يبدو أن تأثير دونالد ترامب على الحياة السياسية في أمريكا سيكون أكثر عمقاً مما يتصوره البعض، ورغم أن تبرئته في المحاكمة الثانية في مجلس الشيوخ أمر شبه محسوم، فإن فصيلاً من الحزب الجمهوري رافضاً لتأثير ترامب يسعى لتشكيل حزب ثالث، فما القصة؟
ويشهد مجلس الشيوخ حالياً محاكمة الرئيس السابق بتهمة "التحريض على العصيان" بسبب اقتحام أنصاره الكونغرس الأمريكي يوم 6 يناير/كانون الثاني الماضي بغرض الانقلاب على نتيجة الانتخابات التي خسرها لصالح الرئيس الحالي جو بايدن.
ورغم وفرة الأدلة على الدور التحريضي الذي لعبه ترامب في الاقتحام العنيف الذي خلف خمسة قتلى وعشرات المصابين وعرض حياة المشرعين الأمريكيين لخطر داهم، فإن إدانته تبدو مستبعدة، لأن المحاكمة سياسية بالأساس وتحتاج الإدانة لموافقة 67 سيناتوراً من أعضاء مجلس الشيوخ، وفي ظل انقسام المجلس 50-50 بين الديمقراطيين والجمهوريين وتصويت 44 سيناتوراً جمهورياً في بداية المحاكمة ضد دستوريتها، ستتم تبرئة ترامب للمرة الثانية.
ونشرت مجلة Politico الأمريكية تقريراً بعنوان "ترامب في طريقه للبراءة رغم الأدلة الدامغة"، رصد استراتيجية السيناتور الجمهوري بول راند القائمة على اتفاق المشرعين الجمهوريين على أن محاكمة ترامب غير دستورية، وحتى بعد مقاطع الفيديو الجديدة التي كشفت جانباً مرعباً من أحداث اقتحام الكونغرس لا يزال راند واثقاً من أن 44 سيناتوراً جمهورياً وربما أكثر سيصوتون ضد إدانة ترامب.
لكن يبدو أن احتشاد غالبية الجمهوريين خلف ترامب رغم خسارته الانتخابات وخسارة الحزب الجمهوري الأغلبية في مجلس الشيوخ والنواب أيضاً قد أثارت حفيظة وغضب فصيل من الجمهوريين يضم عشرات المسؤولين السابقين في الحزب فقرروا تشكيل حزب سياسي ثالث يهدف بالأساس للتصدي لما بات يعرف بالترامبية في السياسة الأمريكية.
فكرة الحزب الثالث جاء بها ترامب
اللافت هنا أن فكرة تأسيس حزب ثالث – بخلاف الحزبين الديمقراطي والجمهوري – طرحها ترامب نفسه على بعض المقربين منه في الأيام الأخيرة من رئاسته، وبالتحديد بعد أن انضم 10 نواب جمهوريين في مجلس النواب للديمقراطيين وصوتوا لصالح محاكمته بتهمة "التحريض على العصيان".
إذ أفادت تقارير أوردتها أولاً صحيفة وول ستريت جورنال بأن ترامب تحدَّث في الأيام الأخيرة من رئاسته مع دائرته المقربة بشأن تأسيس حزب سياسي جديد؛ في محاولة منه لمواصلة التأثير في الحياة السياسية الأمريكية بعد أن يغادر البيت الأبيض، وقالت المصادر إنه يريد أن يسمي الحزب الجديد "Patriot Party" أو "الحزب الوطني" أو حزب "المُحب لوطنه".
لكن الأيام التالية وصولاً إلى انطلاق محاكمة ترامب في مجلس الشيوخ الثلاثاء 9 فبراير/شباط تشير إلى أن ترامب قد صرف النظر عن فكرة تأسيس حزب جديد بعد أن ضمن أن تأثيره على الأغلبية داخل الحزب الجمهوري تدعمه بقوة، بغض النظر عن أسباب ذلك الدعم سواء كانت اقتناعاً بمزاعمه عن تزوير الانتخابات أو خوفاً من انتقامه الشخصي.
واليوم الخميس 11 فبراير/شباط نشرت رويترز تقريراً عن قول أربعة أشخاص مطلعين إن العشرات من المسؤولين الجمهوريين السابقين، الذين ينظرون إلى الحزب على أنه غير راغب في مواجهة ترامب ومحاولاته لتقويض الديمقراطية الأمريكية، يجرون محادثات لتشكيل حزب منشق عن يمين الوسط.
ووفقاً للأفراد المطلعين، تشمل مناقشات المرحلة المبكرة جمهوريين منتخبين سابقين ومسؤولين سابقين في الإدارات الجمهورية لرونالد ريجان وجورج بوش الأب وجورج بوش الابن وترامب وسفراء جمهوريين سابقين وخبراء استراتيجيين جمهوريين.
وأجرى أكثر من 120 منهم مكالمة عبر تطبيق زووم يوم الجمعة الماضي لمناقشة المجموعة المنشقة، والتي ستعمل على أساس برنامج من "الأيديولوجية المحافظة الحقة"، بما في ذلك الالتزام بالدستور وسيادة القانون، وهي أفكار يقول المشاركون إن ترامب حطمها.
ويقول الأفراد إن الخطة ستكون الدفع بمرشحين في بعض المنافسات، ولكن أيضاً تأييد مرشحين من يمين الوسط في منافسات أخرى، سواء كانوا جمهوريين أو مستقلين أو ديمقراطيين. وقال إيفان مكمولين، الذي كان كبير مديري السياسات في مؤتمر الجمهوريين بمجلس النواب وخاض الانتخابات كمستقل في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، لرويترز إنه شارك في استضافة مكالمة زووم مع مسؤولين سابقين قلقين بشأن قبضة ترامب على الجمهوريين والتحول الوطني الذي اتخذه الحزب.
وأكد ثلاثة أشخاص آخرين لرويترز الاتصال والمناقشات بشأن حزب منشق محتمل، لكنهم طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، وكان من بين المشاركين في المكالمة جون ميتنيك، المستشار العام لوزارة الأمن الداخلي في عهد ترامب، وعضو الكونغرس الجمهوري السابق تشارلي دنت، وإليزابيث نيومان نائبة رئيس الأركان في وزارة الأمن الداخلي في عهد ترامب، ومايلز تايلور مسؤول سابق آخر في الأمن الداخلي خلال عهد ترامب.
لماذا يريدون مواجهة ترامب؟
هذا التحرك من جانب فصيل من الجمهوريين الرافضين لتأثير ترامب على الحزب والابتعاد عن مبادئه المحافظة يرجعه المحللون إلى هيمنة جماعات اليمين المتطرف والعنصرية البيضاء على الحزب وتوجهاته فيما بات يعرف باسم "الترامبية" نسبة إلى الرئيس السابق.
واللافت هنا أنه في الأيام التالية مباشرة لاقتحام الكونغرس كانت أغلبية المشرعين الجمهوريين غاضبة ومنتقدة لترامب، وعبرت السيناتور الجمهورية عن ولاية ألاسكا ليزا ميركويسكي علناً عن هذا التوجه بقولها "أريده أن يستقيل. أريده أن يغادر. لقد تسبب في أضرار كثيرة"، ولم تكن العضو الوحيد الجمهوري في مجلس الشيوخ الذي تبنى هذا الرأي علناً، إلا أنه مع مرور الأيام بدأت الأصوات المنتقدة لترامب في الخفوت تدريجياً.
وفي هذا السياق يرى مراقبون أن تأثير ترامب على الحزب أكبر وأعمق مما يعتقده كثيرون وينعكس هذا في تصديق غالبية قاعدته الانتخابية لمزاعم تزوير الانتخابات على الرغم من أن أكثر من 60 محكمة أمريكية بدرجاتها المختلفة وصولاً إلى المحكمة العليا قد رفضت دعاوى التزوير لعدم وجود أدلة.
وهذه النقطة تحديداً تسببت في خلاف واسع داخل الحزب الجمهوري، إضافة إلى الاقتحام الدامي لمبنى الكابيتول الأمريكي، ولا يزال معظم الجمهوريين موالين بشدة للرئيس السابق، لكن يبدو أن آخرين يبحثون عن اتجاه جديد للحزب.
وقد كشفت رويترز أن المشاركين في المكالمة أبدوا استياءهم بشكل خاص من حقيقة أن أكثر من نصف الجمهوريين في الكونغرس، ثمانية أعضاء في مجلس الشيوخ و139 نائباً في مجلس النواب، صوتوا لرفض التصديق على فوز بايدن في الانتخابات بعد ساعات فقط من حصار الكابيتول.
كما لمح معظم أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين إلى أنهم لن يدعموا إدانة ترامب في محاكمة مجلس الشيوخ هذا الأسبوع. وقال مكمولين لرويترز: "قطاعات كبيرة من الحزب الجمهوري تعمل على تطرف الديمقراطية الأمريكية وتهددها.. الحزب بحاجة إلى إعادة الالتزام بالحقيقة والعقل والتأسيس للمثل العليا، أو من الواضح أنه يجب أن يكون هناك شيء جديد".