نشرت وكالة Bloomberg الأمريكية مقالاً للكاتب الصحفي ديفيد فيكلنغ يتحدث فيه عن مآلات أوضاع سوق النفط والخيارات التي لدى المملكة العربية السعودية لمواجهة خطط دول العالم التي ترمي إلى خفض انبعاثات الاحتباس الحراري إلى المستوى صفر، وهو ما سوف يؤثر على سوق النفط تدريجياً، وعلى رأسه الرياض.
وقال فيكلنغ إن القرار الذي اتخذته السعودية في الأسبوع الماضي بخفض مفاجئ في الإنتاج اليومي من خام النفط بمليون برميل يومياً، تسبب في مفاجأة لسوق النفط.
وبحسب المقال فمن خلال التخلي عن سياسة المسؤولية الجماعية وترك الأعضاء الآخرين في مجموعة أوبك بلس يزيدون الإنتاج، وفي الوقت ذاته خفض إنتاجها من النفط، تحملت السعودية على عاتقها كامل العبء للموازنة بين الطلب والعرض. ولمّا كانت خطوة السعودية تعني تعطيل إنتاج آبارها النفطية، فإنها تقدم فرصةً على حسابها إلى أصدقائها المنافسين، مثل روسيا (وكذلك أعدائها، مثل إيران)، لتعزيز حصتهم السوقية.
وبحسب المقال يفتقر هذا القرار إلى المنطق إذا فكرنا في سياسة السعودية من منطلق المعاوضة التقليدية بين تعزيز إيرادات النفط أو الحصة السوقية. غير أن هذه الصيغة ينبغي النظر إليها نظرةً حريصةً في كل الأحوال، وذلك حسبما قال فيكلنغ، الذي أشار إلى أن الرياض في المستقبل المنظور سوف تسعد دائماً بالتضحية بحصة السوق ما دامت قادرةً على دعم الإيرادات. ومع الانطلاق السريع للطلب على الخام، الذي يتجه نحو انخفاض نهائي، فقد تتمكن الرياض من خفض الإنتاج دون أن تفقد وضعها.
البحث عن توازن السعر
وبحسب المقال، تبدو المعضلة التقليدية أن السعودية عندما تنتج مزيداً من النفط، فإنها تزيد حصتها السوقية. بيد أن زيادة العرض تؤثر تأثيراً شديداً على أسعار النفط، لدرجة أن الإيرادات ينتهي بها الحال بالانهيار بدلاً من أن تزيد. وعلى الجانب الآخر، يمكن لخفض الإنتاج والحصة السوقية أن يؤدي، على النقيض مما سبق، إلى زيادة الإيرادات؛ نظراً إلى أن العرض غير المرن يرفع سعر البرميل.
ومع هذا ثمة مشكلة تحيط بهذه الرؤية، وتتمثل في أن كلفة التضحية بالإيرادات تكون آنية وملموسة. أما الثمار التي تجنيها السعودية من التخلي عن الحصة السوقية، فسوف تكون طويلة المدى ومنتشرة غير مكثفة. وذلك الأمر سيجعل الاحتمالات غير مواتية بالنسبة لسياسة الإنتاج حسب الرغبة.
نظر الباحثان لدى معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة، بسام فتوح وأندرياس إيكونومو، هذا السيناريو في دراسة تعود لعام 2019. ففي حالة استقرار الطلب على النفط في 2021 ودخوله في حالة تراجع دائم مع الوصول إلى عام 2024، فإن سياسة زيادة الإنتاج سوف ترفع حصة السعودية إلى حوالي 14%. لكن إيرادات النفط يمكن أن تتراجع بأكثر من نصف، لتهبط من 230 مليار دولار في 2019 وصولاً إلى 92 مليار دولار في 2024.
يصعب المبالغة في التشديد على مدى الدمار الذي قد ينتج عن هذا. إذ إن المرة الأخيرة التي انخفضت فيها الإيرادات النفطية السنوية للرياض لأقل من 100 مليار دولار، كانت في عام 2004، عندما كان سكان المملكة أقل بالثلث من عدد السكان الحالي. وإدخال خفض على الإنفاق الحكومي، الذي يعتمد اعتماداً هائلاً على إيرادات النفط الخام، يمكن أن يكون خفضاً جذرياً يهدد رفاهية الحياة ورغد المعيشة والإنفاق الأمني الذي أنتج حالة من التوفيق والمصالحة بين سكان المملكة والحكم الاستبدادي على مدى عقود. تستطيع أغلب الحكومات سد الانخفاض المفاجئ في الإيرادات، الذي يحدث لمرة واحدة، عن طريق رفع الدين. لكن أي بلد يواجه انخفاضاً نهائياً في منتجه الأساسي الوحيد ربما يستطيع فقط أن يقترض المال الكافي عن طريق رسم مسار موثوق لتحقيق استدامة قدرة الميزانية على استيعاب بنود التكاليف على المدى الطويل.
الاستراتيجية البديلة
وهنا يتضح دور الاستراتيجية البديلة، فإذا تراجعت المملكة بدلاً من زيادة إنتاجها النفطي، يمكن أن تقدر على المحافظة على إيراداتها في حدود 225 مليار دولار وصولاً إلى 2024، وذلك حسبما يرى فتوح وإيكونومو. فيما قال فيكلنغ إن الحصة السوقية يمكن أن تتراجع، ولكن نظراً إلى أن الطلب على النفط في العموم يكاد يتوقف، فربما تقتصر النتيجة على تراجع بسيط نسبياً في حصتها من السوق، لتصل إلى 11% بعد أن كانت 12%.
وبقول هذا يصعب تخيل أن الرياض قد تفضل الحصة السوقية على حساب الإيرادات. تساعد هيمنتها على إنتاج خام النفط (ولا سيما في الصادرات)، في ضمان قيادة المملكة لمنظمة أوبك. وتساعد كذلك في ردع المنافسين المحتملين من خارج مجموعة الدول المصدرة للنفط، عن طريق منح السعودية الثقل والقوة اللازمين لسحق أي منافسين محتملين، وذلك من خلال نفض الغبار عن آبارها المتوقفة وتشغيل عجلة الإنتاج. قدم منتجو النفط الصخري الأمريكيون برهاناً قاسياً على ذلك، عندما أدت حرب أسعار النفط الخاطفة في العام الماضي إلى خفض سعر خام غرب تكساس الوسيط لسالب 40.32 دولار للبرميل.
سلاح الرياض الأهم
ويرى فيكلنغ أنه في الوقت ذاته ليس السلاح الأكثر أهمية في ترسانة النفط السعودية حصتها السوقية، بل القدرة الاحتياطية التي تكفلها لها احتياطاتها النفطية، التي يمكنها تشغيلها أو تحييدها حسب رغبتها، سواء كانت ترغب في سحق سوق النفط أو تعزيزه. وهذا هو ما يتيح للرياض فرض الانضباط على أعضاء منظمة أوبك وردع المنافسين من خارج المجموعة، فضلاً عن أن قوة هذا السلاح تتعاظم في كل مرة تخفض فيها المملكة إنتاجها إلى مستوى أدنى من طاقتها الاستيعابية.
وحتى مع كل هذا يجب تقديم شيء ما في المقابل. إذ إن القدرة الاحتياطية ليست بطاقة مجانية للخروج من الأزمة. ينخفض الإنتاج من حقول النفط الحالية بنسبة 5% كل عام، لذا فإن الإبقاء على بضعة ملايين برميل احتياطي بدلاً من السماح بتقلص الطاقة الإنتاجية تقلصاً طبيعياً، ينطوي على مستويات ضخمة من الإنفاق الرأسمالي مع احتمالات قليلة بوجود عوائد.
ويسلط المقال الضوء على أن المرة الأخيرة التي حاولت فيها السعودية أن تخطو وحدها لموازنة انحدار سوق النفط في مطلع الثمانينيات، وجدت نفسها محاصرة في حلقة مفرغة من زيادة مستويات الخفض لتعويض زيادة المعروض من النفط من جانب المنتجين الأقل انضباطاً. وانخفض الإنتاج في نهاية المطاف بين عامي 1981 و1985 بثلثي مستوى إنتاجها، ودخلت البلاد في وضع ركود لمدة 4 سنوات، بينما كانت إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية تعزز إنتاجها. وعندما أغرقت الرياض في النهاية السوق في عام 1985، أسهمت حرب الأسعار في نهاية الأمر بدور في نتائج حرب الخليج الأولى وانهيار الاتحاد السوفييتي.
أما هذه المرة فإن المخاطر أعلى، بحسب رأي الكاتب. فعلى عكس ما حدث في ثمانينيات القرن الماضي، لا يواجه إنتاج النفط انخفاضاً مؤقتاً، بل يواجه انخفاضاً دائماً نظراً إلى أن العالم يتوجه نحو مستوى انبعاثات كربونية صفري. وإذا لم تتحلَّ السعودية بالحرص في استخدام البدائل التي في جعبتها، فإن تداعيات محاولة موازنة سوق النفط في عشرينيات القرن الحالي قد تكون أشد وطأة بكثير.