بعد الانتهاء من تقديم العلف لماشيته (4 رؤوس أغنام)، يغادر لزهر (53 عاماً)، منزله الذي يقع في ضواحي محافظة سيدي بوزيد المشهورة بإنتاجها الفلاحي وتربية الماشية، في اتجاه مقر عمله بإحدى المؤسسات التابعة للدولة، حيث يشرف رفقة 12 عاملاً، على صيانة وتنظيف الحدائق.
ويمنّي لزهر نفسه بأن يصدّق مجلس نواب على مشروع قانون يمنحه حق الانتداب في القطاع العام، ليضمن أجراً يمكّنه من توفير جزء من تكاليف دراسة أبنائه الخمسة.
وكانت لجنة المالية في مجلس نواب الشعب قد صدقت على مشروع قانون يتيح للآلاف من عمال الحظائر الانتفاع بالانتداب في القطاع العام رغم تجاوزهم السن القانونية القصوى، ويتعلق الأمر بالعمال الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و55 سنة.
ويتطلب دخول مشروع القانون حيز التنفيذ، التصديق عليه في جلسة عامة بمجلس نواب الشعب (لم يحدَّد موعدها بعد).
وفي هذا السياق يشير علي بن عون، النائب عن حركة الشعب (الحزب الذي تقدم بالمبادرة)، لـ"عربي بوست"، إلى أن المبادرة تشمل نحو 18 ألف عامل تجاوزت سنهم، السن القانونية للانتداب في القطاع العام، وتهدف لتمتيع هؤلاء بقانون استثنائي يكافئهم على نحو 20 سنة من العمل بعقود هشة، بإضافتهم إلى قائمة عمال الحظائر الذين أقرت الحكومة مؤخراً انتدابهم في القطاع العام.
ويضيف بن عون: "المبادرة تهدف لتنقيح قانون الوظيفة في القطاع العام فيما يتعلق بالسن القصوى للانتداب، لتمكين هؤلاء العمال حصراً من حق الانتداب بالقطاع العام، بعد أن تم استثناؤهم من هذا الحق، بسبب تجاوزهم سن 45 عاماً".
وتابع: "تشعر هذه الفئة من عمال الحظائر بالغبن والظلم، بسبب استثنائهم من الانتداب عكس زملائهم، وتواضع قيمة التعويض الذي قدمتهم لهم الحكومة والذي قدر بـ20 ألف دينار".
أحلام مؤجلة
ولا يخفي بن عون، مخاوفه من إمكانية عدم التصديق على هذا القانون في مجلس نواب الشعب، حيث يشير إلى أن حركة النهضة وائتلاف الكرامة يعملان على تعطيل تمرير هذه المبادرة، بحجة أنها تعطل تفعيل الاتفاق السابق الذي أعلنته الحكومة والذي يقضي بانتفاع عمال الحظائر ممن تقل سنهم عن 45 عاماً، بالانتداب في القطاع العام.
وأضاف محدثنا: "يتحججون بأن المبادرة ستعطل تنفيذ الاتفاق الحكومي الخاص بعمال الحضائر وبأنها ستثقل كاهل الدولة رغم أن حركة الشعب أوضحت أن قيمة التعويضات التي أقرتها الدولة لهذه الفئة والتي تقدر بـ360 مليون دينار، قادرة على دفع رواتب هؤلاء العمال لمدة سنتين".
يفوق عدد عمّال الحظائر أو أصحاب عقود العمل المؤقتة في تونس 100 ألف عامل، وفق تقديرات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعي. لكنّ العدد غير دقيق بحسب مراقبين، إذ يشهد ارتفاعاً أكبر كلما احتاجت الدولة في قطاعات عدّة إلى أشخاص يعملون وفق عقود محدّدة زمنياً.
وهي آلية لجأت إليها الدولة قبل سنوات لاستيعاب اليد العاملة التي يعمل نحو 60% منهم في الحراسة والتنظيف، فيما تعمل البقية في الأعمال الزراعية أو صيانة الحدائق العامة ويتقاضون أجوراً لا تتجاوز 90 دولاراً أمريكياً في الشهر، وقد تنتهي عقودهم في أيّ لحظة من دون الحصول على أيّ تعويضات.
موتى وسجناء يتقاضون رواتب!
لم يبقَ ملف عمال الحظائر خارج دائرة الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة، حيث تشير مصادر إلى وجود إخلالات وملفات فساد في عملية الانتداب، كبّدت الدولة -ولا تزال- المليارات خلال السنوات الماضية.
وقد أكد تقرير دائرة المحاسبات لعام 2013، أن آلية عمال الحظائر تحوّلت إلى واحدة من أدوات الفساد والمحسوبيّة والتلاعب بالمال العام، وأوضح التقرير أنه تم إيقاف منحة الحظائر عن أكثر من 9 آلاف عامل سنة 2013 لأسباب مختلفة، تتعلّق بالتحايل من خلال تسجيل أسماء وهميّة، أو ممارسة أنشطة تجاريّة خلال ساعات العمل، أو الحصول على مِنح دون مزاولة الحضور والعمل.
وتشير تقارير إلى تسجيل آلاف أسماء وهمية للحصول على أجور ومِنح، من دون ممارسة العمل الموكول إليهم، إضافة إلى عمل بعض الأشخاص ضمن هذه الآلية، من دون استكمال شروط الانتفاع بها.
كما أوضح مصدر مسؤول في وزارة المالية (طلب عدم ذكر اسمه)، لـ"عربي بوست"، في هذا السياق، أنه تم اكتشاف عدد من الإخلالات في عملية الانتداب الخاصة بعمال الحظائر، مؤكداً أنه تم التفطن إلى أن عدداً من الأشخاص يتقاضون رواتب دون وجه حق، حيث إن بعضهم في السجن ولا يباشر عمله، إضافة إلى اكتشاف رواتب تسند إلى أشخاص متوفين.
وفي سياق متصل يؤكد عليّ الميساوي، المستشار القانوني للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، لـ"عربي بوست"، استشراء ظاهرة الفساد في ملف عمال الحظائر، مؤكداً أن ذلك يشمل إخلالات في طريقة الانتداب، ومن ذلك غياب الشفافية والنزاهة في اختيار المنتفعين بعقود العمل، وتجاوز العشرات من العمال الذين تم انتدابهم، للسن القانونية التي يتم على أساسها الانتظار.
ويضيف الميساوي لـ"عربي بوست"، أن الفساد في هذا الملف يشمل أيضاً حصول مسؤولين بالدولة على رشاوى مقابل عقود عمل وفق آلية عمال الحظائر لعدد من الأشخاص الذين يعملون في قطاعات أخرى أو يملكون مورد رزق محترماً.
وتابع: "ترد على الهيئة تبليغات من مختلف محافظات البلاد حول شبهات فساد. وتتولى الهيئة إحالة الإخلالات وملفات الفساد إلى القضاء إثر عمليات التثبت والبحث والتقصي".
وأشار الميساوي إلى أن هيئة مكافحة الفساد تتولى النظر سنوياً في عشرات ملفات الفساد، قائلاً: "بمعدل سنوي يصل عدد ملفات الفساد التي تنظر فيها الهيئة إلى ما بين 45 و52 ملفاً".
تتباين التقديرات بشأن العدد الإجمالي لعمال الحظائر، في غياب إحصائيات رسمية، حيث تشير تقديرات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعام 2013 إلى أن عددهم يقدر بـ100 ألف عامل، فيما يؤكد النائب عن حركة الشعب علي بن عون، أن العدد أقل بكثير ويصل إلى حدود 60 ألف عامل.
ويعمل هؤلاء، وهم من ذوي التكوين المتدني في قطاعات مختلفة من الفلاحة إلى الصحة إلى الطاقة والتعليم، بمؤسسات تابعة للدولة. ويتقاضى عمال الحظائر أجراً شهرياً متدنياً وفق عقود عمل هشة ومحددة المدة يقع تجديدها بشكل دوري. ولا يتمتع هؤلاء العمال بالتغطية الاجتماعية.
من حل إلى مأزق
تحولت آلية العمل في الحظائر من حل لامتصاص الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها أغلب جهات البلاد على البطالة بعد الثورة إلى مأزق كبير للدولة، التي أصبحت مطالَبة بتسوية وضعية عشرات الآلاف من العمال، في ظل تصاعد الإضرابات والاعتصامات وضغط الاتحاد العام التونسي للشغل.
وفي ظل الصعوبات الاقتصادية التي تعيشها البلاد أصبحت الموازنة الخاصة بعمال الحظائر والتي تقارب 250 مليون دينار سنوياً وفق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عبأً كبيراً على الدولة وملفاً يؤرق الحكومات المتعاقبة.
لكن بن عون يشير إلى أن هذا الرقم مبالغ فيه؛ ذلك أن عدد عمال الحظائر آخذ في الانخفاض، بسبب عدد الوفيات في السنوات الأخيرة، وكذلك عمل وزارة المالية على التدقيق في القائمة النهائية لهؤلاء العمال، حيث سيتم حذف الآلاف منهم ممن يتمتعون بمنح أخرى من الدولة (منح ذوي الاحتياجات الخاصة والمعوزين…)، وكذلك ممن يتمتعون بدخل ثابت ومحترم مثل أصحاب رخص سيارات النقل بين المحافظات.
من المسؤول؟
ولم يخف لزهر عدم انضباط زملائه في الحضور يومياً إلى مقر العمل وكذلك في أداء ما يتم تكليفهم به من أعمال، مشيراً إلى أن مسؤولية التسيب تتحملها عمال الحظائر وكذلك الإدارة، مؤكداً: "العمال يرفضون الإمضاء لتأكيد حضورهم الوجوبي، ودائماً ما يهددون بالتصعيد لفرض خيارهم، وهو ما يجعل المشرفين الإداريين عليهم يتغاضون عن محاسبتهم".
كما لم يخف زهير الخصخوصي، عضو التنسيقية الجهوية لعمال الحظائر بمدينة المكناسي (محافظة سيدي بوزيد)، في حديثه، لـ"عربي بوست"، وجود ملفات فساد في ملف عمال الحظائر، قائلاً: "أغلب عمال الحظائر بمختلف محافظات تونس وفي مختلف القطاعات التي يعملون فيها، يؤدون واجبهم على أكمل وجه، لكن هذا لا ينفي وجود شبهات فساد ورشوة في عملية الانتداب، وكذلك وجود حالة تسيب وعدم انضباط في عدد من المؤسسات".
لكن الخصخوصي حمّل الدولة المسؤولية، قائلاً: "لا أحد يمكن أن ينكر وجود فساد في ملف عمال الحظائر، لكن الدولة والمؤسسات التابعة لها التي تشغل عمال الحظائر هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن هذه الظاهرة".