أثار إعلان الرياض أنها ستوقف التعامل مع الشركات الأجنبية التي تقيم مكاتب إقليمية لها خارج السعودية، أسئلة كثيرة منها: ما الذي يشكله مقر إقليمي؟ وهل بإمكان الشركات إنشاء مقرين في المنطقة؟ وما المقصود بالمنطقة؟ وهل الهدف سحب البساط من تحت أقدام الإمارات؟
ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مصدر سعودي، قوله إن الرياض "عازمة على إيقاف التعاقد مع أي شركة أو مؤسسة تجارية أجنبية لها مقرّ إقليمي بالمنطقة في غير المملكة ابتداء من 1 يناير/كانون الثاني 2024″، وأضاف المصدر أنّ التدبير يشمل "الهيئات والمؤسسات والصناديق التابعة للحكومة أو أياً من أجهزتها".
كما أوضحت الوكالة، نقلاً عن المسؤول الذي لم تكشف هويته، أن التدبير "يأتي تحفيزاً لتطويع أعمال الشركات والمؤسسات الأجنبية التي لها تعاملات مع حكومة المملكة والهيئات والمؤسسات والصناديق التابعة للحكومة أو أي من أجهزتها، وسعياً نحو توفير الوظائف والحدّ من التسرُّب الاقتصادي ورفع كفاءة الإنفاق وضمان أن المنتجات والخدمات الرئيسية التي يتم شراؤها من قِبل الأجهزة الحكومية المختلفة يتم تنفيذها على أرض المملكة وبمحتوى محلّي مناسب".
اشتعال المنافسة مع الإمارات
قرار المملكة جاء في وقت تواجه فيه صعوبات في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية التي تعدّ حجر أساس في "رؤية 2030" التي وضعها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بهدف تنويع موارد الاقتصاد السعودي القائم في معظمه على عائدات النفط، لكن رجال أعمال ومستثمرين وحتى مسؤولين رأوا أن الخطوة السعودية تأتي في سياق التنافس مع الإمارات.
ووصف أحد رجال الأعمال المقيمين بالإمارات، تحدَّث لشبكة CNBC الأمريكية دون الكشف عن هويته؛ لتنفيذه بعض المشاريع التجارية في السعودية، هذه الخطوة بأنها "تستهدف الإمارات بوضوح" و"ضربة" لدبي. وأضاف رجل الأعمال، وهو ممن يمتلكون خبرة واسعة بالمنطقة: "هذا قرار مريع، ومُعادٍ للسوق، والمنافسة، وإرهاب للشركات".
لكن المسؤولين السعوديين لهم رأي مختلف. إذ غرد وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح، بالقول إن القرار "سينعكس إيجاباً في شكل خلق آلاف الوظائف للمواطنين، ونقل الخبرات، وتوطين المعرفة، كما سيسهم في تنمية المحتوى المحلي وجذب مزيد من الاستثمارات للمملكة". وتتطلع الحكومة إلى زيادة حصة المملكة الحالية التي تقل عن 5% من مقار الشركات في المنطقة.
ولم يعلّق المسؤولون الإماراتيون على هذا القرار حتى الآن، لكن المدير العام السابق للدائرة المالية في دبي، ناصر الشيخ، كان لديه ما يقوله للمملكة. إذ كتب الشيخ، مساء الإثنين، على تويتر، أن هذا القرار "يتعارض مع مبدأ السوق الخليجي الموحد". وأضاف: "التجارب العالمية والتاريخ أثبتا أن الجذب القسري غير مستدام، والأجدى هو الارتقاء بالبيئة كما أعلنت المملكة.. وستبهرنا".
كما علق الأكاديمي الإماراتي عبدالخالق عبدالله، على تويتر، معلناً ترحيبه بالمنافسة: "الشركات والمصارف العابرة للقارات والتي تتخذ دبي مقراً منذ 30 سنة، لتدير عملياتها وفروعها في 50 دولة من الهند إلى المغرب ومن تركيا إلى نيجيريا، اختارت دبي دون غيرها، بسبب نوعية الحياة والميزات التنافسية والبيئة التشريعية والاجتماعية والبنية التحتية الفريدة ولن تتركها، رغم ذلك مليون أهلاً بالمنافسة".
هل تستطيع الرياض إغراء الشركات لنقل مقراتها؟
كانت الرياض قد أطلقت من قبلُ مبادرة Invest Saudi أو "استثمِر في السعودية"، المسؤولة عن الترويج للاستثمار بالمملكة، "برنامج مقار الشركات"، الذي يقدم إعفاءات ضريبية مميزة وحوافز أخرى للشركات متعددة الجنسيات. وحرصت كبرى الشركات الأمريكية على إرسال مستشاريها من دبي إلى السعودية بصفة دورية؛ للخروج باستراتيجية حول كيف يمكن أن تنافس مدينة الرياض المحافظة دبي وتحل محلها باعتبارها مركز الأعمال الرائد في المنطقة.
ومن أحدث الأسماء الكبيرة التي أسست حصصاً في المملكة شركات جوجل كلاود وعلي بابا وويسترن يونيون، وخلال مبادرة مستقبل الاستثمار التي تُعقد بالسعودية سنوياً في يناير/كانون الثاني، أعلنت 24 شركة دوليةً عزمها على نقل مكاتبها الرئيسية في المنطقة إلى الرياض، ومن هذه الشركات شركة PepsiCo، وشركة خدمات حقول النفط الفرنسية Schlumberger، وسلسلة المطاعم الكندية للوجبات السريعة Tim Horton's.
وتستثمر الحكومة السعودية 220 مليار دولار في مشاريع تهدف إلى وضع الرياض ضمن أكبر 10 اقتصادات في العالم، وتقدم رواتب تنافسية معفاة من الضرائب للموظفين الراغبين في الانتقال إلى هناك.
لكن هل سيكون هذا كافياً لإغراء المغتربين بالخروج من دبي، حيث يمكنهم الاستمتاع بأسلوب حياةٍ أكثر حرية، قريب من الغرب في عدة أوجه؟ قال أحد رجال الأعمال في دبي، لشبكة CNBC، دون الكشف عن هويته، بسبب قيود مهنية: "أسلوب الحياة في السعودية لا يمكن مقارنته بدبي. فلن تتمتع بالحريات نفسها التي توجد هنا، وهنا يمكنني الذهاب إلى شاطئ عام والتسكع… فدبي مدينة عالمية، والرياض بعيدةٌ كل البعد عن ذلك. فهي تفتقر إلى التنوع الذي تتمتع به دبي. وهذا يمثل مشكلة كبيرة لي".
إذ يشكل الأجانب في دبي غالبية سكانها، أي 90% من سكان الإمارات ككل، ويتجلى نجاح نموذج انفتاح دبي العالمي في الأرقام أيضاً: فوفقاً لقاعدة بيانات التجارة التابعة للأمم المتحدة، تلقت الإمارات عام 2019 استثمارات أجنبية مباشرة تفوق تلك التي تلقتها السعودية بنسبة 300%، رغم أن حجم اقتصادها يقل عن حجم اقتصاد السعودية بمقدار النصف تقريباً.
واحتلت الإمارات المرتبة الـ16 في مؤشر سهولة ممارسة التجارة لعام 2020 الصادر عن البنك الدولي، بينما احتلت السعودية المرتبة الـ63. كما توجد أيضاً مشكلة السمعة، بحسب تقرير الشبكة الأمريكية، إذ يربط كثير من الأجانب بين المملكة وسجل حقوق الإنسان السيئ واضطهاد المرأة.
وقال أحد المغتربين الأمريكيين الذين يعملون في أبوظبي للشبكة الأمريكية: "البلد الذي يكمم أفواه النساء! لا شكراً". وكانت الرياض قد تعرضت لانتقادات جماعات حقوقية وحكومات أجنبية بعد اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018 بقنصلية بلاده في إسطنبول، وسجن العديد من الناشطات المطالبات بقيادة المرأة للسيارت، وغيرهن.
وقال مايك ستيفنز، الخبير في الشؤون الخليجية والباحث بمعهد أبحاث السياسة الخارجية، إن حكومة السعودية "ستتوقف عن العمل لإقناع الشركات بالانتقال"، واصفاً إنذار مقارّ الشركات بأنه "خطوة مثيرة وجريئة من السعوديين تنطوي على مخاطرة كبيرة".
لكن العديد من الوافدين الذين عمِلوا في المملكة، لهم رأي مختلف. يقول أليكس نصر، المستشار الذي يتمتع بسنوات عدة من الخبرة من عمله على مستوى البلاد: "لا شك في أن السعودية ستنافس دبي"، مضيفاً أنها تنافسها بالفعل على صعيد الرواتب.
وقال: "والآن مع رؤية 2030 والتغيرات الجذرية التي تمضي بها البلاد، ستبدأ في تحسين نوعية الحياة… وفور رفع الغطاء عن قيود نمط الحياة، سيبدأ الوافدون في التدفق إليها".
وقرر شين شن، الشريك المؤسس للشركة الاستثمارية "شروق بارتنرز" ومقرها أبوظبي، افتتاح مقر آخر في الرياض، حيث سيضاعف عدد موظفيه. وقال لشبكة CNBC: "الوتيرة والزخم في تحرُّك السعودية مذهلان".
وقال شن، إن الحكومة السعودية "سهَّلت بشكل كبير، إنشاء المكاتب والحصول على التأشيرات" مقارنة بالماضي، مضيفاً أن معظم الشركات المندرجة في حافظة شركة شروق بارتنرز تعمل بالمملكة.
وفي النهاية تظل كثير من الأسئلة المرتبطة بالإعلان السعودي عالقة في انتظار الإجابات، مثل: هل بإمكان الشركات إنشاء مقرَّين في المنطقة؟ أو ببساطةٍ تأسيس مكتب صغير بالرياض يحمل عنوان "المقر الرئيسي" والاحتفاظ بالجزء الأكبر من موظفيها في دبي؟ هل ستكون هناك استثناءات أو ثغرات؟ وما الذي يشمله مصطلح "المنطقة": دول الخليج فقط، أم أبعد من ذلك حتى مصر وشمال إفريقيا وتركيا؟
وقال رايان بول، محلل الشرق الأوسط في شركة استشارات المخاطر "ستراتفور"، للشبكة الأمريكية، إن نهج "العمل في السعودية أولاً"، الذي قد يزيد حدَّة المنافسة مع الإمارات، "سينتهي على الأرجح بعدد لا بأس به من الاستثناءات"، لتيسير الأمر على الشركات، وهذا "بالأخص في الصناعات الاستراتيجية مثل التمويل أو البناء أو الترفيه".