دونالد ترامب كان الرئيسَ الأمريكي الأقل استعمالاً لسلطة العفو الرئاسي من حيث العدد مقارنة بمن سبقه من الرؤساء الأمريكيين، لكنه وظَّفها بشكل أثار الجدل بطريقة غير مسبوقة، فكم شخصاً استفاد من العفو الترامبي؟
تُظهر الأرقام الرسمية لقرارات العفو التي أصدرها سلف ترامب -أي الرئيس الأسبق باراك أوباما- أنه أصدر 212 عفواً رئاسياً و1927 تخفيفاً لمدة العقوبة خلال فترتيه الرئاسيتين، بينما جاء إجمالي ما أصدره ترامب خلال فترته الرئاسية الوحيدة، أقل من 250 حالة إجمالاً بين عفو رئاسي وتخفيض للعقوبة. وهذه الأرقام تُظهر أن ترامب هو الأقل استعمالاً لتلك السلطة الرئاسية بين الرؤساء الأمريكيين منذ نحو 120 عاماً، بحسب تقرير لموقع أبحاث Pew.
إذ حتى يوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كان ترامب قد أصدر 28 عفواً رئاسياً و16 تخفيفاً للعقوبة، بإجمالي 44 حالة، وبعد شهر تقريباً أصدر 40 قراراً إضافياً، منها 20 عفواً ومثلها قرارات بتخفيف العقوبة، وجاءت الدفعة الثالثة من قوائم العفو الرئاسي التي وقَّعها الرئيس السابق ترامب، قبل ساعات فقط من نهاية رئاسته، الأكبر من حيث العدد، حيث بلغت 70 عفواً و73 تخفيفاً للعقوبة.
وفي هذا السياق يمكن القول إن جميع الرؤساء الأمريكيين قد استخدموا سلطتهم في إصدار العفو الرئاسي وإن بدرجات متفاوتة، فالرئيس ثيودور روزفلت أصدر نحو 3 آلاف عفو رئاسي، فيما أصدر جورج بوش الأب 77 عفواً فقط.
والعفو الرئاسي بالولايات المتحدة لا يعني "براءة من يتمتعون به"، لكنه في الوقت نفسه "يمحو الجريمة وما يترتب عليها" أي كأنها لم تقع من الأصل، وبالتالي فإن من يتمتع بالعفو الرئاسي يستعيد فوراً أي حقوق كان ارتكابه للجريمة قد حرمه منها، كالحق في التصويت أو الترشح أو الحق في امتلاك رخصة سلاح وما إلى ذلك من حقوق مدنية أخرى.
كما أن العفو الرئاسي الأمريكي يمكن أن يستفيد منه متهم لا يزال يخضع للتحقيق بتهمة ارتكاب جريمة فيدرالية ولم يصدر عليه الحكم بعدُ سواء بالإدانة أو البراءة، وقد يكون العفو الرئاسي محدد المدة الزمنية، والتقييد الوحيد على العفو الرئاسي يتعلق بكونه خاصاً فقط بالجرائم الفيدرالية، بمعنى أن الرئيس لا يمتلك سلطة العفو عن مدان أو متهم بارتكاب جريمة أو مخالفة في ولاية من الولايات، فهذه الصلاحية ضمن سلطات حاكم الولاية أو مجلس العفو الخاص بالولاية.
كيف استخدم أوباما قرارات العفو؟
بداية يرجع أصل قصة منح الرئيس الأمريكي سلطة إصدار العفو الرئاسي، إلى ملوك إنجلترا الذين كانوا يتمتعون بسلطة إصدار قرارات "الرأفة" بحق من يشاؤون، وكان الرئيس الأمريكي الأول، جورج واشنطن، هو أول من استعملها، للعفو عن المزارعين الذين كانوا يسعون للاستقلال بأراضيهم وساعدوا القوات البريطانية أثناء حرب الاستقلال الأمريكية.
ومن المهم هنا التوقف عند انتقاد الجمهوريين للرئيس الديمقراطي أوباما بسبب استخدامه سلطات "الرأفة" بشكل متكرر، لتخفيف عقوبة مساجين مدانين في جرائم لها علاقة بالمخدرات، متهمين إياه باستخدامها لصالح "طبقة من المخالفين للقانون" والتدخل في عمل سلطات إنفاذ القانون التابعين للسلطة التشريعية.
وأصل القصة هنا هي أن إدارة أوباما شجعت المساجين الفيدراليين على التقدم بطلبات إلى "مبادرة الرأفة" وهو برنامج أطلقته الإدارة في أبريل/نيسان 2014 وانتهى مطلع 2017 بعد انتهاء رئاسة أوباما ومجيء ترامب. والبرنامج كان تابعاً لوزارة العدل وليس بإشراف أوباما نفسه أو بمبادرة منه، وكان يقوم على تشجيع "النزلاء الفيدراليين الذين تنطبق عليهم الشروط التي حددتها وزارة العدل" بتقديم طلب لـ"مبادرة الرأفة".
ونتج عن ذلك بالطبع ارتفاع ضخم في أعداد المتقدمين لطلب الرأفة وتخطَّت الطلبات أكثر 36 ألفاً، لكنه لم يُوافَق إلا على أقل من 5% من تلك الطلبات، وذلك بتوصيات من وزارة العدل.
العفو الرئاسي وطابعه السياسي
السمة الرئيسية التي تميز سلطات منح "الرأفة" بأشكالها المتعددة والتي تمتع بها الرؤساء الأمريكيون منذ جورج واشنطن وصولاً إلى الرئيس الـ45 دونالد ترامب، هي أنها ذات طابع "سياسي" في طريقة استعمالها، حتى وإن استفاد منها مدانون أو متهمون بارتكاب جرائم أو مخالفات فيدرالية.
وينطبق هذا التوصيف على قرارات تخفيض العقوبة التي وقَّعها أوباما بحق مساجين فيدراليين، وكذلك على قرارات العفو التي أصدرها الرئيس جيمي كارتر بحق الآلاف من الأمريكيين الذين رفضوا الخدمة في الجيش الأمريكي اعتراضاً على حرب فيتنام.
وفي هذا السياق كان العفو الذي أصدره الرئيس فورد لصالح ريتشارد نيكسون هو الأكثر جدلاً على الإطلاق؛ فنيكسون كان يخضع لإجراءات عزله في الكونغرس، بسبب فضيحة ووتر-غيت (التجسس على الحزب الديمقراطي بأوامر من الرئيس الجمهوري نيكسون)، وقبل أيام من انتهاء محاكمته في مجلس الشيوخ وكانت الإدانة والعزل هما النتيجة المنتظرة، قدَّم نيكسون استقالته يوم 9 أغسطس/آب 1974، وتولى نائبه فورد الرئاسة لاستكمال الفترة الرئاسية، وكان أول قرار تنفيذي يوقعه هو إصدار عفو رئاسي بحق رئيسه المستقيل.
ترامب وظف سلطاته لمصلحة شخصية
لكن دونالد ترامب استعمل سلطات "الرأفة" بصورة لم يسبقه إليها أي رئيس آخر في تاريخ الولايات المتحدة، وهو ما أثار جدلاً كبيراً، بسبب طبيعة قرارات العفو وتخفيف العقوبة التي اتخذها لمصلحة أشخاص تربطه بهم "علاقات سياسية أو شخصية مباشرة".
فجميع من استفادوا من قرارات "الرأفة" التي وقَّعها ترامب، بأشكالها المختلفة، سواء كانت عفواً أو تخفيفاً للعقوبة، كانوا إما تربطهم علاقة مباشرة بالرئيس أو استفاد منهم بشكل مباشر سواء في أعماله الخاصة أو في حياته السياسية، أو تربطهم علاقة مباشرة بأحد الأشخاص في دائرة ترامب المقربة، وكل هذه العلاقات أثارت شبهات كثيرة حول ترامب، وبصفة خاصة في الأيام الأخيرة من رئاسته.
إذ كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن فضيحة جديدة في سياق ما أصبح يطلق عليه "بيزنس" العفو الرئاسي الترامبي، حيث نقلت عن ضابط سابق بالمخابرات المركزية الأمريكية، قوله إن أحد مساعدي جولياني أخبره (أخبر الضابط) بأن العفو الرئاسي لترامب سيكلفه "مليوني دولار".
وكانت الدفعة قبل الأخيرة من قرارات "الرأفة" الرئاسية التي أصدرها ترامب، قد أثارت أيضاً انتقادات عنيفة لتصرفات الرئيس، ووُصفت بأنها استغلال صارخ للسلطات التي يمنحها له الدستور، ونشرت شبكة CNN تحليلاً وصفت فيه قرارات العفو بأنها رشاوى سياسية "تدهس مبدأ العدالة" استفاد منها "مجرمو حرب" تابعون لشركة بلاك ووتر التي أسسها إيريك برينس أحد داعمي الرئيس والذي يعمل حالياً مستشاراً خاصاً لولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد.
ونظرة سريعة على بعض من منحهم ترامب عفواً أو تخفيفاً للعقوبة في الدفعة الأخيرة التي وقَّعها قبل ساعات فقط من انتهاء رئاسته، تؤكد جميع الاتهامات الموجهة إليه: ويأتي ستيف بانون الخاضع لأكثر من تحقيق فيدرالي، لاتهامات بالاحتيال المالي على أنصار ترامب، من خلال جمع تبرعات لبناء الجدار العازل الذي وعد ترامب ببنائه على حدود المكسيك، على رأس القائمة.
فبانون كان أحد المسؤولين في حملة ترامب الرئاسية عام 2016، وكان أيضاً أحد أعضاء لجنة تنصيب الرئيس الجمهوري، ويوصف بأنه أبرز من ساهموا في إيصاله إلى البيت الأبيض، والتهم التي يواجهها ليست سياسية؛ بل هي جرائم احتيال مالي يخضع لتحقيقات فيدرالية بسببها، إضافة إلى ما هو أخطر وهو اتهامه بأنه أحد الضالعين في أحداث اقتحام الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021.
وكان ترامب قد استبعد بانون من دائرته المقربة؛ بعد نشر أحد الكتب التي نقلت عن بانون تصريحات مسيئة إلى أولاد الرئيس، خصوصاً دونالد ترامب الابن وإيفانكا، وبعدها أصدر ترامب بياناً وصف فيه بانون بأنه "فقد عقله". لكن قبل الانتخابات بوقت قصير، عادت المياه لمجاريها بين ترامب وبانون، وبعد خسارة ترامب أصبح بانون أكثر الداعمين لنظريات ترامب الخاصة بتزوير الانتخابات، بحسب تقرير لشبكة CNN.
وبذلك يمكن القول إن ترامب أبى ألا يغادر البيت الأبيض دون أن يضيف إلى سجله المثير للجدل سابقة أخرى لم يسبقه إليها أي رئيس آخر وهي منح "الرأفة" الرئاسية لمجرمي حرب ومدانين بالاحتيال المالي ومجرمين آخرين، لتتحول سلطة رئاسية إلى أداة لتحقيق مصالح شخصية مباشرة.