رد فعل دونالد ترامب بعد تبرئته للمرة الثانية يحمل رسالة واضحة: الرئيس السابق أصبح "رئيس الظل" في الولايات المتحدة، فماذا يعني ذلك بالنسبة لإدارة جو بايدن وبالنسبة لباقي العالم؟
مجلس الشيوخ الأمريكي فشل في إدانة الرئيس السابق بتهمة التحريض على العصيان رغم موافقة 57 سيناتوراً ورفض 43 فقط في التصويت على قرار المحاكمة مساء السبت 13 فبراير/شباط، لكن ينص الدستور على تصويت أغلبية الثلثين في القرار بشأن محاكمة عزل الرئيس، وهو ما كان يتطلب تصويت 67 سيناتوراً بالموافقة، لكن كما كان متوقعاً، فضل غالبية المشرعين الجمهوريين تبرئة ترامب للمرة الثانية.
المحاكمة سببها اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني، وكان الرجل المثير للجدل لا يزال الرئيس، بغرض قلب نتيجة الانتخابات التي خسرها، وكانت جلسة الكونغرس للتصديق على النتيجة النهائية بفوز الرئيس الحالي جو بايدن تتم، وهو ما أدى لعنف وتخريب شاهده العالم أجمع وأدى لسقوط خمسة قتلى وتسبب في إحراج بالغ لصورة الدولة التي تعتبر نفسها المدافع الأول عن الديمقراطية في العالم.
تبرئة ترامب للمرة الثانية، ورغم أنها كانت متوقعة من الأصل بسبب الطبيعة السياسية للمحاكمة في مجلس الشيوخ، أثارت حالة من القلق في المشهد السياسي الأمريكي بشكل عام لأكثر من سبب، ربما أبرزها ما يتوقع أن يمثله ترامب وهو ما عكسته تصريحاته وردود الأفعال عليها في أعقاب تبرئته مباشرة.
ماذا يعني كون ترامب "رئيس الظل"؟
مصطلح "حكومة الظل" يحمل معنيين في اللغة الإنجليزية، المعنى الأول هو حكومة المعارضة كما هو الحال في بريطانيا، فحالياً على سبيل المثال يرأس بوريس جونسون حكومة حزب المحافظين ومقابل تلك الحكومة توجد "حكومة الظل" الخاصة بحزب العمال المعارض ويرأسها حالياً كير ستارمر، إذ ينص النظام السياسي البريطاني على وجود حكومة ظل معارضة مهمتها مراقبة أداء الحكومة وتقديم سياسات بديلة، وتتبدل الأدوار بحسب نتيجة الانتخابات البرلمانية.
أما المعنى الآخر لحكومة الظل فهو معنى تآمري يؤمن أصحابه بوجود "مجموعة من الأشخاص والهيئات" يتخذون القرارات ويوجهون السياسات من وراء ستار وذلك من خلال ممثلين لهم يزرعونهم داخل الوزارات ومراكز اتخاذ القرار وهكذا. وهذه النظرية تظهر أكثر في الأفلام والروايات ونظريات المؤامرة التي يؤمن بها البعض دون أن يكون لها انعكاس معترف به في أرض الواقع.
وفي النظام السياسي الأمريكي لم يكن للمصطلح وجود فعلي، لكن كثيراً من المحللين يعتقدون أن ترامب يخطط بالفعل لأن يصبح "رئيس الظل" وأن هذا هو المخرج الوحيد المقبول لشخص بمواصفات ترامب الجدلية وأبرزها نرجسيته.
فالعودة قليلاً في الزمن لما بعد انتهاء محاولة الانقلاب البرلماني بكارثة محققة، وبعد أن حظر تويتر حساب ترامب أصدر الرئيس وقتها بياناً- من خلال حساب نائب رئيس موظفي البيت الأبيض- قال فيه: "رغم أنني أرفض تماماً نتيجة الانتخابات، فإنه سوف يكون هناك انتقال منظم للسلطة في 20 يناير/كانون الثاني. كما قلت دائماً إننا سنواصل قتالنا لضمان أن الأصوات القانونية فقط هي التي يتم احتسابها. وبينما يمثل هذا (لا أحد يمكنه الجزم بما يقصده ترامب بكلمة هذا في السياق) نهاية أعظم فترة أولى في تاريخ الرئاسة، إلا أنها فقط بداية معركتنا لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
لكن الأحداث الدامية والغضب الهائل الذي اجتاح المشهد في أعقاب أحداث اقتحام الكونغرس ومن ثم البدء في محاكمة ترامب للمرة والثانية وعزله تسببا في ابتعاد إجباري لترامب عن الأضواء حتى تمت تبرئته الثانية، فعاد لإصدار تصريحات أكدت أنه سيكون حاضراً وبقوة، إذ قال: "لقد بدأت للتو حركتنا التاريخية الوطنية الجميلة لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. وفي الشهور المقبلة سيكون لديّ الكثير لأشاركه معكم وأتطلع لمواصلة رحلتنا المذهلة معاً لتحقيق عظمة أمريكا لكل الناس".
ماذا يمكن أن يفعل ترامب كرئيس ظل؟
وحتى تتضح الصورة أكثر بشأن ما قد يعنيه وضع ترامب كرئيس ظل، يمكن أن نتذكر ما قاله أحد أبرز حلفاء الرئيس السابق وأكثرهم ولاءً له حالياً وهو السيناتور ليندسي غراهام: "إنه (ترامب) يتمتع بنفوذ كبير داخل الحزب الجمهوري ولو اعترض على أي شيء يفعله بايدن سيكون من الصعب إقناع الجمهوريين به. ولو أنه بارك أي صفقة من أي نوع سيكون من السهل فعل أي شيء. سيكون رئيس ظل بأساليب كثيرة".
هذا الكلام الذي قاله غراهام يرجع تاريخه إلى 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي وكان وقتها ترامب ما زال رافضاً تماماً الاعتراف بخسارته في الانتخابات لصالح جو بايدن وكان لا يزال يحدوه الأمل أنه سيبقى في البيت الأبيض لفترة ثانية بصورة أو بأخرى. وكان استعمال غراهام لمصطلح "رئيس الظل" لوصف ترامب قد أثار الدهشة وقتها في الأوساط الإعلامية والسياسية بواشنطن.
وترجع تلك الدهشة إلى حقيقة عدم وجود لمثل هذا التوصيف في الحياة السياسية الأمريكية لأن النظام هناك رئاسي وليس برلمانياً ومصطلح "الظل/ المعارضة" يطلق في الأنظمة الديمقراطية البرلمانية، أما في الأنظمة الرئاسية فالرئيس الذي تنتهي رئاسته لا يكون له دور يذكر في المجال السياسي أو الحزبي بشكل عام.
أما في أمريكا فالرئيس الخاسر للانتخابات أو حتى المرشح الرئاسي لا يكون له مكتب بالمعنى المفهوم سياسياً أو حتى صفة رسمية، وبالتالي بمجرد مغادرة الرئيس الأمريكي للبيت الأبيض يصبح مواطناً عادياً بغض النظر عن تمتعه بامتيازات الرؤساء السابقين وهي شرفية ومادية بالأساس.
لكن استعمال غراهام للمصطلح أثار المخاوف من أن ترامب قد يحظى بوضع شبه رسمي في أروقة الحزب الجمهوري تحت زعم أنه "ضحية انتخابات مسروقة"، وهو ما قد يجعله أقوى رئيس سابق منذ عهد ثيودور روزفلت أو حتى أقوى على أساس الطبيعة الشخصية لترامب وخوف أغلب الجمهوريين من معارضته علناً خشية تعرضهم لانتقامه.
هل يمكن أن يؤثر على إدارة بايدن؟
يرى أغلب المراقبين أن هذا أمر وارد للغاية، لكن مدى هذا التأثير على قرارات إدارة بايدن يظل رهناً بمتغيرات متعددة أبرزها ما سيحدث في أروقة الحزب الجمهوري، في ظل موقف ماكونيل المنتقد لترامب بعنف رغم التصويت لصالح تبرئته.
لكن ربما تكون أكثر نقطة تثير القلق هي أن ترامب أصبح على ما يبدو فوق القانون بالفعل، وهو ما يعيد للذاكرة تصريحه الشهير مطلع 2016 عندما كان لا يزال يتنافس مع آخرين للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة، حين قال: "يمكنني أن أقف وسط فيفث أفينيو (شارع شهير في مانهاتن بنيويورك يعتبر من أشهر الأسواق المفتوحة وأغلاها في العالم ودائما ما يكون مزدحما للغاية) وأطلق النار على أي شخص ولن يجعلني هذا أخسر أصوات ناخبين".
معطيات كثيرة إذاً تجعل من فكرة تحول ترامب إلى "رئيس ظل" مدعاة للقلق بالنسبة لإدارة بايدن طوال السنوات الأربع المقبلة، مع وجود احتمال ترشح ترامب للرئاسة مرة أخرى عام 2024 بعد تبرئته إذ لا يوجد مبرر قانوني أو دستوري لمنعه الآن، خصوصاً أن ترامب يمكن أن يفعل أي شيء حتى وإن كان ضاراً بالمصلحة الأمريكية، وهو ما عبر عنه بايدن صراحة عندما قال إنه سيمنع وصول الملخصات الأمنية الاعتيادية التي تصل للرؤساء السابقين من الوصول ليد ترامب.
وفي هذا السياق يأتي إعلان ترامب عن تأسيس "مكتب الرئيس السابق" كنقطة أخرى تضيف للقلق، إذ على الرغم من أن الرؤساء السابقين يؤسسون مكتبا بالفعل يموله دافعي الضرائب وهو أحد الامتيازات للرؤساء السابقين، إلا أن تسمية المكتب الخاص بترامب غير اعتيادية وحذر كثير من المحللين من الكيفية التي يمكن أن يستغله بها.
"لا أحد يعرف ما إذا كان ترامب يعتزم استخدام المكتب لدفع أجندة سياسية معينة أو حزب سياسي، أو على الأقل بعض لجان العمل السياسي. ولست متيقناً تماماً مما إذا كان هذا المكتب يمكن استخدامه لذلك، لأنه ليس من المفترض أن تُستخدم أموال دافعي الضرائب في أي عمل يخص الحملات الدعائية، لأن ذلك يعني تضارباً محتملاً في المصالح"، بحسب ما قاله تود بيلت، مدير برنامج ماجستير الإدارة السياسية في جامعة جورج واشنطن الأمريكية، لموقع بيزنيس إنسايدر الأمريكي قبل أيام.
وكان إنجل، أحد المحللين بمكتب التاريخ الرئاسي الأمريكي، أكثر صراحة وقال للموقع نفسه إن تجربة "رئاسة ترامب تُرينا أن الرئيس بإمكانه العيش بسهولة في المناطق الرمادية ( من القانون) إذا أراد ذلك. وليس لدي شعور بأن ترامب كان لديه في أي وقت من الأوقات اهتمام خاص بالنظرة إليه من الناحية الأخلاقية أو أن يبدو سيئ السلوك".
الخلاصة هنا هي أنه يمكن القول إن ترامب، بعد تبرئته للمرة الثانية، قد عاد للمشهد كرئيس ظل قادر على إرباك المشهد السياسي الأمريكي ومن ثم العالمي أيضاً، رغم أن المشهد نفسه قد تسببت رئاسة ترامب في إرباكه وتغيير معالمه بصورة غير مسبوقة، ويظل مدى احتشاد الجمهوريين حول الرئيس المثير للجدل هو الفيصل فيما قد تشهده الفترة المقبلة.