كان نرسيس شاباً شديد الوسامة، حتى إن جميع النساء كانت تقع في حبه، وهو لا يأبه لمعاناتهن، بل يعاملهن بجفاء، إلى أن تلقى أسوأ عقاب.
حسب الميثولوجيا الإغريقية، قررت الآلهة معاقبة نرسيس بأن جعلته يرى صورة نفسه في البحيرة ليقع في حب هذه الصورة دون أن يدري أنه وقع في حب نفسه، وعندما اكتشف الأمر أصابه الارتباك وانتحر.
ومن اسم هذه الشخصية الأسطورية جاء مصطلح النرجسية.
فما النرجسية في الطب النفسي الآن؟ وكيف يمكننا التعرف إلى الشخصيات النرجسية من حولنا؟ وهل يمكننا التعامل معها دون مشكلات؟
سنجيب عن هذه الأسئلة في هذا التقرير.
حب كبير للذات يتضخم ليصبح مشكلة نفسية

تعني النرجسية في موروثنا الشعبي حب الذات والغرور، الذي يعمي الفرد عن عيوبه ونقائصه، إذ يرى المرء نفسه كاملاً في كل شيء، دون الوعي بحقيقته التي قد تكون معاكسة.
أما في الطب النفسي فهناك مصطلح اضطراب الشخصية النرجسية، الذي يُعرف بـ(NPD) اختصاراً لـ Narcissistic personality disorder.
ويعرّف الطب النفسي اضطراب الشخصية النرجسية بأنه حالة عشق مع صورة مضخمة ومثالية عن الذات.
فتش عن الماضي والبيئة لتعرف أسبابها
أسباب الإصابة بالنرجسية ربما تعود جذورها إلى الصغر والبيئة التي نشأ بها الطفل، حسب المختصين، خاصة العلاقة غير المتماثلة بين الوالدين والطفل، وكذلك المحبة الزائدة، أو النقد الدائم.
وعندما يسيء أحد الوالدين للطفل، يبدأ الأخير بمحاولة فصل فكرة الأذى الناتج من أحد الوالدين أو كلاهما، في محاولة للإبقاء على مشاعر جيدة لهم.
ففي هذه الحالة يحتفظ الطفل بحبه للوالدين لكنه في الوقت ذاته يرغب في تدميرهما والانتقام لنفسه، وهو ما قد يفعله في الكبر فيمن حوله.
والذكور أكثر تعرضاً لها خاصة المراهقين
وتظهر النرجسية بنسبة عالية بين الذكور مقارنة بالإناث، خاصةً بين الأطفال الضعفاء جسدياً، ويصابون بها بدءاً من مرحلة المراهقة، أو فترة البلوغ المبكر.
كما قد تظهر الصفات النرجسية في بعض الأطفال لكنه أمر طبيعي نظراً لسنهم الصغيرة، وليس مؤشراً أكيداً لأن يصبح اعتلالاً في الكبر.
الوراثة أيضاً قد تكون عاملاً للإصابة، كذلك البيولوجيا العصبية، فالعلاقة بين الدماغ والتفكير وتطويره إلى سلوك، ربما تطور من النرجسية لتصبح اضطراباً.
ومع ذلك يؤكد العلماء أن سبب الإصابة بالنرجسية غير معروف يقيناً، فقد يصبح الشخص نرجسياً دون وجود الأسباب التي ذكرناها سابقاً فكل ما سبق عوامل مساعدة فقط.
وعلى عكس ما قد يكون متوقعا.. مشاعر الضعف والخوف قد تكون الدافع للنرجسية
يعزو المختصون إصابة بعض الأفراد بالنرجسية إلى شعورهم بالخوف وعدم الأمان مع العالم من حولهم، فيلجأون لحب هذه الصورة المصابة بالنرجسية عن أنفسهم لإخفاء المشاعر المسيئة داخلهم.
لذلك تزيد متطلبات المصابين باضطراب الشخصية النرجسية في علاقاتهم الاجتماعية دوناً عن غيرهم، فهم يشعرون بهوس دائم للإعجاب بهم، ويجدون صعوبة في التعاطف مع من حولهم، بالإضافة للغرور، والأنانية، وكراهيتهم الشديدة للنقد، والاختلاف مع آرائهم.
دون أن تصطحبه للعيادة النفسية أو إلقاء الاتهامات جزافاً.. هكذا يمكنك اكتشاف الشخصية النرجسية

المعالجون النفسيون يشخصون النرجسية في العيادة النفسية إذا انطبق على الشخص الخاضع للفحص 55% فقط من اختبار النرجسية.
بالطبع بالنسبة للإنسان الأمر العادي من صعب أَن يذهب بالشخص الذي يشك أنه نرجسي لعيادة نفسية.
ولذا فإن القليل من التركيز ورصد صفات الشخص الذي تشك في أنه مصاب بالنرجسية قد يفي بالغرض.
كلكم أدوات ضمن نظامي ولكنكم في الوقت ذاته مسؤولون عن أي خطأ
تستطيع معرفة الأشخاص النرجسيين من خلال عدة صفات تبدو واضحة للغاية، أهمها حاجتهم الشديدة للتحكم في الآخرين؛ إذ يرى النرجسي أنه الأجدر بالسيطرة على من حوله.
فهو يرى نفسه الأفضل في كل شيء، وما الجميع سوى أدوات يجب أن تقوم بأدوار محددة، ضمن نظام يضعه هو بنفسه، ولا يجب خرقه أو تعديله، حسب وجهة نظره.
وعلى الرغم من ذلك؛ لا يشعر النرجسي بأنه المسؤول حين تسوء الأمور، ما يجعل إلقاء اللوم على الآخرين صفتهم التالية التي تسهل اكتشافهم.
لا يوجد من هو أكثر مني حزناً.. فقاعة من الكآبة لها غرض
يعيش النرجسي في فقاعة كبيرة مليئة بوهم أنه الأجدر بالتفهم، والحب، والاهتمام.
فهو يعتقد أنه الأكثر كآبة، وحزناً، واضطراباً، دون غيره من الناس، وهو يظهر هذه الصورة لاعتقاده الداخلي بأنه لا يستحق الحب دون سبب؛ فيلجأ لهذه الأسباب لدعم ذاته والحصول على الانتباه، والدعم، والأمان ممن حوله.
ولكن ليس هذا فقط بل لا يتعاطفون مع غيرهم، ولا يظهرون الشفقة والدعم لمن في محيطهم.
يضاف إلى ذلك، رفضهم للفشل والنقد، فهم ينشدون الكمال في كل شيء، دون الالتفات لطبيعتنا البشرية التي قد تخطأ وتصيب في أمور الحياة المختلفة.
كما يمكنك اكتشاف الشخص النرجسي حتى من حاجبيه والعهدة على دراسة جديدة

قد يكون هناك طريقة أخرى أكثر سهولة تساعدك على اكتشاف الصفات النرجسية، فمؤخراً ذكرت دراسة أن أصحاب الشخصيات النرجسية لها بعض الصفات الظاهرية التي يسهل رصدها.
الدراسة التي نشرت في Journal of Personality أجريت على 39 طالباً جامعياً، حيث تم تقييم مدى نرجسية شخصياتهم من قبل مختصين، قبل أن يطلب من 28 شخصاً آخرين تقييم نرجسية هؤلاء الطلاب اعتماداً على شكل وجوههم فقط.
وأظهرت النتائج أن الشخصيات النرجسية وفق تقييم المختصين، حققت أيضاً أرقاماً عالية للنرجسية بحسب رصد الأفراد العاديين لشكل الوجه فقط.
وطلب الباحثون مرة أخرى من المجموعة ذاتها تقييم نرجسية الطلاب، لكن هذه المرة تبعاً لشكل الجزء العلوي من الوجه فقط، وكانت اختيارتهم متماثلة مع نتائج المختصين.
الدراسة تصف حاجبي الشخصية النرجسية بالسُمك والكثافة والشكل مميز، والتي تسميهم الدراسة ذوو شخصية تصنف بالنرجسية الفخمة.
التفسير الذي قدم للعلاقة بين هذا الشكل للحاجب والشخصية النرجسية جاء من "ميراندا جياكومين"، التي شاركت في إنشاء الدراسة، في حوار مع صحيفة "Independent"، البريطانية.
إذ قالت إن النرجسيين يميلون للإبقاء على حواجبهم الكثيفة لتعزيز تميزهم واختلافهم، ما يزيد من احتمالية تذكر الناس لهم، وبالتالي زيادة نظرتهم المثالية لأنفسهم لأن الناس يحبونهم ويتذكرونهم.
قليل من النرجسية لا تضر، ولكن انتبه هناك نوعان منها.. وهذه الفروق بينهما

يعتقد علماء النفس أننا جميعاً نرجسيون بطريقة أو بأخرى، نحب ذواتنا لدرجةٍ ما، ولكن يجب علينا التفرقة بين تقدير الذات الطبيعي المهم لصحتنا النفسية، وبين تفخيمها الذي يؤدي للنرجسية المرضية، التي بدورها تنقسم إلى نوعين: نرجسية ضعيفة، ونرجسية فخمة.
النرجسيون الضعفاء يعرفون أن دواخلهم هشة وضعيفة، وأن نرجسيتهم ما هي إلا غطاء لإخفاء مشاعرهم نحو أنفسهم.
أما أصحاب النرجسية الفخمة يؤمنون بأنهم الأفضل والأعظم عن استحقاق، وغالباً ما يكونون كذلك بالفعل، ويقترن النوعان بغياب مشاعر التعاطف، وكلاهما يعد اعتلالاً نفسياً.
للتعايش معهم عليك أولاً تحديد نوع الشخصية النرجسية التي تواجهها
يجب إدراك نوع النرجسية للشخصية التي نتعامل معها أولاً ليسهل إيجاد حلول مثمرة، ويصبح التعامل معها مريحاً دون خسائر نفسية، حسبما يشير المختصون.
ويؤكد "فينسنت إيغان"، عالم النفس في جامعة نوتنغهام البريطانية، في دراسة أجريت عام 2014، أن أصحاب النرجسية الفخمة يكونون أكثر سعادة واتزاناً فهم يميلون للاستقرار العاطفي والنجاح المهني.
أما أصحاب الشخصية النرجسية الضعيفة تزيد لديهم نسبة الاعتلال النفسي والرغبة في التلاعب بالآخرين، لذا ينضم النرجسيون الأكثر نجاحاً وفخراً بإنجازاتهم -التي تراها حقاً على أرض الواقع- للنوع الأول ويسهل معرفتهم من خلال ذلك.
ويبدأ طريق التعايش مع الشخصية النرجسية -بحسب رأي المختصين- عندما نعرف سبب مشاعرهم السيئة، فالخوف المزمن هو سبب طريقتهم السلبية، ومحاولة السيطرة على من حولهم.
لذا القليل من طمأنتهم قد يكون مفيداً، ويقلل من سلوكهم الضار، كذلك، في بيئة العمل يساعدهم على التركيز، ليقوموا بالأعمال الموكلة لهم على أفضل وجه دون التفكير في نسب نجاح الآخرين لأنفسهم، أو إبطال عملهم (أي جعلهم ينسبون الفضل لأصحابه على العكس من طبيعتهم).
كما أن هناك أسلحة بسيطة للغاية يمكنك استخدامها.. التجاهل وخفة الدم
التجاهل ربما يكون مفيداً أيضاً للحفاظ على سلامتك النفسية خلال التعامل معهم، إذ يستمد النرجسيون الضعفاء قوة كبيرة تدعم ذواتهم عندما يرون أثر أفعالهم عليك، ويزيدون من عدوانيتهم.
لذا في المرة المقبلة حاول عزل مشاعرك عنهم، وبعد فترة ستجد أنهم يترددون قبل إيذاءك نفسياً؛ إذ لا يوجد جدوى لهم من ذلك، إذا تجاهلتهم.
وحسّ الفكاهة ربما يكون مفيداً عندما تريد إيصال معلومة ما لأصحاب النرجسية الفخمة، لتخبرهم بما تريد بصورة غير مباشرة تحفظ غرورهم، وتبقيهم حولك، لأنه بحسب رأي المختصين قد يكون وجودهم حولك في بيئة العمل والصداقة ممتازاً لك، لحرصهم الدائم على النجاح وتحقيق الإنجازات.
وقبل كل ذلك يمكن الوقاية من هذا الاضطراب ولكن في التوقيت المناسب
يمكن الحصول على العلاج عبر تلقي المساعدة الطبية من مختص، لكن لمحاولة الحد من ظهور المرض وتطوره، ينصح الأطباء بالحرص على علاج للاضطرابات العاطفية، والمشكلات النفسية في الصغر.
ولذا يجب طلب النصح والمساعدة من المختصين في البيئة التي يتعايش بها الطفل في صورة دورية كالمدرسة وغيرها، أيضاً البحث وتطبيق الطرق الصحية السليمة في التربية، إذ ربما تساعد على الوقاية من ظهور هذا الاضطراب في الكبر.
ولكن بالطبع، تبقى النرجسية اعتلالاً نفسياً، ربما يصبح المصابون به في حياتك سبباً للكثير من الألم لك.
فالغيرة الشديدة التي قد تؤدي للانتقام، أو إحداث الضرر، والابتزاز العاطفي يجعلك منهكاً من الخوف عليهم دون سبب حقيقي؛ لذا يبقى طلب المساعدة الخارجية من المختصين حلاً مهماً رغم أن الشخصية لا تتغير، إلا أن الباحثين يؤكدون أنه يمكن تعديل سلوك الأفراد حتى وإن استمر لمدة طويلة؛ إذا تفهموا مشكلتهم، وبسببك ربما يبدأون حياة أفضل، برضا حقيقي تجاه ذواتهم بدلاً من نقل أزماتهم النفسية إليك.
اقرأ أيضاً..
لماذا لا يستطيع البعض التوقف عن الكذب؟ إليك الأسباب النفسية وراء ذلك