تهديد فتهدئة فتصعيد، يبدو هذا حال الخلاف الإثيوبي السوداني الذي تتداخل فيه المشكلات الحدودية وأزمة سد النهضة، مع الأزمات الداخلية للبلدين.
وتشهد الحدود السودانية الإثيوبية توترات عسكرية، تُنذر بوقوع مواجهات عسكرية، وصل الأمر إلى حديث عن سقوط قتلى واختراق طائرة إثيوبية للأجواء السودانية وذلك يوم الثلاثاء، 12 يناير/كانون الثاني 2021.
وأبرز أسباب الخلاف الإثيوبي السوداني هو النزاع الحدودي الذي، نشب عقب انتشار الجيش السوداني في أراضي منطقتي "الفشقة الكبرى" و"الفشقة الصغرى" المتاخمة للحدود مع إثيوبيا، وهي منطقة سودانية كانت تسيطر عليها ميلشيات إثيوبية.
حالياً، يبدو الوضع هادئاً على الحدود، فلم تحدث مناوشات عسكرية بين الجارتين خلال الأيام القليلة الماضية. لكن لا تزال الحشود العسكرية للدولتين مستمرة على طرفي الحدود، بحسب مسؤولين في الطرفين.
وفي أي لحظة، وفق محللين، قد ينزلق الخلاف الإثيوبي السوداني إلى حرب، فالخرطوم وأديس أبابا تتمسكان بمواقفهما وتتبادلان الاتهامات أحياناً بتعدي كل طرف على أراضي الآخر.
ولكن هناك مراقبون يستبعدون وصول الخلاف الإثيوبي السوداني إلى الحرب ويرون أن النظامين يعمدان لاستغلال الأزمة لأسباب داخلية.
تصعيد في أزمة سد النهضة من جانب السودان
ويأتي هذا التوتر الحدودي في وقت اتخذ فيه السودان موقفاً أقوى من مصر على غير العادة فيما يتعلق بسد النهضة، حيث اعتبر ياسر عباس، وزير الري والموارد المائية السوداني، مؤخراً أنه لا يمكن الاستمرار فيما وصفه بـ"الدائرة المفرغة" من المباحثات الدائرية إلى ما لا نهاية، بالنظر لما يمثله سد النهضة من تهديد.
وتقليدياً كانت مواقف السودان أقل حدة من مصر فيما يتعلق بسد النهضة، ولكن يبدو أن السودان بات يشعر بخطر أكبر من السد، وهو ما ظهر في قول الوزير السوداني إن الوضع الحالي يشكل تهديداً جدياً للمنشآت المائية السودانية ونصف سكان السودان".
ولكن حتى قبل ذلك، أظهر السودان موقفاً صلباً فيما يتعلق باسترداد أراضيه في منطقة الشفقة، حيث استغلت الخرطوم حرب تيغراي لاستعادة معظم أراضي منطقة الفشقة التي تحتلها ميليشيات أمهرية إثيوبية، وتدعي أديس أبابا أنها لا تسيطر عليها.
ومنذ ذلك الحين شهد ملفا الحدود وسد النهضة تصعيداً بين البلدين، يبدو غير متوقع بالنظر إلى العلاقة الجيدة بين البلدين الجارين خاصة بعد سقوط البشير، والتي وصلت إلى أن رئيس الوزراء السوادني آبي أحمد كان وسيطاً بين العسكريين والقوى الثورية المدنية في السودان.
الموافقة على مبادرة جنوب السودان
في اليومين الماضيين، لجأ مسؤولو البلدين إلى خفض لغة التصعيد، التي سادت بشكل كبير خلال الأسابيع الماضية، حيث ظهرت أحاديث الدبلوماسية وعدم الرغبة في الحرب.
وقال رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق عبد الفتاح البرهان، خلال فعالية لدعم الجيش بالخرطوم السبت، إن "السودان لا يريد حرباً مع الجارة إثيوبيا، وليست لديه أي مصلحة في محاربة أي دولة من دول الجوار".
وشدد على رغبة بلاده في التوصل إلى حدود تحفظ له حقوقه، ويتم فيها وضع العلامات على الأرض.
في اليوم نفسه، قال قائد الجيش الإثيوبي برهانو جولا، في تصريح صحفي، إن "أديس أبابا لن تتورط في حرب مع الخرطوم".
فيما أعلن رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، الأحد، موافقة الخرطوم على مبادرة رئيس دولة جنوب السودان، سلفاكير ميارديت، للتوسط بين السودان وإثيوبيا بشأن الحدود.
وتجدد الخلاف الإثيوبي السوداني الحدودي بين البلدين إثر تطورات عديدة لافتة، انطلقت شرارتها بهجوم مسلح استهدف قوة للجيش السوداني في جبل "طورية" (شرق)، منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي.
والنزاع في منطقة "الفشقة" الحدودية قديم، لكنه ظل بين مزارعين إثيوبيين وسودانيين، حيث يهاجم مسلحون إثيوبيون مزارعين سودانيين بغرض السلب والنهب، وكثيراً ما سقط قتلى وجرحى، وفق الخرطوم.
وتتميز أراضي "الفشقة" السودانية بخصوبتها الزراعية، وهي مقسمة إلى ثلاث مناطق، هي: "الفشقة الكبرى" و"الفشقة الصغرى" و"المنطقة الجنوبية".
ويتهم السودان الجيش الإثيوبي بدعم ما يصفه بـ"الميليشيات الإثيوبية"، وهو ما تنفيه أديس أبابا، وتقول إنها "جماعات خارجة عن القانون".
وأعلنت الخارجية السودانية، في 31 ديسمبر الماضي، سيطرة الجيش على كامل أراضي بلاده الحدودية مع إثيوبيا.
لكن وزير الدفاع السوداني، يس إبراهيم يس، ناشد إثيوبيا، الأحد، سحب قواتها مما قال إنها "مواقع لا زالت تحتلها".
بينما اتهم السفير الإثيوبي لدى الخرطوم، بيتال أميرو، في 13 يناير/كانون الثاني الجاري، الجيش السوداني بالاستيلاء على 9 معسكرات داخل أراضي إثيوبيا، منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
تهديدات آبي أحمد
وبالرغم من ارتفاع صوت العقل بين مسؤولي البلدين بشأن رفض فكرة الحرب، فإن أحاديثهم، وفق محللين، تخللتها لغة مبطنة تفيد بإمكانية أن يمضي كل طرف بقوة نحو الحسم العسكري.
وعقب اجتماع لمجلس الأمن والدفاع في الخرطوم (أعلى هيئة أمنية)، قال وزير الدفاع السوداني، السبت، إن إثيوبيا تقوم بتعبئة وحشد عسكري "في المناطق المواجهة لقواتنا في (منطقة) الفشقة (شرق)".
وأضاف: "نؤكد أن قواتنا ستظل باقية في أراضيها، حفاظاً على السيادة التي نصت عليها المواثيق والاتفاقيات، التي تؤكد أحقية السودان لأراضي الفشقة".
فيما قال رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، الإثنين، إن "عرض السلام على الذين يخترقون الحدود، وإظهار المحبة لمن يتحدون البلد، واختيار المسار الدبلوماسي مع الغزاة، لا يعتبر ضعفاً، بل هو رمز للقوة والتواضع والصبر".
هل الخلاف الإثيوبي السوداني مجرد اتفاق سياسي للإلهاء عن المشاكل الداخلية؟
وطالما لا تزال الحشود العسكرية مستمرة على جانبي الحدود بين البلدين، فإن كل الاحتمالات واردة، بما فيها وصول الخلاف الإثيوبي السوداني إلى درجة الحرب.
وقال المحرر العام بصحيفة "السوداني" (خاصة)، عمرو شعبان، للأناضول، إن "هناك ما يشبه الاتفاق السياسي والعسكري بين البلدين، بحيث يوظف كل منهما دواعي الحرب لمواجهة شأنه الداخلي".
وأوضح أن "آبي أحمد يبحث عن تماسك جبهته الداخلية وتقليل حدة التوتر في إقليم تيغراي (الحدودي مع السودان)، عبر تبني فكرة العدو الخارجي".
ومنذ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، شهد الإقليم مواجهات عسكرية بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي وقوات "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، وتفيد تقارير إعلامية وشهادات سكان بأنها لا تزال مستمرة، بالرغم من إعلان أديس أبابا انتهاءها.
وتابع: "أما الخرطوم فهناك تواطؤ بين المدنيين والعسكر (طرفي السلطة الانتقالية) للانحناء أمام عاصفة المطالبة بعودة الجيش إلى ثكناته وإعادة هيكلته وأيلولة مؤسساته الاقتصادية إلى وزارة المالية".
وتلك هي مطالب "القوى الثورية"، وأبرزها تجمع المهنيين والحزب الشيوعي، التي قادت احتجاجات شعبية منددة بتردي الأوضاع الاقتصادية، ما دفع قيادة الجيش، في 11 أبريل/نيسان 2019 إلى عزل عمر البشير من الرئاسة.
ورأى شعبان أن "السلطة الانتقالية تريد أن تصرف النظر عن تلك المطالب بإعادة إنتاج حرب خارجية أو استغلال الخلاف الإثيوبي السوداني لإسكات أي أصوات معارضة لوجود الجيش في الساحة السياسية".
وقال إن "العامل الذي يمكن أن يساهم في اندلاع الحرب من قبل السودان، هو وجود عناصر موالية للنظام البائد (البشير) في السلطة والجيش، وهي قد تدفع الأمور نحو الحرب، وحينها ستجد إثيوبيا أنه لا مفر من حرب ضد السودان".
نزاع محدود
مقابل احتمال انزلاق الخلاف الإثيوبي السوداني الحدودي إلى حرب، يستبعد محللون أن يذهب البلدان بعيداً في ظل أوضاعهما الداخلية الراهنة.
وقال المحلل أنور سليمان إنه "ليس هناك نذر حرب شاملة بين البلدين، فهو مجرد نزاع حدودي محصور في نطاق محدد، ويمكن تجاوزه بمعالجة تفسيرات المصطلحات القانونية طالما توجد اتفاقيات بين البلدين في 1974 و1902".
وأردف: "مجرد سوء تفاهم واختلاف في استخدام المصطلحات القانونية (بين الترسيم والتحديد ووضع العلامات على الأرض)، فالحدود فيما يخص الخطوط والإحداثيات على الخرائط، متفق عليها، والخلاف الإثيوبي السوداني ناتج عن عدم إنزال تلك الخرائط على الأرض".
واستطرد: "بالإضافة إلى نشاط المليشيات الإثيوبية واعتدائها على سكان المنطقة (الفشقة)، وتراخي السلطات السودانية في السابق وإهمالها للمنطقة وتساهلها مع التعديات وسامحها للإثيوبيين باستغلال المنطقة زراعياً".
ورأى سليمان أن "في الغالب تمثل الحدود عرض لأزمة أعمق، ولا يُستبعد في حالة الفشقة أن تكون هناك جهات داخل إثيوبيا جبهة تيغراي مثلاً، تسعى لتوتير المنطقة، عبر شن هجمات على عناصر القوات السودانية وسكان المنطقة لإحراج الحكومة الإثيوبية وتشتيت جهودها".
وأضاف: "كما لا يُستبعد أن تكون هناك جهات داخل السودان تسعى إلى افتعال نزاع محدود لتحسين مركز أحد أطراف العملية السياسية الانتقالية، المكون العسكري مثلاً".
وبدأت بالسودان، في 21 أغسطس/آب 2019، مرحلة انتقالية تستمر 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وائتلاف "قوى إعلان الحرية والتغيير"، قائد الحراك الشعبي.
ولا يستبعد سليمان أن "تنظر الحكومة الإثيوبية إلى هذا التوتر على أنه عامل يمكن أن يخدمها لتعبر سريعاً حالة الانقسام التي خلفتها حرب تيغراي والتوترات العرقية في بقية المناطق".
واستدرك: "لكن كل هذه التكهنات لا تخرج عن كون النزاع توتراً محدوداً لن يتجاوز اشتباكات على نطاق جغرافي ضيق".