تتطلبُ كتابة الرواية القصيرة وعياً بالمساحة التي يتعامل معها المؤلف، وقد يكون التعثرُ في إدراكِ تلك المساحة لحظة قاتلة للمنجز الأدبي بأكمله، لأنَّ آلية السرد في "النوفيلا"، وهي الرواية القصيرة أو الأقصوصة، تتصف بالرشاقة في الحركة والخفة في العرض. فإنَّ ما يتمُ التعويل عليه ليس الاسترسال في سرد التفاصيل، إنما التمكن من ضم كامل الحكاية في بؤرة الحدث. وأنَّ ما يتوالى في إطار "النوفيلا" من معلومات لا ينفصلُ عن الحدث الرئيسي للقصة. كما أنَّ الكثافة التعبيرية من الخصائص المميزة للغة "النوفيلا"، فلا مجال للحشو والإسهاب في الوصف.
ولذلك ترى الجملة الأولى في الروايات القصيرة تضمرُ ما يثير السؤال عند القارئ، وهذا ما يفتح أفق التوقع بوجه الاحتمالات، فيرتفع الحماس والتشويق، ويلتهم القارئ "النوفيلا". تماماً كما يتمثلُ ذلك في رواية "الرجل الذي يحدقُ في السماء" للروائي تشيلي إيرنان ريبيرا ليتيير، وما نشره الكاتب الإسباني خوسيه كارلوس بعنوان "ملف شتاين".
الرجل الذي يحدقُ في السماء
بأخذ الروايتين المذكورتين كمثال تستشفُ من خلال العنوان محور الرواية، وما إن يبدأ القارئ في القراءة حتى يتأكد من ذلك. إذ يفتتح ربييرا "الرجل الذي يحدقُ في السماء" بالدخول في صلب القصة، فيشير إلى ظهور بطل الأقصوصة مباشرة. ولا تختلفُ صيغة الاستهلال في نص خوسيه كارلوس عن نظيرتها في "الرجل الذي حدق في السماء"، فإنَّ وصولَ غييرمو شتاين إلى المدرسة الثانوية في منتصف العام الدراسي هو الحدث المؤسس للنوفيلا وبدايتها. واللافت أن كلا الشخصيتين يلفهما الغموض، لدرجة أن يطبع فضاء العملين بأجواء الروايات البوليسية، إذ يتزامنُ ظهور شتاين مع موت الأب أسكاراتيه بسكتة دماغية، والغريب أنَّ الكاهن الراحل قد اعتبرَ السكتة علامة غضب من الله. وتحلُّ أجواء مأتمية عقب موت الكاهن، إذ يسهرُ الطلاب متناوبين على الجثة. وتعينَ على مجموعة الراوي القيام بنوبة الحراسة الأولى، وتلك هي النوبة الأسوأ حسب رأيه، لأنَّ من المحتمل ألا يكون الميت ميتاً ويفاجئ الحضور بفتح عينيه. فتتصاعدُ حدة التوتر المنسال من كلمات الرواية.
وفي رواية ريبيرا لا يصرفُ الراوي نظره عن الرجل الرائي، وينقلُ مشهد وقوفه وهو مولٍّ وجهه شطر الأعالي، فكان بعض الناس يحاكونه في النظر، وعندما لا يرون في السماء ما يجدرُ بالتأمل ترسم إيماءة الغضب على محياهم، ويبادر نفرٌ من المارة بطرح الأسئلة على الرجل المحدق بالسماء. وما إن يرفع الناس بصرهم نحو السماء يغض الرجل بصره إلى الأرض، مغادراً صوب جهة أخرى من الطريق.
لا يقومُ نص خوسيه كارلوس على قصة أحادية، بل تنفتحُ بنيته على مزيد من القصص، إذ تظهر شخصية (بلاناس) التي تستمد دورها مما يعرفه عن عمه (ريموند)، وحيثيات مشاركته في الحرب العالمية الثانية بصحبة الجنرال (مونيث غراندس)، كما أنَّ موت (ريموند) في برشلونة في ظروف مريبة يضاعف من قوة القصة. وما يسوغُ مطالبة قائد الصف من (بلاناس) بالبحث عن هوية الوافد الجديد هو اعتراف (شتاين) بأن والده كان صديق الكونت سيانو، مردفاً أنَّه عميل سري لصاحب القداسة، ومن ثمَّ أنَّ يتبين أن عم (بلاناس) جمعتهُ معرفة بالكونت (سيانو). يذوب الجليدُ بين الراوي (ريدورسا) و(شتاين) وتشرع أبواب بيت الوافد الغامض بوجه (ريدورسا)، إذ يتعرف الأخير على (باولا شتاين)، ويطوف خلسة في عالم شقيقة شتاين. وتتوارد الإشارات في السياق ذاته إلى الحروب المشتعلة في البلدان التي تسمى بالهند الصينية، وبذلك يتم تحديد زمن الأحداث، ولا يغادر شتاين بؤرة الأحداث، بل يعمق حضوره أكثر تسللُ والده إلى مسرح الحدث، إذ يرصد الراوي برفقة أصدقائه زيارة (بيغليا) إلى متجر ساعات، علماً أنَّ المكان كان مهجوراً رغم ما يعرضُ في واجهته من مقتنيات، ولا ينتهي النص دون ضخ مزيد من الأحداث داخل مساقاته. إذ يقرأ الراوي خبراً منشوراً بالجريدة عن اعتقال (والد شتاين) بعد تورطة في تزوير الأموال، ولا يدع خوسيه كارلوس المتلقي إلا ويفاجئهُ بنهاية غير متوقعة، حيثُ يكشفُ الراوي أن باولا أصبحت شريكةَ حياته، أما شقيقها فلقي حتفه في روما. وما ينزل مزيداً من جرعات التشويق في أوردة "الرجل الذي حدق في السماء" هو إضاءة أبعاد جديدة لشخصية الرائي، ونشوء علاقة الصداقة بينه وبين الراوي.
القصة الواضحة
ما يُكسبُ "الرجل الذي حدق في السماء" خصوصية هو وضوح ملامح القصة منذ الوهلات الأولى. كما أنَّ الراوي مع أنَّه متضمنُ في حيثيات القصة، ويسرد جانباً من حياته الشخصية يتموضعُ في موقف المراقب، لاسيما في مطلع الرواية. وما إن ينطقُ الرجل خارجاً من صمته حتى يتخذ الراوي شكل ما يسميه تودوروف "الراوي مع"، أو المصاحب الذي لا تفوق معلوماته عن القصة أكثر مما يعرفه القارئ. والأهم في هذا المنحى هو محاولة التأمل لاستبطان أعماق الرجل وتأويل ما يريد التعبير عنه بصمته.
والحال هذه يذكرها واقع الرجل المحدق بالسماء بمشروع الرواية التي يتطلعُ إلى كتابتها، لأنَّه يتوخى تأليف نص روائي لا يحدثُ فيه شيء، وفي الوقت نفسه يحدث فيه كل شيء. تتفاعل الرواية مع المعطيات التاريخية والأسطورية دون أنَّ يصابَ النص بالانتفاخ والتكدس. وينتظمُ هذا كله في المسلك السردي الذي يمتاز بالإيجاز والعبارات الوامضة، وما يجدرُ بالإشارة أنَّ المؤلفُ لا يهملُ الإبانة عن خلفية شخصياته الثلاث على المستوى الفكري والاجتماعي والمهني. فلوريدانا، مثلاً، قد هربت مع فتى يلعب الأكروبات ومنهُ تعلمت تلك العروض البلهلوانية وهي مقتنعة بأن الكمال يكون مملاً للغاية، كما أنَّ الراوي منكبّ على تلوين الأرصفة، أما الرائي فأقرب إلى الحكيم وما يقولهُ عبارة عن كلمات تفيضُ بشحنة شاعرية وشعرية مثل "الحبُ مثل النظر إلى السماء أثناء النهار". ورغمُ ما يسكنُ النص من المرح والخفة، فإنه لا يخلو من نفس تراجيدي يعيدُ إلى الذهن دور القدر في الملاحم اليونانية، وإذا أشرنا إلى ما يضعُ منجز ربيييرا وخوسيه كارلوس ضمن النصوص الأدبية المكتملة، سنرى التمكن في الأدوات السردية في المقدمة، ومن ثم التأسيس للقصة، وأخيراً تعدين الشخصيات والترابط بين مفاصل القصة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.