هل كان من قبيل الصدفة أن تشهد المنطقة مصالحة خليجية، يعقبها قطع أشواط في المصالحة الفلسطينية، تتزامن معها انتخابات ليبية تلقى قبول الأطراف المتعارضة في المنطقة، فما سر موجة التسويات بمنطقة الشرق الأوسط، وهل الدافع الوحيد وراءها مجيء بايدن للبيت الأبيض؟
قبل الحديث عن موجة التهدئة والتسويات في منطقة الشرق الأوسط، يجب الانتباه إلى أن المنطقة مرَّت بموجة من التصعيد غير المسبوق في تاريخها الحديث.
فرغم أن منطقة الشرق الأوسط مشهورة دوماً بأزماتها حتى اقترنت كلمة أزمة بالشرق الأوسط فإن العقد الماضي شهد صعوداً غير مسبوق للأزمات في المنطقة حتى أصبحت الدول الهادئة أقل عدداً من البلدان التي تعاني صراعات أو منخرطة بها.
الأمر بدأ مع الربيع العربي
وبدأت موجة الصراعات هذه بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، التي بدأت كثورات رومانسية، تهدف إلى الإطاحة برؤوس الأنظمة مع الإبقاء والتعايش ضمنياً مع أجسامها.
ولكن سرعان ما إن تبيَّن أن الأنظمة ليست مجرد حفنة من القادة الذين يمكن أن يذهبوا للمنفى أو السجن، بل إن بقايا الأنظمة القديمة والأنظمة التي نجت من الربيع العربي كانت لديها خطة مضادة، فدافع نظام الأسد ذو التركيبة الطائفية العميقة عن وجوده بأشرس الأساليب بدعم إيراني روسي، وتآمر فلول نظام مبارك والمؤسسة العسكرية على الثورة المصرية بهدوء، بدعم خليجي، وتكرر السيناريو المصري في ليبيا إلى حد ما ولكن القوى الثورية لم تُهزم كما حدث في مصر.
وإضافة إلى التدخلات الإقليمية ومؤامرات فلول الأنظمة التي قامت عليها الثورات، اشتبكت مكونات الثورات العربية في صراعات داخلية، أو قفزت جماعات متطرفة كـ"داعش" لتحاول ملء الفراغ.
أوباما المُعجب المتفرج
ووقفت إدارة أوباما مُعبِّرة عن إعجابها بثورات العربي كما بدا جلياً في ثورة يناير/كانون الثاني 2011 بمصر، ولكنها لم تُحرِّك ساكناً أمام القوى المضادة لثورات الربيع العربي إلا في ليبيا، حيث وفَّرت الحماية للثوار من أسلحة القذافي ثم توارت.
أما في سوريا فلم تتحرك عندما أرسلت إيران ميليشياتها أو خرق الأسد الخط الأحمر الأمريكي المزعوم باستهدافه المدنيين بالأسلحة الكيماوية، وبطبيعة الحال لم تتدخل عندما أرسل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طائراته لقصف المدن التي تتحصن فيها المعارضة السورية.
أدى الربيع العربي إلى استئساد الأنظمة التي نجت منه والأنظمة التي جاءت بفضل نجاح الثورة المضادة التي وأدته، وبعد هزيمة ثورات الربيع العربي تحوّل الصراع بين المكونات الثورية وقوى الثورة المضادة، إلى صراع بين داعمي الربيع وتحديداً تركيا وقطر وبقايا القوى الثورية (مثلما حدث في ليبيا) ضد الأنظمة التقليدية التي أصبحت أكثر عدوانية.
ترامب ترك الساحة لمحور الثورات المضادة
ثم جاءت إدارة ترامب لتزيد هذه البيئة اشتعالاً، تارة بانسحابها من قضايا الشرق الأوسط أكثر مما فعل أوباما، وزادت الطين بلة، تارة بدعم الدول المتزعمة للثورة المضادة، إما كراهية في الإسلام السياسي أو بسبب الميل الفطري لترامب إلى الاستبداد أو مقابل مكاسب مالية من دول الخليج أو تنازلات غير مسبوقة في القضية الفلسطينية عبر ما سُمِّي بصفقة القرن.
أدى ذلك إلى حصار قطر، وتعرُّض القضية الفلسطينية لخطر التصفية، وهجوم حفتر على طرابلس، وهجوم الأسد على إدلب، والتعاون المصري اليوناني عبر ترسيم الحدود بشكل يمس ما تقول تركيا إنه حقوق لها، رغم تأكيدها أن عرضها للجانب المصري لترسيم الحدود البحرية هو الأفضل بالنسبة له.
لكن الأمر بدأ يتغير حتى قبل أفول ولاية ترامب لم ينته.
كيف ردَّ المحور التركي القطري على خسارته الجولة الأولى؟
بدا أن القوى الداعمة للربيع العربي بعد أن خسرت جولة الربيع العربي، قادرة على الصمود فيما يمكن تسميته معركة ما بعد الربيع العربي خاصة في عام 2020.
فصدَّت تركيا، بالتعاون مع قوى المعارضة السورية، هجوم إدلب المدعوم من روسيا بشكل لم تفعله من قبلُ في ذروة الثورة السورية، وأرسلت طائراتها المسيَّرة لصدِّ هجوم حفتر على طرابلس والذي انتهى بمطاردة قوات حكومة الوفاق لقوات الجنرال المتقاعد حتى تخوم سرت؛ مما أدى إلى صدور تهديد من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالتدخل عسكرياً عبر الحديث عن خط أحمر مصري، يمتد من سرت للجفرة.
وصمدت قطر أمام الحصار، ونجحت عبر علاقتها بتركيا وإيجاد طرق النقل عبر الكويت وعُمان وإيران، في تجاوز انقطاع الإمدادات، بسبب وقف تجارتها وطيرانها عبر السعودية والإمارات، بل كان أداء الاقتصاد القطري في العامين الآخرين أفضل من أي اقتصاد خليجي آخر، وضمن ذلك اقتصاد محاصري الدوحة رغم الجائحة والحصار.
وفي شرق المتوسط، ردَّت تركيا على قيام اليونان بترسيم الحدود البحرية مع مصر في تجاهل لتهدئة أبرمت بوساطة ألمانية، تتضمن عدم اتخاذ خطوات سلبية من الطرفين، فحرَّكت أنقرة سفينتها المخصصة للتنقيب في المناطق المتنازع عليها، وردَّت الصاع صاعين لفرنسا التي ناكفتها في ملف شرق المتوسط وليبيا، فدخلت تركيا معها في منافسة بإفريقيا، وقادت الحملة المضادة على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الرسوم المسيئة للرسول.
لماذا مثَّل فوز بايدن ضغطاً على المحور السعودي الإماراتي المصري أكثر؟
جاء فوز بايدن بالرئاسة ليمثل ضغطاً على جميع الأطراف ولكن بالأخص الدول المحسوبة ضمن صف الثورة المضادة.
وحتى قبل فوز بايدن، غيَّرت إدارة ترامب مسارها في الأزمة الخليجية لتنال إنجازاً أخيراً عبر ضغطها للوصول للمصالحة الخليجية في أيام ترامب الأخيرة، وقد يكون ذلك بسبب مكاسب ذاتية لأعضاء الإدارة إلى جانب رغبتها في تعزيز الحصار على إيران الذي تعده هذه الإدارة إرثها الرئيسي.
ولكن بالنسبة لمصر والإمارات والسعودية، كان مجيء إدارة بايدن ليس معناه فقط، نهاية الضوء الأخضر الذي منحه ترامب لهم في كل القضايا تقريباً، بل يعني أيضاً محاسبة جزئية محتملة على كثير من التصرفات، كما بدا الأمر في حرب اليمن التي أصبح وقفها مسألة ذات أولوية بالنسبة لبايدن مع تزايد غضب الرأي العام الدولي من تداعياتها الإنسانية الكارثية.
كما أن بايدن لا مجال كبير لمساومته وإغرائه من قبل الثلاثي العربي عبر تقديم تنازلات في القضية الفلسطينية (المجال المفضل للتنازلات بالنسبة لكثير من الدول العربية).
مثَّل مجيء إدارة بايدن مشكلة محتملة لتركيا أيضاً، التي تمتع رئيسها رجب طيب أردوغان بعلاقة وثيقة شخصية مع ترامب أعطته بعض حرية الحركة في اتجاه مضاد لمواقف الإدارة المُحابية للثلاثي العربي، بل جعلت ترامب يتحدى الرأي العام الغربي عندما سحب القوات الأمريكية من المناطق التي يسيطر عليها الأكراد بشمال سوريا استجابة لطلب تركيا.
ورغم أن علاقة بايدن بالرئيس التركي رجب طيب ردوغان قيل إنه يشوبها توتر، فإن ميزة موقف تركيا في أنها قد حققت أهدافها إلى حد كبير، والتي كانت تقوية موقفها وموقف حلفائها ومنع انهيارهم وضمان مقاعد لها ولهم على طاولات الحوار والتسوية في أذربيجان وسوريا وليبيا وغيرها من ملفات المنطقة.
كما أن موقع تركيا مهم في أي محاولة أمريكية لتطويق النفوذ الروسي المتزايد في المنطقة وأي محاولة لحل أزمة الملف النووي الإيراني.
وبالتالي كان استمرار الصراع بين المحورين سيكون سبباً إضافياً للضغوط المتوقعة عليهما من قبل إدارة بايدن التي تقدم نفسها كمُصحح لأخطاء ترامب الخارجية، خاصة في مجال حقوق الإنسان والملف النووي الإيراني وترك ساحة الشرق الأوسط لحلفاء أمريكا وروسيا على السواء.
ولكن نظراً لطبيعة الملفات الإشكالية في المنطقة، وتوجهات إدارة بايدن، كانت قوى الثورة المضادة أكثر حساسية من التغيير الذي حدث في البيت الأبيض.
ليس بايدن فقط هو السبب في موجة التسويات بمنطقة الشرق الأوسط
ولكن كان هناك سببان آخران دفعا المحور الإماراتي السعودي المصري إلى قبول منطق التهدئة، إضافة إلى تأثير بايدن وصمود المحور التركي القطري وحلفائه.
الأول هو تضرُّر مواقف أطراف هذا المحور في الصراعات الأخرى مثل إيران، وملف النيل بالنسبة لمصر.
أما السبب الثاني، فهو أن معركة هذا المحور الأخيرة التي لم يحقق فيها نجاحاً يذكر رغم الأموال الضخمة التي ضخها، تختلف عن معركته إبان الربيع العربي.
بالنسبة لمحور الثورة المضادة كانت معركة التصدي للربيع العربي معركة مصيرية، كان يرى أن الهزيمة معناها نهاية الأنظمة التقليدية، أما اليوم فبعد هزيمة ثورات الربيع العربي، فإن معركة قوى الثورة المضادة هي معركة تحقيق مكاسب إضافية والإجهاز على الخصوم مثل القوى الديمقراطية والإسلام السياسي المعتدل، وليست معركة بقاء.
فالواقع أن اليوم لا تتعرض الأنظمة العربية التقليدية، لاسيما مصر والسعودية والإمارات، لأي تحدٍ جدي داخلي، بل على العكس إنها تريد توسيع نفوذها.
يظهر الأمر واضحاً في ليبيا، فلو دخل حفتر طرابلس لقضي على كل المكونات الليبية المعارضة له التي تدعم حكومة الوفاق (وعلى الأغلب كان سيتم تهميش حلفائه أيضاً).
في المقابل، فإن هزيمة حفتر على أبواب طرابلس والانتخابات الأخيرة، أضعفتاه سياسياً أو عسكرياً، ولكن لم تؤدِّ إلى محاكمته مثلاً، ولم تُضع فرصته في العودة للساحة.
فالتراجع الذي حدث للمحور المصري السعودي الإماراتي بالمعركة الأخيرة، كان نكسة في تحقيق المكاسب الإضافية، في المقابل فإن الانتصار الجزئي للمحور المؤيد للديمقراطية والإسلام السياسي مُمثَّلاً في تركيا وقطر وحلفائهما والذي تحقق في عام 2020 بالأساس، كان انتصاراً مكَّنهم من العودة لوضعٍ أقرب للحالة السابقة وضمان موقع متوازن وليس لدرجة تحقيق الهيمنة.
عوض المحور التركي القطري وحلفاؤه جزءاً من خسائره التي لحقت به في السنوات الأخيرة، بينما لم يتمكن المحور السعودي المصري الإماراتي من تحقيق أهدافه التي كانت قد توحشت.
تغيير في استراتيجية المحور التركي القطري
وتحقَّق ذلك بشكل كبير أيضاً من جراء تغير استراتيجية المحور التركي القطري.
فرغم الخسائر التي لحقت بهذا المحور من جراء هزيمة الربيع العربي، فإن السلوك التركي تحديداً ازداد جرأةً وتعلَّم من نجاحات خصومه (مثل إيران وروسيا).
ويعزى جزء من هذا التغير إلى أنه قبل انقلاب 2016، كانت الدولة التركية العميقة تمثل قيداً على سلوك حكومة أردوغان، ولكن بعد فشل الانقلاب والتخلص من العناصر التي يمكن أن تكرر التجربة، أصبح أردوغان أكثر حرية في الحركة.
كما أنه بعد فشل الانقلاب، أصبح أردوغان أقل مراعاةً للغرب والقوى المضادة له بالداخل التركي، وأكثر جرأةً في مواجهة دولة عظمى كروسيا والمنافسين الإقليميين، وهو ما ظهر في إصرار الرئيس التركي على دعم حلفائه ومصالح أنقرة ببعض الخشونة أحياناً، كما استفاد من استثمار حكومته في مجال تكنولوجيا الطائرات المسيرة، وتوظيف خبرات الجيش التركي دون توريطه مباشرة (باستثناء سوريا حيث ينظر اغلب الأتراك إلى تدخل جيشهم باعتباره من صميم حماية أمن البلاد القومي).
أثرت هذه الخشونة على تركيا في بعض المجالات، وتحديداً على الليرة التركية باعتبار أن أي عملةٍ حساسةٌ للأزمات، خاصة لو تسببت هذه الأزمات في إغضاب الغرب والخليج العربي بخزائنهما أو تتضمن هذه الأزمات التلويح بمقاطعة كما حدث مع السعودية بشكل غير رسمي.
ولكن في المقابل، انتصر حلفاء أردوغان أو حسَّنوا مواقفهم في أسوأ الأحوال في نزاعات المنطقة، واكتسبت بلاده سمعة كطرف صلب بالنزاعات، وقادر على التصعيد، وبالتالي حسَّن موقفه التفاوضي.
أما الليرة فإضافة إلى أن انخفاضها ساعد على تعزيز الصادرات التركية وتقليل الواردات، فيمكنها الاستفادة من انخراط تركيا في مرحلة تسوية النزاعات من موقف قوة، لتحسين أدائها وهو ما ظهر في نهاية عام 2020.
كما أن قطر أثبتت مرونة وصلابة في الوقت ذاته في مواجهة الحصار، وقدرة على التغلب عليه ونسج شبكة علاقات مضادة بما فيها مع الإدارة الأمريكية الصديقة للإمارات والسعودية وكذلك فرنسا حليفة الثلاثي العربي وغريمة حليفها التركي.
ونتيجة لكل هذه العوامل، أصبح من الواضح للمحور المصري السعودي الإماراتي أنه يصعب عليه تحصيل مزيد من المكاسب.
وفضَّل كلا المحورين عدم المغامرة باستمرار الصراع، في ظل إدارة متنمرة لحلفاء ترامب وغاضبة من استغلالهما لانعزاليتها، خاصة بعد أن ضمن المحور التركي القطري إنهاء محاولات تهميشه، ومنحه مقاعد على طاولات تسوية أزمات المنطقة من موقف قوة نسبي.