عاش حاجي مراد الداغستاني 60 عاماً قضى أغلبها في مقاومة الاحتلال الروسي لداغستان، وقضى بعضها في مغامرات السلطة المتوزّعة على أمراء ورؤساء قبائل مختلفون في بلاده، وفي إحدى هذه المغامرات الكبيرة فقد حياته.
هكذا جمع حاجي مراد الداغستاني بين النقيضين، فهو القائد المُحنّك الذي أرّق الجيش الإمبراطوري الروسي لسنين طويلة حتى سمّوه "الشيطان الأحمر"، لكنه كذلك دخل في صراعات السلطة مع زملائه المقاومون فحاربهم أحياناً، وتعاون مع الروس.
لكنّ نهاية حياته كانت على يد الروس. فتعالوا نتعرّف على قصّة هذا الرجل المثير الذي يعتبره مواطنوه بطلاً بلا شكّ، والذي احتفظت روسيا برأسه لأكثر من قرنٍ ونصف في متحف كونستكميرا في سانت بطرسبرغ.
داغستان.. "منطقة الوَسَط" التي رغبت فيها روسيا القيصرية بشدة
منحت الطبيعة بلاد داغستان موقعاً مميزاً وطبيعةً جبلية وعرة، وهذه المنحة الطبيعية كانت نقطة قوّتها ضدّ الاستعمار الروسي وكانت في نفس الوقت إحدى نقاط ضعفها.
داغستان دولة صغيرة مقارنةً بالإمبراطوريتين الضخمتين اللتين تحيطان بها من الشرق والشمال الشرقي (روسيا القيصرية) ومن الغرب والشمال الغربي (الإمبراطورية العثمانية). وبطبيعة كون الداغستانيين مسلمين فقد كانوا أقرب للدولة العثمانية من روسيا القيصريّة.
ومن ناحيةٍ أخرى رغبت روسيا القيصرية بشدة في السيطرة على داغستان، فموقعها الجغرافي استراتيجي للغاية، إذ تقع بين بحر قزوين والبحر الأسود. وبطبيعة هذا الموقع فقد كانت تلك المنطقة موقعاً للحروب بين الدول الكبرى.
من يسيطر على داغستان يمكن له أن يسيطر على أجزاء كبيرة من سواحل البحر الأسود وكذلك على جزء مهم من سواحل بحر قزوين، ومن بحر قزوين تصبح الطريق مفتوحة من وإلى آسيا الوسطى والتي لها أهمية خاصة باعتبار وقوعها على طرق التجارة الأساسية بين أوروبا وآسيا.
حاجي مراد الداغستاني.. أحد أبرز قادة المقاومة ضد روسيا القيصرية
بدأت حروب روسيا القيصرية لاحتلال داغستان في بدايات القرن التاسع عشر، ومن هنا بدأت بالطبع المقاومة الداغستانية لروسيا القيصرية، وكان أحد كبار المقاومين هو حاجي مراد الداغستاني. لكنّه لم يكن قائد المقاومة الوحيد، وكان هناك من هو أبرز وأكفأ منه الإمام شامل الداغستاني.
بدأت قيادة الإمام شامل للمقاومة ضد غزو روسيا القيصرية منذ عام 1834، واستمرّت طيلة ربع قرن حتّى عام 1895. وللقراءة أكثر عن الإمام شامل، يمكنك قراءة هذه المادة.
لم تكن المقاومة على جبهةٍ خارجيةٍ فقط (أي روسيا القيصرية) وإنما كان هناك الصراعات الأخرى بين القادة الداغستانيين أنفسهم. ومن هنا كان الصراع بين الإمام شامل ونظيره حاجي مراد الداغستاني.
وُلد حاجي مراد عام 1790 وهو ينتمي إلى قرية تسيلماس، وكطبيعة المحاربين في هذه المناطق كان حاجي مراد فارساً مغواراً، فعُرف بقدراته العسكرية وقدرته العالية على التصويب، فكان "لا يطلق النار على هدفٍ مرتين".
كان قائد المنطقة التي يعيش فيها مراد متفاهماً مع الروس، ولم يُعرف عن مراد نفسه أنه عارض ذلك بشكل مبدئي، وهكذا كان مراد في صفّ الجانب الروسي، وفي لحظةٍ معيّنة اتُّهمه احد منافسيه بارتكابِ جريمةٍ فهرب من الجنود الروس.
كانت عملية هروبه مثيرة كبقيّة حياته، فعندما حاصره الجنود قفز من فوق منحدرٍ صخريّ، وتعرّض لإصاباتٍ بالغة ظلّت آثارها موجودة معه طوال حياته. لكن من كان مجنوناً مثله ليلقي نفسه وراءه من فوق منحدرٍ صخري؟
بعد هربه انضمّ حاجي مراد إلى الإمام شامل الذي أصبح الآن أبرز المقاومين في بلاده للاحتلال الروسي. كانت هذه الشراكة مع الإمام شامل ثرية للغاية، فإضافةً إلى قيادة الإمام شامل الاستثنائية، كانت شجاعة وابتكارات حاجي مراد إضافةً كبيرة.
يقال إنّ حاجي مراد اخترع أساليب جديدة في حروبه ضد الروس. فقد كان يعكس حدوات الخيل، فإذا أراد أحد أن يتتبّع أثره فكان يسير في الطريق المعاكس لأنّ حدوات الخيل معكوسة، وغيرها من التكنيكات العسكرية.
كانت شجاعة وذكاء حاجي مراد استثنائية، ومع قيادة الإمام شامل استطاعا معاً أن يوقعا هزائم عديدة بالجيش الإمبراطوري الروسي، وقد أطلق الروس على حاجي مراد لقب "الشيطان الأحمر".
لكنّ هذه الشراكة المميزة لم تنتهِ على خير، انتهت وانتهت معها حياة حاجي مراد الداغستاني بطريقةٍ ربما لم يكن هو يفضّلها في حياته.
نهاية الشراكة.. حاجي مراد الداغستاني في صفّ الروس مرة أخرى!
بعد شراكةٍ دامت طويلاً، وقع خلافٌ بين الإمام شامل وحاجي مراد، غير معروف بالضبط أسباب هذا الخلاف. لكنّ المعلوم أنّ نجاحات حاجي مراد ربما أثارت بعض الغيرة لدى بعض القادة الذين حول الإمام شامل.
تصاعد الخلاف بين شامل ومراد، فأعلن الإمام شامل ابنه خليفةً له، ويبدو أنّ حاجي مراد رأى نفسها أنسب شخص لتولِّى خلافة الإمام شامل، ويبدو أنّه عارض القرار، فأصدر شامل قراراً يجرّد حاجي مراد من رتبته.
كان ردّ حاجي مراد معروفاً من شخصيته، فقد قال: "الشيء الوحيد الذي أملكه هو سيفي. وليأخذه شامل بنفسه"، في تحدٍّ واضح لقرارات شامل الأخيرة. كان واضحاً أنّ هذه الشراكة انتهت بين القائدين.
هرب حاجي مراد إلى الجانب الوحيد الذي يمكنه الآن أن يساعده، ومع الأسف، عاد للقوات الروسية حليفاً، ومعه أربعة من أصدقائه.
هنا أصدر الإمام شامل قراراً حاسماً: سجن أفراد عائلة مراد. ومن الواضح أنّ هذا القرار كان ضغطاً على مراد ليسلّم نفسه. لكنّ مراد طلب المساعدة من الروس ليحارب الإمام شامل لاستعادة أسرته من السجن. لكنّ الروس لم يعطوه ما أراد، ويبدو أنّهم أرادوا أن يجعلوه تحت أعينهم فقط دون أن يمدُّوه بأي شيء، فغداً سينقلب عليهم كما انقلب عليهم سابقاً.
هنا أدرك حاجي مراد الوضع، فقرّر الهرب، تتبّعه الجنود الروس ومعهم بعض رجال القبائل الذين بينهم وبين مراد صراعات، واستطاعوا قتله في النهاية، وقطع رأسه.
تمّ الاحتفاظ برأس حاجي مراد في روسيا، ونقلت عام 1959 إلى متحف كونستكميرا في سانت بطرسبرغ. وقد قاد أحفاد أسرة حاجي مراد جهوداً كثيرة لاستعادة رأسه لدفنها مع بقايا جثته التي دفنت في شمال أذربيجان.
كانت أولى هذه الجهود في ثلاثينيات القرن السابق لكنّ الاتحاد السوفيتي رفض الطلب، وقد تجدّد الطلب منذ سنتين ويدرس الجانب الروسي ردّ رأسه حاجي مراد الداغستاني إلى موطنه.
والجدير بالذكر أنّ آخر روايات الكاتب والروائي الروسي الشهير ليو تولستوي رواية بعنوان "الحاج مراد" يحكي فيها قصة الحاج مراد ونضال شعبه ضدّ الاحتلال الروسي. وقد كتبت الرواية عام 1904 ونشرت بعد وفاة تولستوي عام 1912.