تخطت عملة البتكوين الرقمية حاجز الـ 30 ألف دولار، وهي أعلى قمة سعرية في تاريخها على الإطلاق. وذلك بعد حوالي ثلاث سنوات من صعود تاريخي أيضاً والذي تبعه موجة هبوط عنيفة وصل التداول عليه لما دون 3500 دولار، ثم تبعه موجة صعود متذبذب إلى أن تخطى 33 ألف دولار عند كتابة هذه السطور.
هذا التذبذب السعري يعطي فرصة استثمارية للمتداولين من ذوي الخبرة لتحقيق أرباح كبيرة في وقت نسبي قليل، لكنه في الوقت نفسه يتسبب في خسائر كبيرة نتيجة خروجه عن قواعد التداول وتأثره بالأحداث الاقتصادية والسياسية الكبرى. لكن لماذا أصبح البتكوين بهذه القيمة؟ ولماذا يحظى بكل هذا الزخم؟
كيف وصل البتكوين إلى هذه المحطة؟
انطلق البتكوين في يناير/كانون الثاني 2009 بعد أن أطلقه شخص مجهول عرّف نفسه بـ"ساتوشي ناكاموتو"، وفي أول تحويلة لعملة البتكوين قام بها ناكاموتو كتب رسالة لم يكترث لها في حينها.
الشطر الأول من الرسالة لإثبات موعد إطلاق شبكة البتكوين، والثاني اقتباس من مقالة لمجلة The Times البريطانية الصادرة بنفس التاريخ. يقول عنوان المقالة: "المستشار أليستير دارلينج (وزير الخزانة البريطاني آن ذاك) على وشك الإنقاذ الثاني للبنوك، قد تكون هناك حاجة إلى المليارات مع الضغط الشديد للإقراض". اختيار ناكاموتو هذا العنوان بالذات ليُدلِّل على رفضه لشكل المال التقليدي وضرره البالغ على المجتمع.
يعمل البتكوين وفق قواعد صارمة تجعله يحقق أفضل ميزة للمال عرفها البشرية: الندرة. ففي التصميم الأولي له تم تحديد كميته بـ21 مليون وحدة بتكوين فقط. يتم طرحها وفق معادلة متدرجة تبدأ بكميات كبيرة ثم تقل كل أربع سنوات، إلى أن يتم طرح كامل العدد المحدد سلفاً 21 مليون قطعة.
على مدار 11 عاماً منذ إطلاقه، أثبت البتكوين كفاءة عالية في الأداء من ناحية، والالتزام بهذه المعادلة من ناحية أخرى، ما جعله مع الوقت يكتسب زخماً وقبولاً من المستثمرين وعموم الناس على حد سواء. ذكرت بلومبرغ نقلاً عن Fidelity للأبحاث أن ثُلث المؤسسات الاستثمارية الكبيرة تمتلك أصولاً رقمية. هذا يدل على قدرة البتكوين على جذب أنظار المستثمرين فضلاً عن الأفراد العاديين. ومع ذلك يظل الاستثمار في البتكوين والأصول الرقمية عالي المخاطر.
ما هو مستقبل البتكوين؟
كل ما سبق يزيد الطلب على هذه العملة الجديدة ما يجعلها في حالة تقلب لا يستقيم معها الاستخدام العادي للعملات كوسيط للتبادل. إذ كيف يمكن استخدامها في عمليات البيع والشراء وهي على هذا القدر من التذبذب؟
أولاً: طالما لم يتم الانتشار الواسع لهذه العملة فسيظل هذا التذبذب قائمًا، لأنه بمرور الوقت وانتشار الوعي بالبتكوين سيدخل أعداد جديدة من عموم الناس والمستثمرين في شريحة المستخدمين، فيزيد الطلب ويحدث التذبذب بالصعود السعري، لأن المعروض من العملة محدود العدد. ثم يحدث الهبوط؛ لأن عملية الصعود يصاحبها دعايات ودعوات لتحقيق الثراء السريع، فيتم المضاربة عليه فيصعد لأرقام كبيرة لا يماثلها احتياج واقعي على الأرض. وهذا ما يجعل البتكوين أداة استثمارية كأصل رقمي مثل الذهب على المدى الطويل. وكذلك أداة للتداول مثل أسهم البورصة على المدى المتوسط والقصير.
لن يقل هذا التذبذب إلا في حالة الانتشار العام أو القبول العام للبتكوين من الشرائح التي ستستخدمه. عندها سيخضع لقانون العرض والطلب مثل أي أصل عالي القيمة معروف يتم التداول عليه الآن.
ثانياً: إلى أن يتم هذا الانتشار الواسع، والذي سيأخذ سنوات، هناك حلول يمكن من خلالها استخدام البتكوين كعملة مستقرة نسبياً لعمليات البيع والشراء، كما تفعل الآن شبكة Rootstock (RSK). تقوم الفكرة على إصدار ما يسمى Stablecoins أو عملات مستقرة بغطاء من البتكوين، بحيث يمكن للأفراد التي تحتفظ ببتكوين أن تُصدِر من ثلث إلى نصف الكمية من البتكوين في شكل عملة محلية مثل الدولار أو الجنيه.
كمثال: إذا كان لديك واحد بتكوين وقيمته اليوم 30 ألف دولار، وأنت تريد استخدام ما لديك في عمليات بيع وشراء، فيمكن عن طريق RSK وضع البتكوين في خزينة إلكترونية وإصدار ما قيمته من 10 إلى 15 آلاف دولار إلكترونياً. يمكنك استخدام هذه الدولارات إلكترونياً أو تحويلهم لعملات ورقية واستخدامهم بشكل تقليدي. وإذا أردت استرداد البتكوين الخاص بك عليك إرجاع القيمة الدولارية التي سحبتها سابقاً لاسترداده مرة أخرى، مقابل رسوم بسيطة تأخذها شبكة RSK.
هذه الحلول قيد التطوير الآن، وهي ليست عملية سهلة، وبها كثير من التحديات وتحتاج إلى وقت لانتشارها. لكنها ممكنة وعملية التطوير فيها تتم في اتجاهات كثيرة ومن شبكات بلوكتشين مختلفة.
يعتبر البتكوين أول محاولة ناجحة في تاريخ الدولة الحديثة لإصدار عملة لا تخضع سياستها لسلطة الدولة. وفي ظل هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي يتحرك البتكوين بخطى ثابتة نحو إنشاء نظام مالي عالمي جديد. لكن لن يتم هذا إلا بوجود فواعل تتبناه وتوجِّه عملية التطوير إلى أهداف جديدة أخفق النظام المالي العالمي في تحقيقها. وإذا لم يحدث ذلك فسيتم احتواء ظاهرة البتكوين واستخدامها كأداة استثمارية أو كمخزن للقيمة كالذهب وغيره من الأصول عالية القيمة.
البتكوين والبلوكتشين
لم يُحدث البتكوين هزة عنيفة في عالم المال فقط بل في تكنولوجيا المعلومات أيضاً. فحلم الوصول لعملة إلكترونية لم يبدأ في 2009 أو قبلها بقليل. بل بدأ قبلها بأكثر من 15 عاماً وتحديداً عام 1993 حينما قام إريك هوز Eric Hughes بإعلان "مانيفستو سايفربنك" A Cypherpunk's Manifesto، والذي دعا فيه إلى إنشاء عملة إلكترونية. وبعدها بدأت محاولات عدة كلها باءت بالفشل إلى أن جاء البتكوين.
نجاح تجربة البتكوين عملياً كان السبب فيه ابتكار "ناكاموتو" بروتوكولاً جديداً سماه Blockchain. وفيه استبدل نموذج الإنترنت المركزي التقليدي القائم على وجود خادم Server بنموذج شبكي موزع ولا مركزي Peer-to-Peer Network. هذه التقنية الجديدة مكّنت من تطوير تطبيقات في مجالات مختلفة لم يكن للإنترنت التقليدي القدرة على القيام بها. تعدت هذه التطبيقات عالم المال إلى الحوكمة الإدارية والطاقة وسلاسل الإمداد Supply Chain وغيرها.
ينتظر البلوكتشين نفس المصير والمستقبل الذي ينتظر البتكوين، من حيث قدرة الفواعل على تطويره وتعزيز قدرات المجتمع، وذلك عن طريق تطوير تطبيقات لا مركزية تخدمه، بعيداً عن التكتلات الرأسمالية الشافطة لقدرات المجتمع على الإبداع، أو احتواء هذه التقنية كنموذج إبداع تكنولوجي جديد يخدم النخبة بالقدر الذي يبعد به عن المجتمع وقواه الفاعلة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.