حكايات عميقة ومنتجات للبيع ولهجات مختلفة .. ماذا تعرف عن قطار الغلابة في صعيد مصر؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/15 الساعة 08:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/25 الساعة 12:59 بتوقيت غرينتش

من حين لآخر، يلقي بي حظي الجميل في أحد قطارات الصعيد غير المكيفة. ورغم أنني أعلم أن ركوبي هذه النوعية من القطارات ربما لا يترك ملابسي نظيفة أو قد يؤدي بي لالتواء في الرقبة أو تأخر كبير، فإنني غالباً ما أسعد بهذه التجربة؛ وما ذلك إلا أن هذا النوع من التجارب يعد خبرة مصرية خالصة تُعرِّفُ بملح الأرض من المصريين وكيف يعيشون ويتعايشون ويتصرفون. 

في قطارات الغلابة بالصعيد المصري، تجد مصر متجسدة في شكل الركاب، فالتكنولوجيا واضحة وظاهرة في أجهزة المحمول الذكية التي وصلت لهؤلاء الركاب من بسطاء القطر المصري عبر التكنولوجيا الصينية الرخيصة. الركاب من بسطاء القطر المصري عبر وانتهى، وطعام الغلابة من الطعمية يزاحم الباتيه، والشاي الأصيل قد وجد له غريماً جديداً هو النسكافيه الذي لم يكن الغلابة يسمعون به قبل عقد من الزمان أو يشاهدونه إلا في مسلسلات ولاد الأكابر. 

أما الفاكهة المصرية العريقة والرخيصة مثل البرتقال واليوسفندي والحلويات مثل الكنافة أو البليلة أو الحمص الساخن والعسلية فهي التحلية الرائجة في هذه القطارات. وأكثر البضائع تداولاً في هذه القطارات هي بضائع الصين الرخيصة، مثل الساعات والأحذية والمحافظ والأمشاط والملابس، وأغلبها مقلدة. في هذه القطارات، دون غيرها من قطارات المحروسة، لا يغيب الكرم رغم حضور الفقر والعوز، فلا يأكل أحد غالباً قبل أن يدعوك لمشاركته في "رغيف طعمية" أو ثمرة برتقال أو يلقي بسيجارة عليك حتى ولو كانت الأخيرة لديه. 

عادات المصريين الأصيلة موجودة بقوة في هذه القطارات كذلك، إذ لا يتركك من يجاورك إلا وقد سألك عن كل شيء في حياتك (زواجك، وعدد أولادك، وعملك، ودراستك، وسبب سفرك، ثم التطرق لمشاكلك في الحياة وعاداتك الشخصية… إلخ) كما لو كان معرفة قديمة أو أحد أفراد أسرتك، الأمر الذي يهون من طول المسافة وقد يدخل عليك بعض البهجة. يعكس هذا الحوار فضول المصريين الجميل والسيئ في آن واحد

الضوضاء في قطارات الغلابة هي السمة المميزة؛ إذ لا يتوقف هدير الركاب وصراخهم عند المحطات الكثيرة التي يتوقف عندها القطار، ولا يتوقف ضجيج باعة المأكولات والمشروبات بأصوات تتباين بين الصراخ والعويل، يضاف إليها صراخ الرضع أو صغار الأطفال للفت انتباه ذويهم لهم أو لجوعهم أو عطشهم خاصة في ظل تأثرهم بصراخ الباعة وتسويقهم للوجبات الخفيفة والحلويات والفاكهة. 

قطار الغلابة بيئة مواتية للشحاذين والمعاقين الذين يتاجرون بإعاقتهم، هدير من أصوات تناديك للرأفة بحال من فقد بصره أو ذراعه أو قدمه ومساعدته بشيء مما استطعت، إلا أن نَصْب كثير من هؤلاء ظاهر للعيان ويستطيع تنبيهك له من يستقل هذه القطارات بشكل يومي إذ يجزم بقوله: "أرى هذا الرجل يتسول منذ عشرين سنة، فكيف يستطيع التحرك في هذا الزحام الشديد إذا كان معاقاً بالفعل؟"، قول قد يثني البعض ممن يرق حالهم لهذا أو ذاك المعاق/وربما المدعي عن مساعدته. 

أحب بين الحين والآخر أن أكون على مقربة من هذا المزيج الفريد الذي ينعكس في قطارات الغلابة، لكن إن كنت دارساً للدراسات اللغوية – مثلي، فسيكون أشد ما يعجبك في هذه القطارات – رغم الإرهاق من ركوبها – هو تنوع اللهجات التي تسمعها في مكان واحد، مكان يصلح لجمع بيانات كبيرة في وقت قصير مع عينات لا ترفض الكلام بل تجده ملاذاً للتعبير عن الذات والخيبات أو العذابات، وكلها مجالات رحبة لجمع معلومات وبيانات عن التنوع اللغوي. 

في عربة واحدة، ستسمع شخصاً ينطق الجيم جيماً قاهرية، وجيماً كالفصحى، ودالاً (دلال رادل زين)، بل وكافاً (تشتري ترينك يا باشا؟)، وستجد القاف همزة قاهرية (أوريب أوي)، وجيماً انفجارية (البجية في حياتك)، وكافاً (كلتله ابن اللذينا ما صدكش)، وخاءً (الوختي، دلوخت)، وستجد كذلك ظواهر لغوية أخرى تحتاج مقالات متعددة. 

ورغم التحسن البسيط الملحوظ في خدمات القطارات في مصر في الفترة الأخيرة وقبل البدء في خدمات القطارات فائقة السرعة، نؤكد أن قطارات الغلابة بحاجة لزيادة أعدادها حتى لا يتكدس ركباها فوق بعضهم البعض، وبحاجة لتركيب فلاتر هواء بها لتنقية الهواء بما يضمن صحة الركاب ويقلل من انتشار الأمراض، وبحاجة لمنع التدخين ومراقبة المدخنين وتغريمهم إضافة لمنع بيع السجائر، وبحاجة لتحسين الحمامات.. إلخ. هذه القطارات التي أصبحت ملاذاً للغلابة تنقلهم من مكان لآخر ووسيلة جلب رزق لآخرين بحاجة ماسة لإعادة النظر فيها وتطويرها وجعلها وسيلة صالحة وآمنة يستطيع من يركبها أن يحيا فيها حياة آدمية في هذه الساعات التي يقضيها فيها…  فهل من مجيب؟

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سعودي صادق
كاتب ومترجم مصري
كاتب ومترجم مصري
تحميل المزيد