في تطور لافت عقب المصالحة الخليجية، أعلن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، أن بلاده تريد "علاقات طبيعية مع تركيا"، متحدثاً عن "مؤشرات مشجعة" لتحقيق ذلك.
وقال قرقاش، في مقابلة مع قناة "سكاي نيوز عربية" نشرت مساء الأحد 10 يناير/كانون الثاني 2021: "نريد أن نقول لتركيا إننا نريد علاقات طبيعية تحترم السيادة بيننا وبينها".
وشدد الوزير الإماراتي: "لا يوجد لدينا أي سبب لكي نختلف مع تركيا، فلا توجد مشكلة. ونرى اليوم أن المؤشرات التركية الأخيرة مثل الانفتاح مع أوروبا مشجعة".
ولكنه استدرك قائلاً: "نريد لأنقرة ألا تكون الداعم الأساسي للإخوان المسلمين. نريد لأنقرة أن تعيد البوصلة في علاقاتها العربية".
وجاءت هذه التصريحات بعد تصريحات مشابهة لقرقاش، خلال مؤتمر صحفي عُقد يوم 7 يناير/كانون الثاني، قال فيها إن بلاده تُعتبر "الشريك الأساسي رقم واحد" لتركيا في الشرق الأوسط، مبيناً أن الإمارات "لا تعتز بأي عداء" مع أنقرة.
وتشهد العلاقات بين الإمارات وتركيا توتراً على خلفية قضايا عدة، بينها الأزمات في سوريا واليمن وخاصةً ليبيا، حيث تدعم أنقرة حكومة الوفاق الوطني ورئيسها فايز السراج، بينما تؤيد أبوظبي "الجيش الوطني الليبي" بقيادة خليفة حفتر.
كما يعود التوتر بين البلدين إلى قضية علاقات الحكومة التركية مع جماعة "الإخوان المسلمين" التي تعاديها السلطات الإماراتية.
الأكثر عداءً
وتكتسب هذه التصريحات أهمية خاصة، بالنظر إلى أن أبوظبي الطرف الأكثر نشاطاً في ممارساته ضد تركيا بين المحور الثلاثي: مصر والسعودية والإمارات.
وبدا أن عداء الإمارات لتركيا والإسلاميين هو دافع سعي أبوظبي لمناوئة تركيا في كل مكان، فإضافة إلى الدعم الإماراتي لحفتر في مواجهة حكومة الوفاق المدعومة من تركيا وقطر، فإن الإمارات شاركت في مناورات جوية مع اليونان وفرنسا في ذروة التوتر بين أثينا وباريس وأنقرة.
كما شاركت الإمارات في إصدار بيان وزاري في مايو/أيار 2020 مع مصر وقبرص واليونان وفرنسا، انتقد أنشطة تركيا بالبحر المتوسط، وهو ما بدا أمراً لافتاً بالنظر إلى أن الإمارات هي الدولة الوحيدة الموقعة على البيان التي ليست مطلة على حوض البحر المتوسط؛ بل هي بعيدة عنه كل البعد.
بل وصل الأمر بالإمارات إلى الخروج على الثوابت العربية، لاسيما الخليجية، بدعم الرئيس السوري بشار الأسد الذي قام بتهجير ديمغرافي لسُنة سوريا، إضافة إلى كونه تابعاً في المحور الذي تقوده إيران التي تحتل الجزر الإماراتية الثلاث.
وفي أبريل/نيسان 2020، كشف تقرير للصحفي البريطاني الراحل ديفيد هيرست، نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، أن الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، اتصل بالرئيس السوري بشار الأسد، ليعرض عليه رشوة بقيمة 3 مليارات "إذا حطم وقف إطلاق النار في إدلب" الذي تم توصل إليه بين كل من روسيا وتركيا".
أغضبت هذه الرشوة روسيا والولايات المتحدة على السواء (لأسباب مختلفة)، واضطرت الإمارات إلى تبرير الاتصال بأنه جاء لدعم سوريا في مواجهة فيروس كورونا، في وقت تقول فيه دمشق إن انتشار المرض بأراضيها محدود في ذلك الوقت.
وأظهرت هذه الخطوة أن الإمارات الدولة الأكثر عرضة لتهديدات طهران، لا تتجاهل فقط احتلال الإيراني جزرها؛ بل العمليات العسكرية الإيرانية الاستخباراتية التي نُفذت ضد أهداف إماراتية، لتركز على مناوئة تركيا في مناطق بعيدة تماماً عن الاهتمامات التقليدية للدولة الخليجية.
وإضافة إلى الخصومة السياسية والعسكرية (التي وقعت بين حلفاء الجانبين)، فقد تبادل الطرفان السجال مراراً.
لماذا هذا التغيير في المواقف الإماراتية؟
تتزامن هذه التصريحات الميالة إلى التهدئة مع المصالحة الخليجية التي أدت إلى تفكيك الحصار على قطر بعد مشاركة أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في قمة العُلا بشمال غربي المملكة العربية السعودية، والاستقبال الحافل الذي حظي به من قبل ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان.
وعُقدت هذه المصالحة بدفع من إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، لأسباب عدة، منها توحيد الصف الخليجي في مواجهة إيران.
ولكن من الواضح أن السعودية هي الأكثر حماسة ودفعاً لهذه المصالحة، خاصةً أنه كان هناك تقارب تركي قطري مع السعودية بدأ قبل الحصار الذي فُرض في يونيو/حزيران 2017.
ويُعتقد أن الإمارات -والقاهرة بصورة أقل- لعبت دوراً، في التحول السعودي الذي أدى إلى هذا الحصار، ويبدو أن ما يحدث الآن هو العكس، إذ إن الرياض هي القوة الدافعة إلى المصالحة، مع قطر، وهو أمر قد ينطبق أيضاً على التهدئة الإماراتية الأخيرة مع تركيا، خاصةً أنه حتى قبل المصالحة مع قطر فإن العلاقات السعودية التركية شهدت انفراجة تبدَّت في الاتصال بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مؤشر على رغبة المملكة في إنهاء التوتر مع تركيا.
وإن كان لا يمكن استبعاد تأثير المصالحة الخليجية والدفع السعودي لها على التهدئة الإماراتية الأخيرة مع تركيا، فإنه لا يمكن التقليل من تأثير دينامية المواجهة بين أنقرة وأبوظبي على التوجه الإماراتي.
فقد وصل الأمر في ذروة التوتر بين البلدين، إلى أن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، وهو شخصية عسكرية بالأساس، توعَّد بـ"محاسبة" الإمارات "لما ارتكبته من أعمال ضارة" في ليبيا وسوريا، حسب وصفه.
كما أنه ميدانياً، فإن التدخلات الإماراتية في إدلب لم تؤتِ أكلها؛ بل العكس أحرجت أبوظبي مع حليفها الأمريكي وصديقها الروسي، فيما ترسخت التفاهمات التركية الروسية في شمال سوريا أكثر من أي وقت مضى، بعد تلقي نظام الأسد هزيمة في إدلب دفعت الرئيس الروسي إلى التوصل لتفاهم مع نظيره التركي؛ تجنباً لتدمير جيش النظام السوري.
وفي ليبيا، كانت الإمارات منخرطة بشكل كبير في دعم العمل العسكري، لدرجة امتلاك قاعدة والإشراف على الأداء العسكري للجنرال حفتر، إضافة إلى تنفيذ هجمات جوية أحياناً لصالحه، وتهريب السلاح له وصولاً إلى تسيير أبوظبي مباشرة لطائرات من دون طيار لتنفيذ هجمات عسكرية على قوات الوفاق.
ولكن النتيجة كانت هزيمة حفتر على أبواب طرابلس وتحوُّل قوات حكومة الوفاق من الدفاع إلى الهجوم، ومطاردة قواته إلى تخوم سرت؛ الأمر الذي دفع مصر إلى التلويح بأن الخط بين سرت والجفرة خط أحمر؛ خوفاً من انهيار قوات حفتر.
ويبدو أن القاهرة، حليفة أبوظبي الأقرب، التي لم تكن راضية أو مستبشرة خيراً بهجوم حفتر على طرابلس، والذي جاء بدفع إماراتي، بدأت تنأى بنفسها عن الجنرال بعد فشله عسكرياً، فيما تعلي من شأن رئيس مجلس نواب طبرق، عقيلة صالح، إضافة إلى الانفتاح على حكومة الوفاق لدرجة قيام وفد حكومي مصري رفيع المستوى بزيارة إلى طرابلس لأول مرة منذ سنوات.
تشير هذه الأحداث إلى عدم نجاح مشروع الإمارات في محاربة حلفاء تركيا على الأرض وتدميرهم وإقصائهم، كما كانت تريد.
بل العكس تحسَّن الموقف النسبي لأنقرة وحلفائها على الأرض في منطقة الشرق الأوسط (وضمن ذلك أذربيجان)، مقارنة بوضعهم عند نهاية الربيع العربي الذي ناصبته الإمارات العداء.
لا يعني ذلك انتصار الربيع العربي أو أن احتمال عودته قريب.
وقد يكون ذلك سبباً من أسباب التهدئة الإماراتية، فاحتمالات الديمقراطية أو عودة الإسلام السياسي للسلطة باتت بعيدة في مواطن الربيع العربي، والنزاع المترتب على هذه المخاوف الإماراتية والمصرية بهذا الشأن أنهكت المحورين، والمستفيد الوحيد منها إيران.
فالتطورات العسكرية والسياسية المتسارعة في الشرق الأوسط تفيد بأن أياً من المحورين لم يحسم الانتصار، ولكن المحور التركي القطري وحلفاءه قد حجزوا طاولة في التفاوض حول مصير قضايا المنطقة، ووضعهم أصبح أقوى من حالهم في مرحلة نهاية الربيع العربي.
والأهم أن هذه التطورات تثبت أن استمرار التصعيد والتوتر لم يعد يجني الثمار ذاتها للإمارات.
ومع سعى تركيا إلى التفاوض حول القضايا الخلافية مع منافسيها بعد أن قوَّت موقفها وموقف حلفائها سواء في قضايا مثل الخلاف مع اليونان ومصر وليبيا، يبدو أن الإمارات تريد أن تحجز مقعداً على الطاولة لإعادة ترتيب المنطقة بعدما فشل الرهان على الحرب .