حالة الارتياح التي سادت جانبي الأطلنطي بعد تولي جو بايدن المسؤولية في البيت الأبيض واختفاء دونالد ترامب من الصورة، يبدو أنها قد لا تستمر طويلاً، وتأتي مؤشرات القلق من ألمانيا، فماذا يحدث هناك وما علاقة الصين وروسيا بالقصة؟
إذ بعد أربع سنوات عجاف شهدت توتراً غير مسبوق في علاقة واشنطن بحلفائها في الاتحاد الأوروبي وشركائها في حلف الناتو خلال رئاسة دونالد ترامب، ما إن أظهرت نتائج الانتخابات الأمريكية فوز جو بايدن وهزيمة ترامب، انهالت رسائل الارتياح من جانب قادة الاتحاد الأوروبي نحو الإدارة الجديدة في البيت الأبيض، ولم يكن الارتياح من اتجاه واحد، حيث كان الارتياح متبادلاً.
وجاءت اختيارات بايدن لكبار المسؤولين في إدارته من وجوه معروف عنها إيمانها الكبير بالشراكة مع أوروبا لتؤكد أن عهداً جديداً يسوده التعاون والعمل المشترك قد بدأ بالفعل بين شطري الأطلنطي، وهو ما أكده بايدن فعلاً وليس قولاً فقط بإعادته الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية لاغياً قرار ترامب بالانسحاب من تلك المعاهدات الدولية.
لكن ذلك لا ينفي حقائق على الأرض تعكر صفو التعاون المنتظر وتتمثل بالأساس في اتفاقية الاستثمار الشاملة بين الاتحاد الأوروبي مع الصين والتي كانت برلين القوة الدافعة الرئيسية وراء توقيعها العام الماضي، إضافة إلى خط توصيل الغاز الروسي إلى أوروبا وهو أيضاً يحمل بصمة ألمانية خالصة.
وتعتبر إدارة بايدن الصين وروسيا منافسين بارزين على الساحة الدولية، وتريد إعادة إحياء التحالف الغربي التقليدي في مواجهتهما معاً، وهو ما يعني أن التعاون الأوروبي بقيادة ألمانيا مع بكين وموسكو يمثل عائقاً من السهل التكهن بكيفية تجاوزه كي تستمر رسائل الغرام التي بدأت مع تولي بايدن المسؤولية في البيت الأبيض.
مجلة Foreign Policy الأمريكية رصدت المنغصات لذلك الدفء في العلاقات الأمريكية الأوروبية، واصفة إياها بالماء البارد الذي تسكبه ألمانيا على علاقة الحب بين "بايدن وأوروبا".
فرحة عارمة بتنصيب بايدن
فبعد أربعة أعوام من العداء الصريح من الرئيس السابق دونالد ترامب مع أوروبا، كان تنصيب جو بايدن خلفاً له إيذاناً ببدء علاقة جديدة عابرة للأطلنطي يسودها الود والتناغم، والارتياح هنا ملموس على الجانب الآخر من الأطلنطي، خاصة في ألمانيا التي وجدت نفسها في مرمى غضب ترامب مراراً.
إذ لاقى انتخاب بايدن ترحيباً فورياً من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس فرانك والتر شتاينماير، ووزير الخارجية هايكوماس، ووزيرة الدفاع أنغريت كرامب كارنباور، وكلهم يطرح صفقة جديدة عابرة للأطلنطي.
وتحسن طالع أوروبا في واشنطن أيضاً، فقد تحدث وزير الخارجية الأمريكي الجديد أنتوني بلينكن عن "التحالفات الجوهرية" للولايات المتحدة، وتعهد بالقيادة "بالتواضع"، وأضاف أنه "لا يوجد تحدٍّ نواجهه تقدر عليه دولة بمفردها". وهذا الكلام يطرب آذان الأوروبيين، ليس فقط في برلين. فإدارة بايدن تستمر في ملء المناصب الخارجية والأمنية بفريق من الخبراء المتمرسين المؤيدين لأوروبا.
3 منغصات مصدرها ألمانيا
لكن هناك علامات لا تخطئها العين في الأفق على مشاكل قادمة، ولا يمكن لإدارة موالية لأوروبا أن تتجاوزها بهذه السهولة. وهذه المشاكل تأتي من ألمانيا. هناك ثلاثة أحداث مثيرة للجدل وقعت منذ انتخاب بايدن تظهر كيف تحاول ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، التوفيق بين غريزته العميقة ببناء علاقات جيدة مع الأصدقاء والخصوم على حدٍ سواء، وبين الحقيقة غير المريحة التي تُشير إلى أن الساحة الإستراتيجية قد تجبر ألمانيا على الانحياز أكثر للغرب، وتدفع ثمن ذلك.
أولاً، كانت ألمانيا هي القوة الدافعة تجاه صفقة مثيرة للجدل بين الاتحاد الأوروبي والصين ستصبح على الأرجح مصدراً مستمراً للخلاف بين أمريكا وأوروبا. فقبل نهاية عام 2020، وقع الاتحاد الأوروبي برئاسة ألمانيا وقيادة ميركل نفسها الاتفاقية الشاملة للاستثمار مع الصين، ما أدى إلى غضبة واسعة على جانبي الأطلنطي.
ثانياً، انتخاب أرمن لاشيت خليفة لميركل في قيادة الحزب المسيحي الديمقراطي، ما يجعله المرشح الافتراضي لمنصب المستشار في الانتخاب الألمانية سبتمبر/أيلول القادم. وهذا يُشير إلى مصدر آخر للانقسام بين جانبي الأطلنطي. فلاشيت حالياً حاكمٌ بولاية نورث راين وستفاليا، وهو حالياً يخضع للكثير من التمحيص بسبب انصياعه سابقاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس النظام السوري بشار الأسد.
والمسألة الثالثة ترسم أكثر ملامح النفوذ الروسي فى السياسة الألمانية، وقدرتها على إحداث الفرقة بين ألمانيا وجاراتها في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. مانويلا شفيزيغ، حاكمة ولاية مكلنبرغ وسترن بوميرانيا المنتمية إلى الاشتراكيين الديمقراطيين، من المروجين لخط أنابيب نورد ستريم 2 المثير للجدل، الذي سيجلب الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر ولايتها. وهي تتعرض لضغطٍ شديد لإنها مساهمة في تأسيس مؤسسة بيئية حاصلة على 20 مليون يورو تمويلاً من الشركة المالكة لخط الأنابيب في روسيا، غازبروم.
ومن المغري أن نقرأ كل هذه الحالات باعتبارها تنويعات على موضوع واحدٍ مألوف: القومية الجيواقتصادية في ألمانيا وبحثها المحموم عن المسافة المتساوية بينها وبين الغرب بقيادة الولايات المتحدة والشرق المتمثل اليوم في روسيا والصين. إنها انتقادات لألمانيا لطالما وجهها باحثون مثل هانز كوندناني، لكن الحقيقة أبسط وأعقد في آن معا.
كما زادت حدة التصورات عن الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ في برلين مؤخراً، ويرجع ذلك أساساً إلى الموقف العالمي العدواني والاستغلالي المتزايد لبكين، بما في ذلك في أوروبا. ومع ذلك، في الوقت الذي يتم فيه الترحيب باتفاقية الاستثمار الجديدة بين الاتحاد الأوروبي والصين باعتبارها انتصاراً استراتيجياً في بكين، دافع الدبلوماسيون في بروكسل وبرلين عن الاتفاقية باعتبارها تقدماً يدفع الصين إلى التوقيع على مزيد من معايير الشفافية والعمل الدولية، على الرغم من السجل السيئ للبلاد في الوفاء بهذه الالتزامات. ويشير الأوروبيون إلى صفقات مماثلة مع الصين أبرمتها إدارة ترامب ومجموعة من الحكومات الآسيوية، ويقولون إنهم فقط يهيئون ساحة اللعب للشركات الأوروبية للوصول إلى السوق الاستهلاكية الضخمة في الصين.
الصين وروسيا ومستقبل أوروبا
فالقاسم المشترك بين هذه الحالات الثلاث ليس القومية الجيواقتصادية الساخرة ولا السذاجة الاستراتيجية، ولكن للأسف قصر النظر. التظاهر بأن أوروبا والولايات المتحدة من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى يمكن التعامل معهما على أنها على قدم المساواة والموازنة بينهما، أو أن مشروعات مثل نورد ستريم 2 وصفقات مثل اتفاقية الاستثمار اقتصادية ذات طبيعة متبادلة – بينما هي في الواقع سياسية واستراتيجية ومصممة من جانب موسكو وبكين لتسليح الاعتماد المتبادل – كل هذا يقوض الوحدة الأوروبية والتماسك عبر الأطلنطي، ويؤدي إلى نفور شركاء ألمانيا وحلفائها.
وفي النهاية، هذه أهداف تحرزها ألمانيا في نفسها، وأفعال لا تصب في مصلحة ألمانيا. يعرف قادة ألمانيا هذا، لكنهم يمضون قدماً على أي حال.
ومع ذلك، لم يفت الأوان بعد لتصور سياسة أوروبية أكثر قوة واستراتيجية حقاً تجاه روسيا والصين، تلعب فيها ألمانيا دوراً رئيسياً باعتبارها الاقتصاد المحوري في أوروبا. وقد يدفع وابل النقد الحالي ألمانيا إلى القيام بذلك. مثل هذه السياسة لن تستبعد بأي حال التعاون مع روسيا والصين في القضايا العابرة للحدود مثل الأوبئة أو تغير المناخ. وستقبل الاعتماد المتبادل باعتباره حقيقة جغرافية واقتصادية وتكنولوجية. ومع ذلك، فإنها ستضع التعاون في الحوكمة العالمية والمشاركة الاقتصادية بحزم في سياق التنافس النظامي، وتصر على المعاملة بالمثل والخطوط الحمراء الواضحة، وتمتلك الإرادة لاستخدام النفوذ الاقتصادي والسياسي الكبير لأوروبا على نحو أشد قوة.
وهنا يأتي دور إدارة بايدن، إذ يحتاج الأوروبيون إلى دعم القوة الأمريكية ضد البلطجة الروسية والصينية، وثقة أوروبا في هذا الدعم اهتزت بشدة خلال السنوات الأربع الماضية. وتحتاج الولايات المتحدة بدورها إلى الثقل الدبلوماسي والاقتصادي والتنظيمي للاتحاد الأوروبي. لكن فريق بايدن – رغم أنه ربما يكون الأكثر صداقة مع الاتحاد الأوروبي منذ عقود – منقسم بين المتفائلين والمتشائمين عندما يتعلق الأمر بإمكانية التعاون مع أوروبا، وخاصة فيما يتعلق بهمهم الأكبر، الصين.