهدية للإيرانيين".
وقال كليمنت ثيرم، الخبير في شؤون إيران في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا، إن بايدن تجنب إثارة معارضة داخلية، لكن ذلك لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وأضاف: "إنهم ماهرون بمعنى أنهم لن يبددوا نفوذهم السياسي بعد الانتخابات مباشرة، لمد يدهم إلى حكومة إيرانية مكروهة في الولايات المتحدة على مدى الثلاثين عاماً الماضية".
وفي السياق ذاته، قال مسؤولون كبار في إدارة بايدن، الأحد الماضي، إن إيران رفضت عرضهم الأول، وهو عرض لمحادثات يستضيفها الاتحاد الأوروبي بين إيران والقوى الست الكبرى في الاتفاق، وهي بريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة. وردّ مسؤولون أمريكيون بهدوء، وقال أحدهم يوم الأحد "لا نعتقد أن هذه نهاية الطريق".
وذكر مصدران يوم الخميس، 4 مارس/آذار الجاري، أن إيران أرسلت إشارات مشجعة في الأيام الأخيرة بشأن المحادثات، بعد أن ألغت القوى الأوروبية خططاً لانتقاد طهران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة.
وقال مصدر دبلوماسي فرنسي، إن إدارة بايدن يجب أن تتجنب السيناريو الذي يوافق فيه رئيس على أمر ما، ثم يأتي خليفته ليغيره. وهذا يعني كسب دعم الديمقراطيين والجمهوريين. وقال المصدر لرويترز "ما يجب بناؤه هو إطار عمل أكثر توافقية، ويلقى دعماً من الحزبين، بحيث يصمد عندما تتغير الإدارات".