"حلوة شنطتك دي يا مها، بس مش كبيرة شوية؟"
"شوية، بس دي براند، خدي بالك".
حوار قصير نسمع مثله كل يوم عن الملابس والأحذية والأجهزة الإلكترونية والمأكولات والمشروبات.. إلخ. لا يعكس مثل هذا الحوار فكرة فقط بل يعكس كذلك هوساً يصح أن نسميه هوس البراند، فما البراند وما الهوس بها؟
ما البراند؟
يعود أصل الكلمة إلى الكلمة الإنجليزية brand والتي تعود بدورها لكلمة brandaz من اللغة الجرمانية القديمة أو كلمة brandr من اللغة النوردية القديمة (لغة في منطقة الدول الاسكندنافية) والتي تعني "جمرة النار"؛ ذلك لأنها الوسيلة التي استُخدمَت في حضارات وثقافات متعددة لختم الحيوانات كما في الحضارة المصرية القديمة، أو طبع الأواني الفخارية بطابع معين كما في الحضارة الرومانية، أو حتى في تصنيف العبيد وإثبات ملكيتهم لشخص دون غيره كما حدث مع الأفارقة الذين سرقهم البيض الأمريكان وأجبروهم على العمل في الزراعة ورعي الأغنام في الأرض الجديدة. في كل هذه الأعمال وما شابهها، اُستخدمَت النار بطريقة أو بأخرى لتمييز شيء أو منتج عن غيره ووسمه ببراند.
تطور مفهوم البراند وأصبح، من خلال الشعار المرسوم (اللوجو logo) والشعار المكتوب (السلوجانslogan )، يمثل هوية منتج محدد بصفات معينة يرغب فيه الناس كل حسب معتقده وقدرته المالية وذوقه. حتى هذا الحد، يبدو هذا منطقياً وليس به غرابة، إلا أن تمسك البعض بمنتج معين دون غيره، حتى وإن أدى غيره الوظيفة ذاتها، قد يدخل في دائرة الهوس.
وما الهوس؟
قد تبدو محاولة توضيح الهوس بالبراند في غير موضعه دون مثال من أرض الواقع. ففي عام 2017 أحرقت شركة الملابس والأحذية الشهيرة بربري Burberry في لندن منتجات تقدر بـ28.6 مليون جنيه إسترليني، وما من تفسير منطقي لهذا إلا الهوس بالبراند. فلماذا لم تخفض الشركة من أسعار هذه المنتجات التي لم تفلح في بيعها أو تهبها لغير القادرين، وهي شركة معروفة بتبرعاتها الكبيرة؟ لو قامت بذلك، لكان بمقدورها التقرب من جموع المستهلكين أو لخفضت ضرائبها، فما المانع؟ والإجابة: لو فعلت الشركة ذلك، لاستطاع محدودو الدخل أو الفقراء في بريطانيا – وهو المجتمع القائم على التصنيف الطبقي الشديد حتى اليوم – امتلاك المنتجات ذاتها التي يمتلكها علية القوم ولفقدت هذه المنتجات صورتها الاجتماعية البراقة في عيون الناس، وهذا يعني فقدان المنتج لهويته التي لا تميزه عن غيره من المنتجات فقط، بل تميز البشر الذين يشترونه ويستطيعون دفع ثمنه الباهظ عن غيرهم ممن يسكنون الدرجات السفلى من السلم الاجتماعي. ولو حدث هذا، لأعرض علية القوم عن شراء منتجات من الشركة التي لم تراعِ الحدود الفاصلة بين درجات السلم الاجتماعي وخلطت بينها، ولربما أفلست الشركة أو اضطرت للعمل في منتجات أقل في الجودة، ولربما فقدت الشركة كيانها كشركة بالكلية.
يتضح من هذا المثال (وهو واحد فقط من آلاف الأمثلة في شتى دول العالم) أن الهوس لا يكون في المنتجات الرديئة ذات التكلفة البسيطة التي يستطيعها أغلب الناس، بل في المنتجات فائقة الجودة، ولا يكون إلا بين أناس متعددي الثقافات مكنتهم معرفتهم بالغث والسمين من تمييز المنتج الجيد من المنتج الرديء، ويقودهم طموح غريب في التقرب من أو التشبه بطبقات المجتمع العليا وربما هجْر طبقتهم للأبد. وقد يقول قائل: إنني أعرف كثيراً من الناس ممن تنطبق عليهم هذه الصفات ولكنهم ليسوا مهووسين ببراند معين؟ وهذا قول سليم، فالهوس مرض من أمراض النفس أو على الأقل اضطراب في الشخصية يصور للفرد أن امتلاك شيء ما بجودة معينة (مثل امتلاك هاتف آي فون، أو سيارة مرسيدس، أو ساعة رولكس، أو حذاء dejavu) سيجلب لهم الفخر والسعادة واحترام الآخرين.، وليس كل البشر مهووسين.
مع الوقت يتطور الأمر لدى المستخدمين، فيصبح شعورهم بأن قيمتهم الذاتية تنبع مما يرتدون من أحذيةٍ وشنط وملابس، وتنخفض قيمتهم الذاتية في عيون أنفسهم كلما كانت البراند التي يرتدونها أقل في الترتيب الطبقي الذي فرضه عليهم السوق. يصبح أيضاً تقييم الناس لبعضهم البعض مبنياً على البراند، فكل من يرتدي ما هو ثمين يستحق الاحترام والتقدير، وكل ما هو عكس ذلك لا يُعبأ به اجتماعياً.
عملت الشركات الرأسمالية لفترة طويلة جداً على ترسيخ هذه المفاهيم في نفوس الناس، فأصبح التعامل بها تعاملاً لا واعياً، يقومون به دون إدراكٍ منهم لكمِّ الأذى الاجتماعي الذي يلحقونه ببعضهم بعضاً.
هوس البراند مرض ينبغي على كل عاقل أن يبتعد عنه ويكافحه قدر الإمكان، وأن يربي أولاده أو يرشد من يحبهم بمجاهدته كذلك، فما من شيء أحق بتمييز الناس عن بعضهم البعض إلا أخلاقهم الحميدة ومعاملتهم الراقية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.