صورة كل مدينة مغربية عتيقة، لا يؤثثها إلا مشهد صومعة المسجد الذي يحاذيه الحمام المغربي، وفرن شعبي، وحولهما تتراصّ على الجنبات البيوت والسواقي، وترتفع الأسوار وأبوابها، في نمط عمارة لا يحدث عن وظائف مرافق المدينة فقط، بل يرمز أيضاً لثقافة أهلها وعاداتهم.
من تلك المرافق التي كانت في تاريخ المغرب دالة على حضارة البلاد، وتكثيفاً لعلاقات المقدس والمدنس في وعي أهلها: "الحمام التقليدي".
موروث موريسكي
الحمام المغربي في التاريخ له جذور ضاربة في القدم، ممتدة لعهد الرومان في شمال إفريقيا، إذ اصطحبوا خلال وجودهم بالمنطقة، في القرنين الأول والثاني للميلاد، أنماط معيشتهم وطرائق بنائهم للمدن التي شيدوها، وكانت الحمامات أحد أبرز معالمها.
هذا الموروث الحضاري والمعماري الروماني سيبقى ناظماً لأغلب تصاميم المدن المغربية، وسيلبس لبوس الحضارات والثقافات التي تعاقبت على المغرب لقرون طويلة.
ففي قرية أغمات الواقعة على أطراف مراكش، جنوب المغرب، كشفت الحفريات عن حمام مغربي تقليدي، في قلب المدينة التاريخية، يعود حسب علماء الآثار للقرن العاشر للميلاد.
إن الحمام العمومي بما يشكله في مخيال الثقافة العربية الإسلامية، من إحالة على الطهارة والنقاء الجسدي الذي يبلغ به المسلم صفاءه الروحي، سيكون له مع دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا، موقع خاص في قلب كل المدن، لكن لحظة الاحتفاء به وشيوع بنائه والإبداع في تصاميمه كانت، بحسب معظم الروايات التاريخية، لحظة أندلسية خالصة.
جاورت الحمامات المساجد في مدن الأندلس، وهناك صارت جزءاً من سرديات التاريخ في الغرب الإسلامي، ونمطاً مورسكياً فريداً في الاحتفاء بالجسد والحياة والصلات بين الطقوسي الشعبي والديني المقدس.
كل هذا الإرث سيستجلبه الموريسكيون معهم في رحلة فرارهم من الأندلس، واستقرارهم بحواضر المغرب منذ القرن الثالث عشر، والتي سيصير الكثير منها، حسب مؤرخين، عبارة عن محاكاة لمدنهم التي غادروها مكرهين.
هكذا حجز الحمام التقليدي لنفسه في المدينة المغربية، والثقافة الشعبية ركناً أصيلاً، صمد في وجه التحولات المتسارعة التي شهدها المجتمع المغربي.
وإلى اليوم يكاد لا يخلو حي من أحياء المغرب، الشعبية والراقية، من الحمام العمومي، بل إنه جزء من مورفولوجية المدن المغربية العتيقة.
يقول الأستاذ الباحث في علم النفس الاجتماعي، الدكتور المصطفى الشكدالي، لـ"عربي بوست" إن الحمام العمومي في المغرب مرتبط بطقوس اجتماعية ودينية وروحية.
وعلى الرغم من التحولات الثقافية والمجتمعية، فقد حافظ الحمام العمومي على مكانته ورمزيته كطقس جماعي، خاصة في الأحياء والمناطق الشعبية، فيما تمت عصرنته وتحديثه، ليجد مكانه داخل دور التدليك والعلاج الطبيعي ومراكز "السبا"، وفق الباحث.
الحمام التقليدي.. مستودع الأسرار
في المناسبات والاحتفالات الفارقة في حياة المرأة، ظل الحمام التقليدي نقطة عبور لا بد من المرور بها.
تقصد العروس الحمام قبل يوم زفافها، والأم أياماً بعد ولادتها، وبين جدرانه لا تتم عملية الاغتسال فقط، بل تستدعى العادة والخرافة وتمارس المعتقدات الدينية والشعبية، ويكون الحمام فصلاً لا بديل عنه، لا تكتمل الاحتفالية إلا به.
فقبل حفل الزفاف، يتم كراء الحمام من طرف أهل العروس، فتجري فيه طقوس متفردة ومتعددة، إذ يتم إشعال الشموع وتعطير القاعات بالبخور، وطلاء شعر وجسم العروس بالزيوت المرطبة، وتخرج بعد الاستحمام وسط النساء من العائلة والجارات والصديقات مصحوبة بالزغاريد والأهازيج الشعبية الخاصة بالمناسبة.
وفي ميلاد الطفل، يسمى "حمام النفيسة"، ويقام غالباً في اليوم السابع بعد الولادة، حيث تذهب الأم إلى الحمام مع رفيقاتها وأهلها ويشعلن الشموع تعبيراً عن الفرح والأمل في غد جديد لها ولمولودها، ويستعمل البخور للتعطير وحمايتها من الحسد كما يعتقدن.
ويشترط ألا تقوم الأم المحتفى بها، بأي عمل أثناء الاستحمام، ويتم شد بطنها بحزام، لاعتقادهن أنه يخفف عنها آلام الظهر والولادة.
في المخيال الجمعي، يرتبط الحمام كطقس رباطاً وثيقاً بالمرأة المغربية أكثر من الرجل، لا لحاجتها الزائدة للتجمل والتطهر مقارنة به، لكنه بحسب الباحث السوسيولوجي مصطفى الشكدالي، شكل في عهود سابقة وما يزال رغم الانفتاح الاجتماعي، متنفساً للنساء اللائي يضيق عليهن الفضاء العام، ولا يتأتى لهن اللقاء والاجتماع والبوح المشترك والتواصل المباشر وتبادل الأخبار.
كل هذه العمليات التواصلية تتم في الحمام التقليدي، وعبره تجدد المرأة المغربية صلاتها بالعالم الخارجي.
دخول الحمام ليس كالخروج منه
يتألف الحمام المغربي التقليدي من ثلاث قاعات كبيرة متداخلة فيما بينها، تتدرج فيها الحرارة من المتوسطة إلى العالية، في كل قاعة صنبورا مياه، أحدهما بارد والآخر ساخن، علاوة عن قاعة خارجية للاستقبال وتغيير الملابس قبل ولوج غرف الاستحمام.
"دخول الحمام ماشي بحال خروجه"، يعكس هذا المثل الشعبي المغربي ما يحدثه الحمام العمومي من عظيم الأثر على الجسد والنفس؛ لمن يجدون فيه فرصة للاسترخاء والتخلص من التعب.
تقول نجاة بلا (35 سنة)، وهي موظفة بشركة محاسبة، "إن الذهاب للحمام يوم عطلتي الأسبوعية موعد ضروري وحاجة ملحة لا يمكنني التخلي عنها" .
وتضيف نجاة التي تقطن بمدينة أكادير جنوب المغرب "أكثر ما ضايقني طيلة فترة الحجر الصحي الذي فرضته الدولة بسبب انتشار فيروس كورونا، هو إجراء غلق الحمامات العمومية".
الرابط الوثيق الذي نسجه المغاربة مع الحمام التقليدي، على مر السنين، جعله خلال تفشي وباء كورونا محل اختبار ومساءلة، فقد استشعر المغاربة أن الوباء ليس قادراً فقط على تهديد حياتهم وأرزاقهم، بل إنه يستطيع أن ينفذ لكل تفاصيل معيشهم إلى هذا الحد، ويحول بينهم وبين الحمام العمومي الذي أوصدت السلطات أبوابه في الكثير من المدن في إطار إجراءاتها الاحترازية ضد الوباء.
ورغم أنماط العمارة الجديدة التي توفر للأسر فضاءات خاصة للاستحمام، ورغم المحاذير المتزايدة من خطورة الاختلاط بالآخرين في زمن الوباء الذي صار الكل يمثل تهديداً محتملاً ضد الكل، تعالت أصوات لا في صفوف العاملين في هذا القطاع من المتضررين فقط، بل في أوساط الكثير من النساء والرجال أيضاً، ممن تجاسروا وكسر بعضهم حظر السلطات، وتكبد عناء الانتقال لمدن سُمح فيها بفتح الحمامات العمومية، حسب ما ترويه بعض الشهادات على مواقع التواصل الاجتماعي، ليتمكن من ممارسة طقوسه الأسبوعية والاغتسال في حمام فسيح.
فعل لا يستغربه محمد الشوبي (44) سنة، وهو صاحب حمام، بمدينة تارودانت (جنوب المغرب)، قائلاً إن "الرجال والنساء من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية يحرصون على التردد على الحمام، على الأقل مرة في الأسبوع، خاصة أيام الجمعة والسبت والأحد".
وتابع محمد في حديثه لـ"عربي بوست" أنه "منذ بداية الوباء اصطبر كثيرون على هذه العادة الراسخة، لكن أي مغربي عارف بثقافة بلده سيتفهم ضجر المغاربة من غياب حماماتهم التقليدية".
بكلفة لا تتعدى في المتوسط 12 درهماً (1 يورو)، وبعدة استحمام يتقدمها الصابون الأسود الذي يطلق عليه المغاربة "الصابون البلدي"، ومواد طبيعية لغسل الشعر تسمى بـ"الغاسول" وهو طمي أسود يعطي نعومة ونظافة للشعر والبشرة، تستطيع أن تعيش تجربتك في الحمام التقليدي المغربي.
تحدثنا أمينة أمجداو (40 سنة) وهي خبيرة تجميل، عن الفوائد الجمة للحمام المغربي، ومنها تنظيف البشرة بعمق وإزالة الأوساخ المتراكمة عليها، كما أنه يسهم في تأخير ظهور التجاعيد وعلامات التقدم في السن، من خلال تنظيف كل مسام الجسم وتطهيرها، كل هذا يُضاف إلى تنشيط الدورة الدموية، وتخفيف توتر العضلات.
ويكمن سر المغربيات في "البروتوكول" الذي يتبعنه منذ ولوج الحمام، حيث يقمن في البداية بتدليك ناعم لكامل الجسد بالاستعانة بالصابون الأسود المغربي (الصابون البلدي)، وقبل المرور للتقشير لا بد للمستحمة أن تنعش جسدها بخليط الحناء والقرنفل والريحان.
ولعل أهم خطوة تختم بها المستحمة متعتها هي تدليك وتقشير جلد الجسم باستعمال ليفة خشنة تسمى "الكيس"، ويطلق على هذه العملية "تكسال"، ومنها اشتقت تسمية العاملات بالحمامات التقليدية بـ"الكسالات".
تحكي حياة الناجي لـ"عربي بوست"، وهي عاملة أو كما يطلق عليها باللفظ المحلي "كسالة" في حمام عمومي، "أقضي وزميلاتي نحو اثنتي عشرة ساعة في عملي بالحمام، على أمل توافد زبونات ممن يستعنّ بنا في جميع مراحل الاستحمام، وقد يقتصر لجوء بعضهن على طلب خدمة تقشير بشرة للجسم والتدليك فقط".
وعن أجرة هذه الخدمات، تقول حياة، إنها لا تتجاوز 50 درهماً (نحو5 من اليورو)، وتابعت: "إضافة إلى خدمة الزبونات ومساعدتهن على الاستحمام نقوم كذلك بتنظيف مرافق الحمام بأكملها ليلاً قبل المغادرة".
ينضوي العاملون بالحمامات التقليدية في إطار القطاعات الاقتصادية غير المهيكلة، والتي تعد ملاذ كثيرين لكسب قوت يومهم، ورغم المشقة الظاهرة للوظائف التي يقومون بها، والمخاطر الصحية التي قد يتعرضون لها بسبب خطر الأمراض التي يسهل انتقالها، حسب الخبراء، في مكان مغلق وحار، فإن أجورهم تبقى زهيدة.
تقول خديجة مكاز (59 عاماً)، إحدى العاملات في حمام بنواحي مدينة أكادير، لـ"عربي بوست": "عانيت كثيراً طيلة فترة الحجر الصحي، إذ أغلق الحمام، وهو مورد رزقي الوحيد، بسبب وباء كورونا، وكنت أدعو الله في كل يوم أن تفتح أبوابه من جديد لأعيل والدي المقعد".
وتابعت: "كنا نعيش على المساعدات التي قدمتها لنا الدولة خلال الأشهر الثلاثة الأولى للحجر الصحي المفروض، بعدها قضينا أياماً عصيبة في انتظار فتح الحمام من جديد".
الحمام التقليدي.. صورة المغرب في الخارج
استوطن الحمام كل هذه المكانة في الذاكرة والوعي الجمعي المغربي، كما أنه شكل بطاقة تعريف لتراث البلد وتقاليده وخصوصيته الثقافية في عيون الخارج، إذ لا يفوت كثير من زوار المغرب؛ سواء للسياحة أو العمل، فرصة الاستمتاع بتجربة الحمام المغربي، الذي اكتسى شهرة عربية وعالمية.
ولأن صيته ذاع إلى خارج الحدود، ذهب مستثمرون إلى فتح حمامات مغربية في دول عديدة كالسعودية والإمارات وفرنسا وبلجيكا.