بعد إصابتي بنوبة "مغص كلوي" منذ عدة سنوات، نصحني الطبيب بأن اتناول الكثير من أكواب عصير القصب ومشروبات الشعير بالإضافة إلى مضاعفة أعداد أكواب المياه التي أتجرعها يوميًا، حتى اتفادى الإصابة بنوبة مماثلة. ومنذ ذلك الحين توطدت علاقتي بالنادل الموجود بمحل عصير القصب الواقع أمام محطة المترو التي استقل منها قطاري يوميًا.
كان النادل متأرجحًا بين الشباب والكهولة، من إحدى محافظات الصعيد، وبرغم السمنة فقد بدا جسمانه قويًا. في كل مرة كنا نفتح حوارًا في موضوع مختلف في كل مرة. وفي يوم ذهبت لإجده يتحدث مع شابًا مهندم، كان الحديث عن عملهما في الإمارات العربية المتحدة، لم يعملا سويًا، كل منهما عمل في إمارة مختلفة وفي عمل مختلف وفي زمن مختلف. تحدث النادل عن فترة سجنه هناك بسبب طعنه لكفيله الذي سب أبيه، ومن ثم تطرقنا إلى التعامل القانوني داخل الإمارات فقال لي: "تعرف، لما اتقبض عليا، رفضت إنهم يحققوا إلا في وجود محامي خاص ومندوب من السفارة. أومال، هناك في حقوق. تعرف، كنا في الشركة لما يجي ميعاد الصلاة تسيب شغلنا ونصلي، والمسيحيين كمان، كان في أتوبيس من الشركة بيوديهم لأقرب كنيسة يصلوا هناك ويرجعوا، حتى الكفار (يقصد الهندوس) كانت الشركة بتطلع أتوبيس يوديهم المعبد بتاعهم." لم يكن غاضبًا من ذلك بل كان فخورًا بما يحدث، وأنا منبهر بفخره.
تذكرت ما حدث معي عندما دخلت قسم اللغة العبرية بالجامعة، حينها حذرني الكثيرين من أن يعرف أي شخص غريب بأني أدرس تلك اللغة وألا سأواجه العديد من المشاكل، ولم أكن حينها محتاجًا إلى تحذير فكنت أعمل على إخفاء الكتابات العبرية المرسموة على أغلفة كتبي خلال ذهابي وإيابي. لكن، وفي مرة، فقدت حذري عندما كنت شاردًا في الحافلة لأجد من يسألني "عبري دا ياكابتن؟!" فرددت بالإيجاب وأنا أتوجس من ردة فعله، كان، شابًا بسيطًا في مظهره وبدا ليه إنه في عقده الثالث. لكن ما حدث بدلًا من غضبه المتوقع، قال لي "ذاكر كويس عشان تسافر هناك، الشغل هناك احسن من هنا"، أخرسني رده فلم أتناقش معه.
في مرة أخرى، بعد عامين من ذلك الموقف، كنت عائدًا من الجامعة متأخرًا وكان معي صحيفة إسرائيلية أخفيها بين اوراقي كالمعتاد حتى لا يلحظها أحد. وفي لحظة ما، مال رأسي إلى الوراء من الإرهاق وأُرْخيَت قبضتي على الأوراق والصحيفة قليلًا، لأجد من يقول "إيه دا! إسرائيلي دا!"، فانتبهت مذعورًا. لأجده يهدأ من روعي ويقول: "من كام سنة كنت شغال في طابا مع إسرائيليين، ياااه كانت أيام" ثم أردف قائلًا: "ممكن اشوف الجرنان دا؟!" فناولته الصحيفة وبدأ يقلب في أوراقها، لم يكن يقرأ شيئًا، وكان واضحًا لي إنه لا يعرف العبرية. لكن عينيه كانت تقرأ ماضي قريب اشتاق له.
ماحدث هنا، يتناقض مع ما قاله ناشط سياسي عندما أخبرته عن وفاة الكاتب المصري الكبير "علي سالم"، حيث قال: "مش دا بتاع التطبيع!". أيضًا تنافى مع ماحدث لي عندما كنت في تجمعًا طلابيًا ضم طلابًا من العديد من الكليات. في تلك الفترة بدأت عملي بالصحافةن يومها كان ينبغي أن انتهي من ترجمة مقالا من العبرية إلى العربية، وخلال الاستراحة شرعت في الترجمة. حينها سألني طالبًا "عبري دا؟" فأجبت أن نعم. فسألني "على كده اللي بيدرسولكوا يهود؟!"، فقلت له إن جميع من يقومون بالتدريس في القسم مسلمون، ليأتي بعده السؤال الصادم: "هو انت بتدرس عبري عشان انت مسيحي؟!" هنا ثارت ثائرة طالبًا آخر، وسط صمت بقية الطلبة، رافضًا ما يلمح إليه السائل. لكني، ولأني لم أشأ أن يمر الموقف دون إيضاحًا للسائل يسمعه الباقون، علهم يعرفون بعض الحقائق من كلامي، شرحت له الكثير عن الفوارق بين اليهود والمسيحيين، وبين اليهودية والصهيونية، وعن اللغة التي نرتل بها في الكنائس.
تجمعت تلك المواقف جميعها في ذهني، في الثلاث مواقف الأولى، كان الأشخاص لديهم الاستعداد لتقابل أمور من المفترض إنها تزعجهم، على الأقل هذا ما يتم الترويج عنه. لكن في الموقفين الآخرين، وجدت الانزعاج الذي كان ينبغي أن أراه في الثلاث مواقف الاولى. في الثلاث مواقف الأولى، كان من الواضح أنهم لم يتعاملوا من خلال أحكام مسبقة، فكانت ردود أفعالهم عن الموقف الحقيقي الحادث، فافتخر الأول بالحقوق التي تعطى لجميع الناس سواسية دون النظر إلى أي شوفينية دينية، وتحدث الثاني والثالث عن العمل مع أبناء دولة خضنا معها حروب عدة، متجاهلين الدعوات بأبدية الصراع معهم.
أما في حالة الناشط السياسي والطالب الجامعي، فقد فضلوا التعامل من خلال نتائج مسبقة، فقد محى الاول تاريخ كاتب كبير تنبأ وعالج العديد من المشاكل من خلال كتاباته، بل نبش بقلمه أيضًا باحثًا عن الأسباب الحقيقية لنكستنا في الحرب مع الدولة الذي زارتها بعد إعلان السلام معها، بينما وضع الآخر المسيحيين واليهود في كفة واحدة، ربما يعود ذلك لتأثره بدعايا الإسلام السياسي الذي يرى في كل ماهو غير مسلم كافرًا.
كل لك وجدته عندما عدت إلى المنزل وفتشت بين كتبي لأجد كتاب "التأمل" لكريشنا مورتي ثم العديد من كتب أوشو وباتري، هؤلاء الفلاسفة تحدثوا عن مغبة التعامل مع الحياة بأفكار وأحكام مسبقة، إذ لا نرى الواقع حينها بل نرى فقط أراءنا. تلك الفلسفة فطن إليها هؤلاء البسطاء في أطر عملية بحتة من دون دراسات نظرية. قلت لنفسي "ربما مشاهدتهم للواقع العملي، من دون الآلة الإعلامية لكل الجبهات السياسية التي دائمًا ما تتحدث عن أفكار تحيا فقط في نطرياتهم وأحاكمهم المعدة سلفًا".
لم أرد أن اتجه إلى فريق القائلين بإسكات الإعلام والأقلام ليرتاح الوطن، ولن أؤيد ذلك في أي يومًا من الأيام، بل على العكس من هذا. وددت لو استطعت فرض القراءة والبحث على الجميع، وبخاصة كتب الفلسفة، فقد تعلمت من خلالها كيف أن نحلل المصطلح والفكرة أولا والتي من خلالها تعلمت أن أضع كل شيء في مكانه الصحيح، كما فعل صديقي النادل، فأن يذهب الهندوس إلى معبدهم –بالجوار- للصلاة ليس إثمًا، بل حقًا لهم بصفتهم شركاء في الإنسانية. تذكرت كيف نعتهم بالكفار، فكرت في إنه من المحتمل أن النادل لم يعرف مطلقًا اسم ديانتهم، أو ربما عرفه لكنه لم يحسن نطقه فنساه، لكن، ما أوقفني، هو أن نعته إياهم بالكفار لم يشعره بالإنزعاج لوجدهم بجواره وحصولهم على حقوقهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.