تعيش الشعوب العربية والإسلامية حالة من حالات المرض السياسي، إذ تسود الفوضوية والعدمية، حالة قريبة من النازية والفاشية التي ظهرت في القرن العشرين، لكنها تختلف عنها في بعض الجوانب. يمكن القول إن لاهوتاً سیاسياً جدیداً يولد الآن.
شعبوية القرن الـ21
نتيجة للجهل والفقر والقهر التي أنتجته السياسات النيوليبرالية مع مطلع القرن الواحد والعشرين، والتي منحت فرص الترقي والازدهار لفئة صغيرة من سكان العالم وتركت البقية يعيشون بين ركام الفقر والجهل، تنتشر رسالة الشعبويون التمسحين بالشعب، والذين يطلقون اسمه من باب البركة على كل نداء ينادون به أو مطلب يخصهم. عندما يتم تقديس الفوضوية ويتحول الجهل والأمثال والخرافات الشعبية إلى برامج سياسية، والنعرات الثورية الجوفاء ضد خصوم أضعف من المقاومة أو خصوم وهميين إلى خطابات رسمية يخاطب بها الشعب عبر محطات الإذاعة والتلفزيون التابعة للسلطات، يجب أن تدرك أننا في محطة الشعبوية.
في الماضي القریب، كان شعبويو الأمس رافعين لراية الثورة الاجتماعية وشعار "لا للرأسمالية والبرجوازية" لكن تفرقت السبل وتقطعت بهم الطرق، فمنم من قضي نحبه السياسي ومنهم من ينتظر، ومنهم من بدل وتنقل حسب التغيرات السياسية وصار شعبوياً من نوع آخر.
وهناك فصيل آخر يلبسون مصطلحات السياسة لباس الإسلام، فيرددون ما فعل أسلافهم اليساريون من كيل المديح للشعب والظن بسلامة نظرته ويُسر هدايته.
وبذلك الخطاب لا يحلون عقد السياسة الحالية ولا يخرجون من مأزقها وإنما يعيدون إنتاج المأزق نفسه.
الشعبوية في مصر
شكلت اللحظة التأسيسية لمرحلة ما بعد الإخوان المسلمين وتكوين تحالفات مصر ما بعد 30 يونيو صيغة شمولية لعلاقة الدولة بالمواطنين، صيغة مبنية خطاباً سلطوياً تحتكر فيه السلطة التمثيل السياسي والمجتمعي للمواطنين. واستخدمت في ذلك شعارات ومعاني مرتبطة بالخيال والعقل الجمعي، وعلى رأسها شعارات الإنقاذ من الحرب الأهلية، والتمرد على الوصاية الأجنبية، والحرب على الإرهاب. وقد مهدت تلك اللحظة لولادة نظام يضع السياسات الأمنية والعسكرية على رأس أولوياته، ويروج لخطاب الإجماع والاصطفاف الوطني وتخوين أي معارض ينشق عن تلك المظلة. ولذلك تقیدت حریة الرأي الآخر وأغلق المجال العام وانتشرت سیاسة التخوین، ولذلك أيضاً کان ظهور بضع فیدیوهات شعبویة من الفنان والمقاول محمد علي، حدثاً مربكاً للمشهد السیاسي المصري برمته. وفي ظل تغييب المعارضة ومنع نشاة أحزاب مستقلة لها نشاط ملموس في الشارع تکون البدیل المتجدد في حالة انتقال السلطة من النخبة الحاكمة الحالية وعدم وجود "زعامة کاریزمية" تقود العمل السیاسي لا یمکن تصور بدیلاً عن الوضع الراهن.
ومع تزامن تواجهات السلطة المصرية الحالية مع صعود فكر شعبوي وسلطوي في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الاتحاد الأوروبي؛ منحت فرصة ذهبية للسلطة المصرية لتقوية موقفها والمضي قدماً في سياساتها المحتكرة للسياسة وتعضيد استراتيجيتها الأمنية، ولم تكن السلطة المصرية لتمتلك القدرة على ذلك لولا السياق الدولي الذى ساعدها على البقاء والاستمرار في نهجها. فصعود ترامب لرئاسة البيت الأبيض كان فرصة جوهرية لجميع النظم التى لا تؤمن بالديمقراطية والحرية ولا بحقوق الإنسان لتعزيز مواقعها وقمع كافة أشكال المعارضة. لأن ترامب، ببساطة، لا يرى أن مثل تلك القيم الإنسانية ذات أهمية كبيرة ولا يضعها على رأس أولوياته في سياسته الخارجية، وذلك على عكس سياسات سابقه باراك أوباما الذي رأى أن التحول الديمقراطي لابد وأن يكون على رأس أجندة المجتمع الدولي. فرفض باراك أوباما، ولو على استحياء، كافة الترتيبيات التي حدثت بعد 3 يوليو 2013 في مصر، وأوقف شحنات السلاح المتفق عليها مسبقاً مع السلطات المصرية. كما عطل المعونة العسكرية السنوية للقوات المسلحة المصرية، فى محاولة منه لفرض عقوبات على النظام السياسي وتقويضه دولياً. وهذا ما تراجعت عنه كلياً الإدارة الأمريكية في عهد ترامب. وبالتوازي مع ذلك، تحفظت العديد من الحكومات الأوروبية على خارطة الطريق التى أعلنت فى بيان 3 يوليو 2013، ونددت بالأحداث الدامية التى تلته، إلا أنها وضعت الأولوية لتحقيق الاستقرار الأمني والعسكري فى البلاد، خاصة في ظل العمليات الإرهابية التى شهدتها مصر وبعض دول المنطقة والعالم. بالإضافة إلى نمو قناعة أو اعتقاد بأن التيار الإسلامي غير قابل للدمج في إطار نظام سياسي ديمقراطي.
واستغلالاً لكل تلك العوامل، استخدمت السلطة المصرية وأجهزتها الإعلامية خطاباً ترهيبياً، معتمدة فيه على المقارنة بالأوضاع في سوريا والیمن والعراق وليبيا، الأمر الذي كان له الأثر الكبير على قطاعات واسعة من المجتمع المصرى بقبول الوضع الراهن وعدم التطلع إلى مستقبل أفضل.
لم تكن الدولة المصرية بمعزل عن الموجة الشعبوية التي تكتسح العالم، ورغم أن الشعبوية كسلوك فى الحكم وخطاب مكتوب ومطوق له سمات معينة في الدول الغربية وفقاً للسياق التى ظهرت فيه، مثل وجود أطروحة العدو الخارجي والصراع الوجودي بين أهل الخير وأهل الشر، وغياب البرامج المحددة، وسيادة الخطاب العاطفي بدل العقلاني، والادعاء الدائم بأن الحكم للشعب، والترويج للزعيم المنقذ، وكراهية النظم والنخب التقليدية؛ إلا أن الشعبوية الجديدة في مصر لها ملامح مختلفة تبعاً للسياق الذي ظهرت فيه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.