يتعاطى الناس مع القبض على –إن جاز أن نسميهم- صُناع المحتوى، كمسلسل أدمنوا حلقاته، جرعات من تزجية الوقت بما لا ينفع، تسلية، ونظرة فوقية تشعرهم بأنهم لا يجمعهم شيء بهؤلاء. ثمة تحول خطير في المحتوى البصري المصري على مواقع التواصل الاجتماعي، وُجد في السابق لكنه الآن أوضح من أن تخطئه النظرة العابرة: لم يعد يكفي قول بأن تلك قلة خارجة عن المألوف، أو يجب إسكاتهم لكي لا يفسد المجتمع. هذا لأن فتح صندوق الباندورا ملائم لمجتمع "دون كيشوت"، يطارد طواحين الهواء ليستر عجزه عن الظروف والأوضاع المعيشية السيئة.
سيخرج الساحر حيلته للإلهاء، ورقة رابحة تدغدغ مشاعر العامة، وهي الفضيلة والشرف. إن العالم الخارجي مليء بالأحداث التي يُفضل البعض تجنب التفكير فيها ليبقي العقل في منطقة الراحة، بعيداً عن الفوضى الداخلية لمحاولة الإدراك. يلجأ لركن آمن خارج التفاصيل المرهقة للحياة والقضايا الشخصية المؤجلة. ينتظر ورقة إلهاء جديدة؛ فالغضب والكبت جراء القرارات الشخصية الخاطئة أو الوضع الذي تعجز عن تغييره، يحتاج لمسكن مستمر.
يجتمع الناس في غرفة واحدة، ليس أمامهم سوى ثقب ضيق ينظرون منه جميعاً للعالم، يسلمون بصوت واحد بأن المشكلة تتعلق بأفراد بعينهم، محتواهم الخالي من الإبداع والقواعد الأساسية للفن سبب فساد الذوق. بذلك، يتوجه صاحب تلك الرؤية لمنطقة الراحة، تقضي بنبذ من يرى فيهم قبحاً فجاً، إخراجهم من المعادلة الاجتماعية قسراً؛ لكي لا يرهق نفسه بالبحث عن السبب لتلك الظاهرة. كأن زمام الانحطاط والتدني أمسك بها قلة أرادت تشويه الواقع وربطه على أعناق الجميع، ولم يكن موجوداً من قبل، يرتديه صانع المحتوى الرديء وناقده أيضاً.
في عالمنا تحاصرنا نماذج استفادت وما زالت تشيد واقعها على خداع المجتمع، والتعاطي معها يشجعها على تقديم المزيد. واقع أشبه برواية المحاكمة لكافكا، حيث "ك" هو المتهم والقاضي، وخوفه يبقيه سجيناً داخل عالمه الداخلي المظلم. يغضب الناس من المشاهد الإباحية، والبلاهة، لكنهم بعيدون عن البحث داخل التفاصيل لبيان الأسباب التي جعلت هؤلاء يلجأون لإنتاج هذا القبح. يفضل خلق شيطان واحد يتحمل مسؤولية الشر كله، بدلاً من النظر لعلاقة الواقع الاجتماعي والاقتصادي وجذور الفكر التي غذت الثمرة الفاسدة؛ إذ نكتفي بالصراخ أمامها فقط.
إن الحقيقة بالنسبة لمن يخشى مواجهتها كالسكاكين، يشيحون النظر عنها لأنها ستحرقهم؛ لأنهم جزء منها. والسلام النفسي يتحقق عبر تكريس الحياة للمطالبة بسجن هذا وذاك، وعملية التفكير مرهقة لمن يريد البقاء داخل منطقة الراحة تلك، عبر تحقيق انتصارات هزلية في معارك وهمية مع شيطان مختلق.
ثمة في الخارج كآبة موحشة، بؤس مستمر يجعل الناس كالمحكومين بالأعداء، جربت أن تنتقد وتسب وتثور وتلعن حين يقدم أبناء طبقة اجتماعية مهمشة محتوى شبه جنسي، لكن لم تجرب أن تشعر بممارسة الجنس مع الفقر. الذي ينتج ذرية الجهل، ويتراكم جيلاً فجيل حتى أصبح التشوه مفتاح أبواب الشهرة والمال المغلقة، التي يصعب تحقيقها دون الانحطاط.
يسعى صانع الرداءة للشهرة، عرف الخلطة الواضحة كالشمس، لعب على اصطياد غضب الناس، وتقديم مسخ مضمون أن الفضول سيدفع الكثيرين لمشاهدته، وسيدفعهم للسخرية منه ونشره على نطاق واسع. النموذج المعد مسبقاً، نجح كالعادة. وإبعاد كل يد تقدم علاجاً للتشوهات الاجتماعية.
عند نبذ المختلف الذي يبحث في تجربته عن المثل التي تتجاوز الاهتمامات الضيقة والمبتذلة، فلا نتيجة أخرى إلا تكاثر القبح. وهذا ما حدث عند تقيد الإبداع الفردي للبعض، فانتشر التشوه الوبائي في المحتوى.
إن طموح الإنسان في الترقي الاجتماعي جعل البعض ينسخون ملابس العصر الرديئة، خشية الثبات والموت في عالم دائم الحركة. ومثلما شاع نمط استثمار شحيح الإنتاجية، قد يكون معدوماً كالمضاربة في الأراضي والمساكن خلال التحول الاجتماعي الذي حدث في السبعينات، هناك تحول آخر يتعلق بـ"الشطارة أو الفهلوة" هو الاستثمار في الانحطاط. ولا يتطلب مستوى تعليمياً وخبرة معينة، ويقدم فرصة لإشباع الرغبات، التي تتشكل من طبيعة المجتمع المنافق، وليست ظاهرة منفصلة، كما يود البعض تصديرها بهذا الشكل. إن هؤلاء ليسوا ضحايا بالمعنى الحرفي، لكنهم صورة للمثل الإفريقي "الضرس المتعفن يؤذي الفك كله". فهم نتاج للواقع وليسوا مسؤولين عن فساده، ولست منوطاً بمحاولة تبرئتهم أو خلق تبريرات لأفعالهم، بل الهدف وضعهم في صورة شاملة للفك المُتعفن.
الفن هو وحدة قياس المجتمع، وينبغي عدم الخلط بين الفن كجهد فكري يحارب نمطية الحياة، يصنعه إنسان برؤية أشمل، وإحساس صادق لكوامن الأمور، يحمل ضمير البشر في مواجهة العالم. وبين ما يُقدم من أشخاص لا أود ذكر أسمائهم؛ لننظر لوضعهم كحالة عامة وليست استثنائية. نحن عاجزون عن تغيير شيء ما دام بعيداً عن أيدينا، وليس لدينا القدرة على انتزاع حقيقته كما هي لنحدث فيه ما نريد من معالجة وتغيير، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر. وما دمنا مستمرين في معاملة المحتوى السيِّئ، الذي يصدر الدعارة والسخف على أنه ظاهرة فردية، تخص أشخاصاً بعينهم. بذلك، ننفصل عن الواقع الاجتماعي والصورة العامة للمشهد حولنا، ولن نمسك بحقيقة تعين على التصدي للرداءة التي تبتلعنا.
حين تنخفض قيمة المعرفة والتعلم، ويغيب السعي نحو تنمية العقل الفردي؛ فيكتفي المرء بنظرة أحادية البعد، فقيرة، وخالية من المعنى والأساس السليم للتفكير وحتى العاطفة. يختفي النموذج النقدي والمهارة الفكرية، ويكتفي الفرد بالبحث عن مجموعة ينتمي لها، يردد حديثها كجهاز التسجيل وأساليبها على العيش كفصائل الحيوانات في الغابة. يقبلون الشكل الحالي للمحتوى أو للحياة بشكل عام دون النظر للصواب والخطأ. دون معيار ذاتي للأخلاق بعيد عن المجموعة، يكفل الاستقلالية والقدرة على الالتزام بمبادئ مفردة. في تلك الحالة، يمكن النظر لمجموعة كبيرة من المجتمع على أنهم "فرد رديء"، يفتقر لفردية واستقلالية تميزه عن المجتمع حوله. أو على حد تعبير عالم النفس، كارل يونغ، يعيش كحيوان قطيع، ليس لديه سمات نفسية خاصة به تميّزه عن الآخرين. يتحد هؤلاء ويتماهون مع النظرة الأقرب لواقعهم الاجتماعي ونشأتهم وأخلاقهم التي اكتسبوها من المحيط الاجتماعي.
يمثل العالم سجناً طوعياً، أفراده محكومون بالعمل المؤبد، تائهون في متاهة المينوتور؛ حيث ينتظرهم الوحش الإغريقي ليفتك بهم. إلا أن الرعب في حالة المجتمع الحديث أشد، والمفترس شبح ملازم للإنسان منذ ولادته. لا يواجهه الخطر من الخارج، ليس كتلة مادية، بقدر ما ترتبط به كل الأشياء المادية حولنا. يحدث بالداخل، نَهِم للشهرة، المال؛ طريق مضيء للخروج من المتاهة. وجد صناع المحتوى الرديء فرصة للترقي السريع وتحقيق ثروة صعبة المنال دون تلك الأساليب، اختاروا تقديم سلعة هضمها المجتمع واعتاد مذاقها. وكل حين، ينال بعض التافهين الشغل الشاغل لأم الدنيا، يعيشون وينمون في حديث الناس وبرامج التوك شو ولم يدرك المجتمع رغم تكرار العملية، أنهم الجزرة التي يسيرون خلفها.
لا يلقى المحتوى الرديء رفضاً اجتماعياً، بل يتغذى عليه ويكبر بامتصاص أكبر قدر كل فترة. التجاهل غير وارد والمقاومة بمحاولة تقديم محتوى إبداعي مقبول تلقى التجاهل مقابل الركض خلف القبح الآخر لانتقاده. إن المحتوى البصري المقدم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي جزء من الفن الذي يفرزه المجتمع؛ فالثقافة العامة هي المكون لتلك الفيديوهات، والغضب منها طريقة لا إرادية لتجاهل مرارة الواقع، والشكوى بعيدة عن المكان الصحيح، وتخرج في وجه شخص أضعف من المقاومة، يمكن للمجتمع الضعيف ممارسة سلطته والشعور بأفضليته عليه. بعكس عجزه العام في الحياة. الأيام القاسية تضع صخرة في جوف الإنسان؛ فلا يجد ملاذاً إلا استعراض العضلات على جزء لا يشكل خطراً بفعل، لأنه بعبارة واضحة، رد فعل تشبع بالانحطاط العام. ويساعده على استمرار تلبس أجساد جديدة، جراء مجتمع يفضل دائماً عبثاً أن يختبئ من الحر خلف الشمس.في نهاية مسرحية "الكاتب والشحاذ" لعلي سالم، يصرخ نور الشريف بالكاتب الصحفي الذي باع قلمه "إننا جميعاً مستعدون للتضحية بكل ما نملك وأن نفعل أي شيء.. فقط أخبرونا بما تحتاجه مصر بدلاً من أن ترددوا على أسماعنا عبارات الاستسلام". تلك العبارات حالياً ترى الواقع بنظرة ضيقة، تشيح بنظرها عن التجهيل المتعمد، والظروف الاقتصادية، ونزوع الإنسان لتقليد الانحطاط ما دام سيحقق من ذلك شهرة ومالاً. عبارات الاستسلام تجعل الفعل وإن تكرر كثيراً يعامل كحدث فردي، لكن الأفضل أن ننظر له لبعض الوقت كوباء طال المجتمع كله، قد يكشف البحث خلف تلك الرؤية وجه المفسد الحقيقي، ووجه من ساهم أيضاً في انتشار المحتوى الرديء، الذي لن يكون بعيداً، ووارد أن تراه في المرآة أو في أحد المؤتمرات الشبابية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.