يوقع الرئيس الأمريكي على خطاب سري يتعهد فيه بعدم تطرق إدارته إلى الحديث علناً عن أسلحة إسرائيل النووية، فهل هذا سبب تأخير بايدن الاتصال بنتنياهو؟
وبدأ هذا التقليد منذ رئاسة بيل كلينتون في العقد الأخير من القرن الماضي، بإصرار إسرائيلي، حيث يوقع الرئيس الأمريكي خطاباً سرياً عند توليه المنصب، يتعهد فيه فعلياً بأنَّ الولايات المتحدة "لن تضغط على الدولة اليهودية للتخلي عن أسلحتها النووية طالما استمرت في مواجهة التهديدات الوجودية بالمنطقة"، وهو ما كشف عنه آدم إنتوس، الصحفي المتخصص بالشؤون المخابراتية والعسكرية، في مقال نشرته مجلة New Yorker عام 2018.
فإسرائيل تمتلك بالفعل أسلحة نووية وهذه حقيقة يعرفها الجميع حول العالم، وتتم الإشارة إلى إسرائيل على أنها أحد أعضاء النادي النووي، إضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا والهند وباكستان وكوريا الشمالية، وتعتمد تل أبيب ما يُعرف بـ"استراتيجية الغموض النووي"، أي عدم النفي وعدم التأكيد رسمياً.
هل هذا سبب تأخير بايدن اتصاله بنتنياهو؟
وبدأت العلاقة الوثيقة بين واشنطن وتل أبيب منذ تأسيس الدولة العبرية عام 1948، إذ كانت أمريكا أول دولة تعترف رسمياً بإسرائيل، ومنذ ذلك الوقت وقّع الطرفان العديد من الاتفاقيات في جميع المجالات، وبصفة خاصةٍ المجال العسكري، الذي تضمَّن حصول تل أبيب على أحدث الأسلحة الأمريكية وأكثرها فتكاً، إضافة إلى التكنولوجيا الخاصة بتلك الأسلحة، وهو ما مكَّن إسرائيل من أن تصبح القوة العسكرية الأبرز في منطقة الشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بالأسلحة النووية، جرت العادة بأن تتجاهل الإدارة الأمريكية الحديث عن إسرائيل تماماً في معرض جهود منع انتشار الأسلحة النووية في العالم بشكل عام وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.
وكما جرت العادة أيضاً، يضع الرئيس الأمريكي على رأس قائمة مكالماته الهاتفية الخارجية رئيس وزراء إسرائيل، لكن الرئيس جو بايدن أجَّل اتصاله ببنيامين نتنياهو شهراً تقريباً، وتركه "يتعرق" حتى 17 فبراير/شباط الجاري.
وبحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، نقلاً عن مصادر مطلعة، فإن تأخير بايدن تلك المكالمة الاحتفالية المعتادة بعد التنصيب، لرئيس الوزراء الإسرائيلي، يعني أنَّ بايدن لم يُوقِّع بعد على "الخطاب"، الذي تطلبه إسرائيل بانتظام من الرؤساء الأمريكيين؛ لضمان عدم ذكر الولايات المتحدة أسلحة إسرائيل عند مناقشة الانتشار النووي في المنطقة، أو الضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل تقليل ترسانتها الذرية الهائلة.
وربما تكون أسوأ نتيجة على الإطلاق لتلبية مطالبة إسرائيل بتوقيع هذه الخطابات، هي أنَّ الإدارة الأمريكية أعمَت نفسها طواعيةً بالتظاهر بعدم معرفة أي شيء عن الأسلحة النووية الإسرائيلية؛ وبالتالي أفسدت جهودها في صنع سياسة متماسكة وبنّاءة.
إذ إن الولايات المتحدة لا تكتفي بعدم الضغط على إسرائيل للتخلي عن أسلحتها النووية، بل تساعدها بنشاط، سواء دبلوماسياً عن طريق إلغاء مناقشة أسلحتها النووية في المحافل الدولية، أو مادياً من خلال غض الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية للقانون النووي، وضمن ذلك انتهاكات داخل الولايات المتحدة نفسها.
اتفاق سري بين نيكسون وغولدا مائير
ومن خلال الحفاظ على هذا الجهل الوهمي داخل الإدارة، في حين يعلم كل شخص على وجه الأرض لديه الحد الأدنى من الاهتمام بالموضوع الحقيقة، سنّت واشنطن قاعدة -موصوفة في نشرة تصنيف وزارة الطاقة الأمريكية حول القدرات النووية الأجنبية "WPN-136"- تهدد موظفي الحكومة بعقوبات شديدة إذا أقرّوا بأنَّ إسرائيل تمتلك أسلحة نووية.
وبطبيعة الحال، حُجِبَت اللائحة عن النشر العام، وتختبئ الحكومة وراء تفسير فضفاض لاستثناءات قانون حرية المعلومات الخاصة بالوثائق التي "من شأنها الكشف عن تقنيات وإجراءات التحقيقات أو الملاحقات القضائية لإنفاذ القانون"، وهو أمر لن تفعله المواد المحجوبة.
وفي أول مؤتمر صحفي للرئيس الأسبق باراك أوباما، سألته الصحفية الراحلة هيلين توماس عمّا إذا كان على علم بأية دولة مسلحة نووياً في الشرق الأوسط، وكان أوباما مستعداً بالفعل للإجابة الصحيحة: "فيما يتعلق بالأسلحة النووية، كما تعلمون، لا أريد التكهن"، كأنما أي شخص ذكي لن يعرف الإجابة الأكيدة على هذا السؤال!
وهناك أسطورة، مفادها أنَّ هذه التمثيلية مطلوبة، بسبب تفاهم سري عام 1969 بين زعيمَي البلدين آنذاك، الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ورئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مئير. ومن المفترض أنَّ مائير وعدت بعدم إجراء اختبارات أسلحة نووية، مقابل وعد منه بعدم الضغط على إسرائيل للتوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية أو التخلي عن ترسانتها النووية.
وتكمن مشكلة هذا الاستنتاج، الذي طرحه المؤرخون والمسؤولون بثقة، في أنَّ نيكسون ومائير تحدثا بمفردهما دون وجود مستشارين، ولا حتى وزير الخارجية هنري كيسنجر -الذي كان حاضراً في كل حدث- ولا يوجد شيء مكتوب يوثق ما تحدثا عنه. ومع ذلك، خدعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة المسؤولين الأمريكيين، لقبول التزام مزعوم بالاستمرار في حماية أسلحتهم النووية من الكشف العلني أو الانتقاد.
النووي الإيراني
لكن الأمور تغيرت والمخاطر أصبحت أكبر بكثير مع تحوُّل الانتشار النووي في المنطقة إلى قضية عالمية وتهديد متزايد، وإحجام الإدارة الأمريكية عن الاعتراف بأنَّ إسرائيل تمتلك أسلحة نووية يجعل قدرتها الآن على مناقشة مسألة الانتشار النووي في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، خالية من المصداقية.
وفي هذا السياق جاءت تصريحات وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، السبت 20 فبراير/شباط، تعليقاً على نشر صحيفة الغارديان البريطانية صوراً لإجراء توسعة هائلة في مفاعل ديمونة النووي، والتي سخر فيها من الصمت الأمريكي والأوروبي عن برنامج إسرائيل النووي العسكري.
ففي الوقت الذي تتعرض فيه إيران لعقوبات أمريكية وغربية بسبب برنامجها النووي، الذي تقول طهران إنه لأغراض سلمية ويخضع لرقابة دولية بالفعل، يتم تجاهل مخزون إسرائيل من الأسلحة النووية وتسعى واشنطن لوأد أي تفكير دولي في الضغط على تل أبيب من أجل فتح منشآتها الدولية للتفتيش والانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
وكان مؤتمر مراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لعام 2010 قد صوَّت بالإجماع، على عقد مؤتمر للشرق الأوسط يناقش مشاكل حظر الأسلحة النووية، لكن في اليوم التالي لتصويت المبعوث الأمريكي إلى المؤتمر لصالح المناقشة، استبعد أوباما الفكرة، قائلاً: "وجهة نظرنا هي أنَّ السلام الشامل والدائم والامتثال الكامل من جميع دول المنطقة لالتزاماتها المتعلقة بالحد من التسلح ومنع الانتشار هما من البوادر الأساسية لتأسيس [الحظر]… نحن نعارض بشدةٍ الجهود المبذولة لإفراد إسرائيل بالذكر، وسنعارض الأعمال التي تُعرِّض الأمن القومي لإسرائيل للخطر".
وقد أثَّر هذا البيان في مصداقية التصريحات الأمريكية بشأن الحاجة إلى الحد من انتشار الأسلحة النووية بصورة لافتة، على الرغم مما تحمله تلك المصداقية من أهمية بالغة. وفي هذا الصدد، يبدو أنَّ سلوك المسؤولين الأمريكيين يمتثل لسياسة الغموض الإسرائيلية الشهيرة فيما يتعلق بالأسلحة النووية. لكنَّ هناك فرقاً: إذ يوقِّع رؤساء الولايات المتحدة الخطاب، وتظل الإدارة صامتة. لكن من المفارقات أنَّ الإسرائيليين يجدون سبلاً للتفاخر بأسلحتهم النووية، من دون ذكر كلمة "نووية" صراحةً.
ثالوث نووي إسرائيلي
ويمتلك الإسرائيليون ثالوثاً نووياً خاصاً بهم: صواريخ أرضية ذات رؤوس نووية (من تصميم فرنسي)، وطائرات ذات قدرة نووية (تصميم أمريكي)، وغواصات ألمانية متطورة مسلحة بصواريخ كروز طويلة المدى برؤوس نووية إسرائيلية. وعندما وصلت أحدث إضافة من الغواصات الألمانية إلى أسطولهم في عام 2016، تحدَّث نتنياهو عن الدمار الذي يمكن أن تُلحقه هذه الغواصة بأعداء إسرائيل إذا حاولوا إيذاء الدولة.
لقد وضعت الولايات المتحدة نفسها في موقف سخيف، فإذا أرادت إسرائيل الحفاظ على ترسانتها النووية غامضة -سواء للحفاظ على الأمن القومي أو لأسباب بيروقراطية محلية؛ لتجنُّب التدقيق- فهذا شأنها، لكن قبول الولايات المتحدة للتعتيم على أمور يمكنها الحديث عنها، أو رفض ذلك، أصبح الآن من شأن بايدن.
ربما في فترة من الزمن كان من الممكن أن يؤدي فيها الكشف عن القدرات النووية الإسرائيلية إلى رد فعل سلبي خطير من السوفييت، وربما بمساعدة برامج الأسلحة النووية في الدول العربية، لكن ذلك الوقت قد ولَّى منذ زمن بعيد. وتسعى الولايات المتحدة الآن لمنع إيران من تطوير الموارد اللازمة للحصول على أسلحة نووية. لذا، فإن واشنطن لا يمكنها مناقشة الموضوع بمصداقية أو فعالية دون الاعتراف بأنَّ إسرائيل تمتلك أسلحة نووية أيضاً.
فهل حان الوقت لتحديث تفكير واشنطن؟ فإسرائيل دولة قوية مسلحة نووياً، أقوى من كل جيرانها مجتمعين. إنَّ مصداقية الولايات المتحدة وموقفها في السعي لمنع مزيد من الانتشار النووي إقليمياً، أكثر أهمية من الانغماس في تمثيلية إسرائيل التي تُقوِّض المصالح الأمريكية.